=KTML_Bold=أحمد يوسف: عندما يُخفي التّاريخُ مَعالِم الهُويّة=KTML_End=
كورداونلاين
فمازالت المعارضة المتمثّلة بالمجلس السوري وهي لمّا تستلم السلطة بعد تنكر حقوق الشعب الكردستاني في غربي كردستان وسوريا في تصريحات لم تختلف كثيراً عن إنكار سلطة البعث نفسها
إذا كان التاريخ هو ذكرٌ طاغٍ ومستبدّ, فإنّ الجغرافيا هي أنثى مغتصَبة, وإذا كان التاريخ مخادعٌ متحوّل فإنّ الجغرافيا أمٌّ ثابتة تفتح ذراعيها لأبنائها على الدوام, فليس ثمّة شيء أبقى من المكان وكلّ ما عداه وهمٌ. للأمكنة دروبٌ تقودك إلى فجر الأزمنة وما من زمان إلّا ويقودك صوب الخديعة. ونحن الكرد لنا محنتنا في إدراك هذه الحقيقة, نستكين لظلم التاريخ ونتماهى معه ونعشقه أيضاً, نفتخر بأنّ التاريخ ظلمنا, ونشعر بالحرج عند الحديث عن جغرافيا سُلبت بمخالب ذاك التاريخ, يستهوينا أسر التاريخ لنا, ونكره الانعتاق من سطوته وجبروته لأن ما زرعه التاريخ فينا واقعٌ, والجغرافيا حلم.
إنّ التاريخ عندما يطمس معالم الجغرافيا فإنّ ذلك يعني طمساً للهويّة, لأن الجغرافيا ليست نقوشاً أو رسومات أو وهماً مصنوعاً في الأخيلة, وليست مخيالاً متعلّقاً بالاعتقاد, وإنّما حقيقة لا يمكن تجاوزها خاصّة في علاقتها مع تشكّل مفهوم الهوية لدى أيّة منظومة مجتمعيّة, لذا فإنّ البقاء أسرى لتاريخ مقيت بدافع الركون للواقع, ما هو إلّا تجاوز للهويّة كونها جوهرٌ ثابتٌ نسبيّاً – قد تتعرّض بعض مكوّناتها للتغيير مثل التقاليد والقيم وبعض أنماط التفكير - فالتاريخ الذي تمّت صياغته دون إرادة الشعب ليس قدَراً ثابتاً كما المكان والهويّة, وإذا كان كذلك فالأجدى الأخذ بالتاريخ الحقيقي الذي يصنعه الشعب والمرتبط بوعيه الجمعي الذي هو أساسٌ وركنٌ من أركان نشأة الهويّة وتمايزها, وإنّ إلغاء الجغرافيا من العناصر المشكّلة لهويّة ما بدعوى أنّ التاريخ بزيفه فرض واقعاً جغرافيّاً مغايراً وعلينا التسليم به, إنّ هذا لتغريبٌ للهويّة وسلبها التمايز الذي اكتسبته من التقاء عناصر عديدة أهمّها اللّغة والثقافة بالإضافة إلى الجغرافيا والتاريخ ووعيهما.
إنّ هذا الكلام يأتي في سياق اللغط والتهافت والمزاودة على قضيّة الشعب الكردي ( الكردستاني) عموماً, وقضيّة الشعب الكردستاني في غربي كردستان – أي الجزء الواقع في سوريا - خصوصاً, والاجتهاد في فصل قضية الكرد في سوريا عن الأرض وعدّها قضيّة حقوق مواطنة ولغة فقط, والنأي بها والتغاضي عنها كقضية هويّة ووجود وكيان وجغرافيا, والحال هذه تشبه قضية الفلسطينيّين, فهل يمكن عدّ القضية الفلسطينيّة على أنّها قضيّة مواطنة وحقوق ثقافية في إطار دولة إسرائيل العبريّة؟ وهل كفاح الفلسطينيّين هو كفاح من أجل نيل الهوية الاسرائيليّة؟ بالطبع إن من يقول هذا يتجنّى كلّ التجنّي على حقوق الشعب الفلسطيني, فقضيتهم هي قضيّة أرض وشعب, إذن هي قضيّة هويّة تمّ سلبها, ومن هنا فإن القراءة الخاطئة للتاريخ وحصره بالمئة سنة الأخيرة وما أفرزتها من تشويه وتحريف لمفهومي الهوية والانتماء بحكم خلقه لواقع جغرافيّ جديد يجعل من التاريخ الذي هو متحوّل وهماً وما الثبات إلّا للجغرافيا. قد يُفهَم من هذا الكلام دعوة لما نُتَّهم به على الدوام, ولكن القصد من وراء هذا هو أنّه لا يحقّ لأحد أن يفرض على الآخر هويّة لن يتآلف معها أو يلبسه انتماءًا غير ما هو يشعر بأنه منتمٍ إليه, فحرّية الانتماء ليست حديثاً مختلقاً ابتدعه الكرد ولا هي آية مزيّفة هبطت كوحي عليهم, بل هي طبيعة بشريّة عامّة رافقت البشر منذ بشائر الوجود الأولى.
