د.محمد نورالدين
حادثة وتصريح جدّدا بقوة إماطة اللثام عن قضية عمرها من عمر الجمهورية التركية، ونقصد بها القضية الكردية.
الحادثة هي لاشك الهجوم الذي نفذه حزب العمال الكردستاني على قاعدة عسكرية للجيش التركي في منطقة خاكورك في إقليم كردستان العراق وقتل فيه، وفقاً للمصادر التركية، 12 جندياً تركياً على الأقل يومي 22 و 23 -12- 2023.
أما التصريح فهو ما نقل عن لسان تونجير باكرهان الرئيس المشارك ل “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب”، والمتمثل في البرلمان ب 57 نائباً ويعتبر الحزب الثالث لجهة عدد النواب بعد حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري.
وجاء في التصريح الذي أطلق بعد هجوم خاكورك: “ما لم تحل القضية الكردية، فلن يعرف ابن تكيرداغ (القسم الأوروبي من تركيا) ولا ابن طرابزون (على البحر الأسود) الراحة. ها هم الشبان يفقدون حياتهم”.
ومع أن هذا التصريح فسّرته الأوساط القومية التركية بأنه دعوة لاستمرار الهجمات على الجيش التركي غير أنه يحمل، كما تحمل الحادثة نفسها، الكثير من الحقائق التي لا يمكن تجاهلها.
فمنذ انهيار الدولة العثمانية عام 1918 ومن ثم بدء ما سمي “حرب التحرير الوطنية” بقيادة الضابط مصطفى كمال، ومن ثم ما تلاها من معاهدة لوزان وبدء العهد الجمهوري عام 1923، وعلى امتداد مئة عام، لا تزال “الدولة التركية” تمارس سياسة دفن الرأس في الرمال متغافلة عن رؤية الحقائق.
وعندما نقول “الدولة التركية” إنما نعني وبكل أسف كل المكونات الإيديولوجية، دون استثناءات تذكر، التي كانت تدير البلاد بعقيدة شبه واحدة، يضيق أو يتسع أفقها تبعاً للظروف والتكتيكات ليس إلا، من دون أن يغير من جوهر أن الذي يتحكم في إدارة تركيا هو “دولة عميقة” تضم العلماني والإسلامي تحت عقيدة واحدة “قومية – دينية”.
والمصطلح هنا يجب ألا يُجهّل التفاصيل. فالنزعة القومية هي تلك التركية التي تعترف بالعرق التركي سيداً وحاكماً ومواطناً من الدرجة الأولى فيما الأعراق الأخرى من كرد وعرب، عليها أن تكون، كما كان قال وزير داخلية تركيا في الثلاثينيات، عبيداً في خدمة السيد التركي.
لا أحد يشك في أن عصمت إينونو، بتوجيهات مصطفى كمال/ قد نجح في تغييب المسألة القومية من مناقشات ومقررات معاهدة لوزان ليبقي على تركيا المتعددة الأديان فقط من مسلمين ومسيحيين ويهود في تجاهل خطير لوجود “أقليات” عرقية وازنة وكبيرة.
وهذا كان في أصل ما شهدته تركيا لاحقاً من توترات وانقسامات وتمييز بخصوص الجماعة/الشعب الكردي الذي يقارب عدده سدس السكان، وهو رقم تقديري قد يكون أكبر من ذلك نظراً لأن إحصاء عدد السكان كان يتم وفق أسس دينية فقط. فيما كانت أعداد كل الفئات الأخرى تُقارَب وفقا ل “دراسات”(!) ميدانية أو من خلف المكاتب.
عدم الاعتراف بالمكوّن الكردي كان في أسباب اندلاع عدد كبير من الانتفاضات والثورات على الدولة منذ ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 وصولاً إلى انتفاضات آغري وديرسم في الثلاثينيات.
وإذا كان التذرع بما ورد في لوزان يقف خلف سياسات التمييز والقتل فإن الدول المتقدمة تبني على الرصد والملاحظة لحركة المجتمعات ما يوجب أن يقرّ من حلول وتطوير لا التذرع بوثيقة من صنع الدول الاستعمارية.
مع ذلك لم ترَ “النخب” التركية الحاكمة من تمييز ضد الكرد إلا كونه يعمل على تنقية الأمة التركية. وهو ما كان خلف الكثير من قرارات التهجير الجماعي من مناطق في شرق تركيا الى غربها ومن إحلال مجموعات تركية بدلاً منهم، وهي السياسة الاسرائيلية نفسها التي اتبعها قادة إسرائيل للتخلص من أصحاب الأرض الأصليين أي الشعب الفلسطيني من مطلع القرن العشرين وحتى العدوان الأخير على غزة من قتل وتهجير وتشريد.
لم يتعظ المسؤولون الأتراك من انتفاضات العشرينيات والثلاثينيات. فبعد إخماد ثورة ديرسم في نهاية الثلاثينيات خُيّل لهم أن المسألة انتهت. غير ان تجدد حركة الشعب الكردي في الستينيات وخصوصاً في السبعينيات وصولاً إلى تأسيس حزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان ومجموعة من رفاقه في العام 1978 كان يعني سقوط كل المقولات العنصرية التركية الهادفة إلى “إبادة” النزعة القومية الكردية.
ومن أجل عدم مواجهة الحقائق مارست تركيا سياسة الهروب إلى الأمام.
