خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
استبق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو نتائج الاستفتاء المزمع إجراؤه في إقليم كردستان العراقي ليعلن في 12 سبتمبر الجاري (2017) عن تأييده لاستقلال الإقليم، فيما اعتبر #حزب العمال الكردستاني# جماعة إرهابية.... تصريح ناتانياهو بتأييده إنشاء دولة كردية ليس بالأمر الجديد، فقد سبق له، ولعديد من القيادات،الإسرائيلية، إطلاق تصريحات مشابهة في يونيو عام 2014، وكرر نفس التصريحات بعدها بأيام قليلة شيمون بيرتس (رئيس إسرائيل وقتذاك). ربما يكون الجديد في تصريحات ناتانياهو هو تأكيده على اعتبار حزب العمال الكردستاني، الذي يقاتل النظام التركي ويسعي بدوره لاستقلال جنوب شرق تركيا، جماعة إرهابية. والواضح أن ناتانياهو يحاول عدم استفزاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي أعلن رفضه للاستفتاء في الإقليم الكردي في العراق.
لكن يبقي السؤال المهم: ما الذي ستكسبه إسرائيل من خطوة تراها أغلب القوى الإقليمية والدولية بمثابة تهديد خطير لمنطقة تمر أصلا ومنذ سنوات بحالة عدم استقرار، وتواجه تحديات الحروب الأهلية وتوغل التنظيمات الإرهابية بها؟
لا تستقيم الإجابة على هذا السؤال بدون العودة إلى سنوات بعيدة سبقت قيام دولة إسرائيل وشهدت البدايات الأولى للعلاقات الحالية في صورة اهتمام متبادل بين حركة التحرر الكردستاني وبين الحركة الصهيونية.
أزمة الشرعية الصهيونية - الإسرائيلية
منذ انطلاق الحركة الصهيونية عام 1897 وزعمها أنها تمثل التطلعات القومية للشعب اليهودي، واجهت تساؤلات جوهرية حول طبيعة الدولة القومية، ومدى انطباقها على طائفة دينية وليس شعبًا بالمفهومين العرقي والقومي حتي يمكن قبول الحركة الصهيونية كحركة تحرر قومي لليهود؟ وبعد صدور وعد بلفور عام 1917 ظهر تساؤل آخر حول مدى شرعية منح اليهود وطنًا قوميًا لهم في فلسطين دون اعتبار لحقوق الشعب الذي كان يعيش فيها آنذاك، وكيف يمكن زرع وطن لغرباء ثقافيًا عن المنطقة داخلها دون أن يرتب ذلك صراعًا اجتماعيًا ممتدًا يصعب حله مستقبلا؟ كلا السؤالين فرض على قادة الحركة الصهيونية البحث عن نماذج يمكن القياس عليها، والتي لم تحل، كونها نماذج تأسست على مبدأ ديني أو على حق تاريخي، دون اعتبارها نواة لدولة قومية. لأجل ذلك كان على الحركة الصهيونية أن تثبت أولا أن حق تحقيق المصير لكل شعب يتحقق في أرض معينة، وفِي دولة واحدة وواحدة فقط. وحيث إن الحركة القومية العربية قد أنشأت الدولة العربية ليس في قطر واحد بل في عدة أقطار منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة عام 1924(العراق والأردن تحت الانتداب البريطاني، وسوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي) فإن اليهود الذين ارتبطوا بهذه المنطقة تاريخيًا وصاروا شعبًا أكثر من كونهم طائفة دينية يحق لهم بدورهم تحقيق وجودهم القومي في الوطن الذي وعدت به بريطانيا عام 1917- أي فلسطين، دون أن يخل ذلك على الإطلاق بالحق القومي للعرب في دولهم العديدة التي أنشأوها حتى لو كانت خاضعة للانتداب المؤقت.
الأمر الثاني، الذي حاججت به الحركة الصهيونية لإثبات جدارة اليهود بإنشاء دولة لهم، هو أن المنطقة التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية تقلبت بين الهويتين العربية والإسلامية، كما انضوت تحتها شعوب وقوميات أخرى مثل الأكراد والأمازيغ والسود، وبالتالي فهي منطقة غير متجانسة عرقيًا أو دينيًا حتى يمكن الدفع بأن إنشاء دولة لليهود فيها سوف يخل بتجانسها الثقافي والحضاري كما يُزعم البعض.
من هذا المنطلق النظري حاولت الحركة الصهيونية مد الجسور مع الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية في المنطقة ومن ضمنها الحركة القومية الكردية التي ولدت بصورتها المنظمة عام 1946 بعد إعلان المُلا #مصطفى البارازاني# تشكيل الحزب الديمقراطي الكردستاني. ولم يكن الأكراد يخفون إعجابهم بالحركة الصهيونية وبسعيها لإنشاء دولة لليهود؛ فقد اعتبر البارازاني أن وحدة العدو المشترك للعرب ستقرب المسافات حتمًا بين اليهود والأكراد لمواجهته.
العلاقات مع إسرائيل
على الرغم من وجود اتصالات سرية بين أكراد العراق وإسرائيل منذ عام 1948، إلا أنها لم تأخذ منحى منتظم إلا مع بداية عام 1965، حيث أصبحت العلاقات مباشرة بين قيادة الحركة وديفيد كمحي (مدير عام في وزارة الخارجية الإسرائيلية آنذاك) والذي أكد في أحد لقاءاته مع البارزاني أن إسرائيل تعد بتقديم العون العسكري والمالي للحركة الكردية من أجل تحقيق حلم الدولة في شمال العراق. وفِي عام 1971 ساعد أكراد العراق إسرائيل في عملية كبيرة لتهجير اليهود من بغداد إلى إيران عن طريق كردستان العراق؛ فقد قام بعض المهربين الكرد بدعم من قيادات كردية على مستوى عالٍ بتهجير المئات من اليهود إلى إيران لقاء مبالغ مالية كبيرة(انظر: اليهود من جديد في كردستان العراق، تقرير منشور في مجلة البيان على الرابط التالي: http://www.albayan.co.uk/mobile/MGZarticle، سبتمبر 2016).