إذا كانت الهوية العربية يتمّ تعريفها على أنّها هوية الانسان الموجود على أرض عربيّة, والهويّة التركية هي هويّة كل من ينتمي إلى تركيّا الأرض, والهويّة الفارسيّة هي هويّة كل الإيرانيّين, فكيف يتمّ تعريف الهويّة الكرديّة بمعزل عن الحيّز المكاني؟ فهل يمكن فصل الزمان بتحوّلاته عن المكان بثباته؟ وهل يمكن فصل اللغة عن المكان؟ وهل يمكن عزل الثقافة عن الجغرافيا التي نشات فيها؟ أين إذن تشكّلت معالم الهويّة الكرديّة كهويّة ثقافيّة وكهويّة أجتماعيّة - ولن أقول هويّة قوميّة كي لا نُتّهم بالتطرّف -؟ هل تشكّلت في الفراغ؟ ألم تكن ثمّة جغرافيا عليها نسج الكرد هويّتهم وكلّ حكاياتهم؟ قد يأتي من يلعب على وتر التسميات والمصطلحات ليقول: في أيّ تاريخ كانت هناك جغرافيا اسمها كردستان؟ لأقول: إنّ سوريا لم تكن بهذا الاسم قبل الحرب الكونيّة الأولى وأفغانستان كان اسمها آريانا ثمّ سمّاها المسلمون خراسان وقبل مئتي عام فقط أصبحت أفغانستان, أي هذا لا يعني مطلقاً أنّه لم يكن ثمّة أفغان قبل مئتي عام, إنّ اسم كردستان كان موجوداً على أقلّ تقدير منذ عهد السلاجقة, وكان ثمّة جغرافيا يقطنها الكرد منذ اقدم العصور.
كلّنا سوريّون هكذا يقولون عندما تقع الواقعة, يجوز لهم التبرّك بسواد بني العباس الموجود في العلم العربي السوري, وهي لجريمة كبرى وتطرّفٌ وانفصاليّة حين يحمل الكرديّ علمه ويرفعه عالياً ليعانق وجه الشمس, كلّنا سوريّون ولكن لزامٌ عليّ أن أردّد ( عرين العروبة بيت حرام ) و ( لم لا نسود ولم لا نشيد ). تخلّى إذن عن عروبيّتك إن كنت سوريّ الهويّة, حينها يحقّ لك مطالبتي بالتخلّي عن كرديّيتي لصالح الهويّة السوريّة. ثمّ ينغّمون على وتر آخر ويقولون ( كلّنا مسلمون ) ليعيدوا الكردي إلى الحظيرة الأولى وهذا ما لن يتمّ مع كردستانيّي القرن الواحد والعشرين.
ثمّة نقاط أخرى يجب تبيانها : إنّ فقر الوعي الأخلاقي في العالم العربي الإسلامي- أمين معلوف - وسطوة الفكر الأحادي الشمولي والعقلية الذكوريّة وضعه - أي العالم العربي الإسلامي - أمام امتحانٍ صعبٍ من جهة عجزه عن استيعاب حقوق الآخر المختلف المتمايز عنه, في الوقت الذي يتباكى فيه أمام العالم بأنّ اليهود يضطهدونهم والأميركان يسلبون حقوقهم والغرب يتآمر عليهم, والحال هذه تنطبق على كلا من الأنظمة والمعارضات على حدّ سواء, وهذا الامتحان شهدناه إبّان بعض الثورات في العالم العربي, فالأمازيغ في ليبيا وتونس ما زالت تهمة المؤامرة ملتصقة بهم, وكذلك في سوريا فمازالت المعارضة المتمثّلة بالمجلس السوري وهي لمّا تستلم السلطة بعد تنكر حقوق الشعب الكردستاني في غربي كردستان وسوريا في تصريحات لم تختلف كثيراً عن إنكار سلطة البعث نفسها.
ما أحوجنا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى إلى ثقافة قبول الآخر, إلى ثقافة احترام حقوق الآخر, والتخلّص من ذهنيّة الشكّ والارتياب من شركاء التاريخ والجغرافيا وجعلِ تلك الذهنيّة طيّ النسيان, إذ لا يمكن لأحدٍ أن يحمل قطعة أرضه في جعبته ويرحل عن الآخر, هذا هو قدر كلّ البشر على هذه الأرض, والحقد الأصفر لن يجلب إلّا مزيداً من الفواجع والملّمات, وفي النهاية لا التاريخ أبقى ولا الجغرافيا, وما من قدسيّة تعلو على قدسيّة الانسان الذي هو غاية الوجود وجوهره, ولا معنى للوجود بدونه. لقد آن الأوان أن يسلب الإنسان من الهويّات أدواتها القاتلة بحكم انتماء كلّ البشر إلى هويّة واحدة هي الهويّة الإنسانيّة.
[1]