وعلاوة على أن دعم إسرائيل للأكراد في سعيهم لإنشاء دولتهم المستقلة يخدم نفس الأهداف التي سعت إليها الحركة الصهيونية، والتي تعطي المشروعية لوجود دول غير عربية أوغير إسلامية في الجوار الإقليمي لإسرائيل، فإن استغلال إسرائيل للأكراد ودعم تمرداتهم ضد الأنظمة التي يعيشون في ظل حكمها (العراق، سوريا، إيران - بعد عام 1979) والتي تناصب إسرائيل العداء، كان أمرًا منطقيًا في إطار سياسة إسرائيل الهادفة إلى تفتيت الدول التي تشكل خطرًا عليها عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا. كما يمكن لإسرائيل أن تضغط على العديد من الدول المناوئة لها عبر استنزافها في حروب مع التمردات الكردية وعلى الأخص إيران التي يتسع نفوذها حاليا في العراق. أما تركيا فإن إسرائيل لا تريد أن تخسرها حتى الآن على الأقل، رغم ما يلوح في الأفق من إصرار من جانب أنقرة على التقارب مع إيران وروسيا. إذ يأمل ناتانياهو بتصريحه أن إسرائيل تعتبر حزب العمال الكردستاني الناشط عسكريا ضد الحكم التركي، منظمة إرهابية، أن تحذو تركيا بدورها لاعتبار حركة حماس منظمة إرهابية (ذكر ناتانياهو ذلك صراحة في أكثر من مناسبة أثناء إعلانه دعمه للاستفتاء الكردي).
ومع ذلك، لا يمكن القول إن هناك ضمانات مؤكدة أن تتحول منطقة كردستان العراق إلى دولة صديقة لإسرائيل في حالة إعلان الأكراد هناك استقلالهم؛ فالخلافات الداخلية بين الأكراد كبيرة وقد تؤدي إلى وقوع حرب أهلية فيما بينهما كما حدث في تسعينيات القرن الماضي (الحرب بين قوات الاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني)، الأمر الذي قد يؤدي إلى ظهور كيانات كردية يعمل كل منها كأداة لإحدى القوى الإقليمية، مما يدخل إسرائيل في صراعات مكلفة ماديًا وعسكريًا وسياسيًا، وهو ما سبق وأن جربته عام 1978عندما اجتاحت لبنان وأقامت شريطًا حدوديًا عازلًا سيطر عليه بعض الميلشيات اللبنانية المؤيدة لإسرائيل والتي انتشرت على خلفية الحرب الأهلية التي تفجرت هناك عام 1975. لقد خرجت إسرائيل من هذه المنطقة عام 2000 بعدأن تكبدت مئات القتلي، وبعد أن انفقت ملايين الدولارات، وبعد أن واجهت أيضًا حربًا مستمرة لنزع شرعيتها بسبب احتلالها لأجزاء من الدولة اللبنانية. والأسوأ أن الحرب اللبنانية قادت إلى تمكين الشيعة اللبنانيون عبر تحول حزب الله إلى أهم جبهة لقتال إسرائيل منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم.
بمعني أكثر وضوحًا قد يكون رئيس الحكومة الإسرائيلية متفائلا أكثر مما ينبغي؛ فتأييد إسرائيل المعلن لأكراد العراق سوف يتسبب في حرج لهم لاحقا، إذ إن التوحد حول هدف الاستقلال وحول حلم إقامة الوطن الكردي الكبير لن يلبث أن يتحول إلى نزاع على كيفية تقاسم السلطة والثروة بين الحزبين الكرديين الكبيرين. ومثلما يمكن لإسرائيل أن تستثمر في أحد الطرفين فبوسع إيران أيضًا أو تركيا أن تستثمر في الطرف الآخر. ناهيك عن أنه إذا كان الأكراد مصممون على إجراء الاستفتاء في موعده بالمخالفة لإرادة العديد من القوى الدولية والإقليمية، فإنهم قد لا يبادرون بالإعلان الفوري عن دولتهم فور ظهور نتائج الاستفتاء، إذ لن يكون لهذه الخطوة أية قيمة طالما لا يمكن تأمين اعتراف دولي بها. كما أن اشتباكها في حرب مع الدولة العراقية حال إعلان الدولة قد لا يكون أمرا مستبعدا. ومن المشكوك فيه أن تصمد الدولة الكردية في مثل هذه المواجهة؛ فحتى التقارير الإسرائيلية ذاتها ترى أنه جرت عمليات تضخيم متعمد لقوة الأكراد في مواجهة داعش في سوريا والعراق، ومن ثم لا يمكن الزعم بأن هذه الدولة في حالة ولادتها بعيدًا عن الاتفاق مع العراق ستصمد في مواجهه عسكرية معها وتخرج منتصرة. وفِي كل الأحوال إما أن تجد إسرائيل نفسها مستنزفة في صراع محتمل وطويل دون أن تكسب من ظهور الدولة الكردية نظريًا وعمليًا، وإما أن تفاجئ بتغيرات في التوجهات الكردية ذاتها لا تتطابق مع الحسابات الخطية التي أجراها ناتانياهو وهو يعلن صراحة عن تأييده لاستقلال كردستان.[1]