كانت المقولة التركية الراسخة أن القضية الكردية مشكلة أمنية وليست مشكلة هوية. ورأت في حركة أوجلان ورفاقه أنها مجرد أداة “إرهابية” يستخدمها الخارج لعرقلة “تطور” تركيا وتقدمها.
وهذا الخارج ليس بالضرورة هو نفسه. ففي كل مرة كانت التهم تلصق بدولة خارجية مختلفة. لا أحد يمكن ان ينفي أن الخارج، أياً يكن، يمكن أن يستفيد من أي ضعف في الجبهة الداخلية التركية او حتى يحرّض، لكن المسألة الأساس في القضية الكردية هي في الداخل التركي وفي “العقيدة” التي تحملها الدولة العميقة ونخبها من تيارات وأحزاب وقوى.
وباستثناء قوى يسارية والقوى الكردية، فإن تلك النخب تجمع الجميع ويجتمع فيها كل ما هو معاد للهويات القومية الأخرى. ولا غرو بالتالي أن القضية الكردية لم تعرف حلاً لها، ديموقراطياً، على امتداد مئة عام،على الرغم من أن كل الاتجاهات الأيديولوجية قد تعاقبت على الحكم في تركيا.
فالعلمانيون تحكموا بالبلاد من العام 1923 وحتى 1950. ومن ثم من 1960 إلى العام 2002. وتخلل ذلك فترات كانت الأحزاب ذات “الطابع الاسلامي” هي المتسيدة مثل الحزب الديموقرطي بزعامة عدنان مندريس في الخمسينيات، وحزب الوطن الأم بزعامة تورغوت أوزال في الثمانينيات.
كما أن الأحزاب الاسلامية كانت شريكة في السلطة التنفيذية في السبعينيات وفي التسعينيات. وعلى الرغم من التداول “الديموقراطي” للسلطة فإن القضية الكردية لم تعرف من الديموقراطية حتى مجرد “رائحتها”.
ومع وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة عام 2002 ربما كانت الآمال، الأصح “الخديعة”، أكبر من سابقاتها. وتحت شعار الانضمام الى الاتحاد الأوروبي كان حزب العدالة والتنمية يقدم رزمة “واعدة” من الإصلاحات تخص الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان من القضية الكردية والمسألة العلوية إلى إبعاد الجيش عن التدخل بالحياة السياسية وكل ما يمكن اعتباره دخولاً إلى الدولة الحديثة على غرار ما هو قائم في دول الاتحاد الأوروبي.
وكان ذلك سبباً في بدء محادثات العضوية المباشرة في خريف العام 2005 بين أنقرة وبروكسل.
حتى الحركة الكردية حاولت أن تلاقي السلطة الحاكمة في منتصف الطريق وتعلن أكثر من مرة هدناً لوقف النار إفساحاً لبلوغ مشاريع الحلول منتهاها.
غير أن الوعود شيء والكلام شيء آخر. لم تتحقق الوعود بل كانت الوسائل العنفية تزداد همجية وبلغت ذروتها في صيف وخريف العام 2015 بعدما خسر حزب العدالة والتنمية انتخابات 7 حزيران/يونيو 2015، فكان إعلان حرب مفتوحة على حزب العمال الكردستاني، والأسوأ على حزب الشعوب الديموقراطي الذي فاز كحزب مستقل للمرة الأولى في الانتخابات وكان سبباً في خسارة حزب العدالة والتنمية جزءاً مهماً من رصيده الانتخابي.
وحين أعيدت الانتخابات بعد ذلك بخمسة أشهر عاد حزب العدالة والتنمية إلى الفوز واستمر الاعتقاد ان العنف هو الذي “يركّع” الكرد.
وما زاد الطين بلة أن النخبة التركية الحاكمة، الإسلامية، كانت توسع دائرة عقيدتها لتجمع بين النزعة التوسعية العثمانية وبين محاولة استئصال الوجود الكردي في شمال سوريا وفي مناطق مختلفة في العراق.
فكانت عمليات احتلال تركية في الشمال السوري بدءاً من العام 2016 وتصعيد العمليات في إقليم كردستان وسنجار في العراق وإقامة ما لا يقل عن 37 مركزاً عسكرياً هناك بعضها أقرب إلى قواعد عسكرية.
العملية الأخيرة في خاكورك التي نفّذها حزب العمال الكردستاني ضد قاعدة عسكرية تركية كانت مثالاً صارخاً على أن القضية الكردية لم تنتهِ وعلى أن الصراع المسلح منذ العام 1984 والذي يكاد يمر عليه أربعون عاماً يؤكد بالدليل الملموس أن القضية الكردية لا يمكن أن تحل بالقوة العسكرية ولا بعمليات الخداع السياسية.
إن المشكلة الفعلية هي في تلك النزعة القومية التركية “الابادوية” التي ترفض الاعتراف بوجود الآخر.
. وكما اجتثت النازية برحيل هتلر، وكما لن تعرف الصهيونية الراحة في أرض فلسطين، كذلك لن تعرف تركيا، كما يقول تونجير باكرهان، الراحة ما لم توافق على حل القضية الكردية.
أما كيفية الحل فهذه مسألة مركبة وتبدأ بالنظر إلى القضية الكردية على أنها ليست مسألة إرهاب وعلى أن الحل في الداخل يقطع الطريق على تدخلات الخارج.
هناك صيغتان:
الأولى تتعلق بالهوية الكردية الثقافية وهو حق بديهي لكل قومية او حتى “أقلية” ويترجم ذلك بحرية التعبير عن الهوية لغوياً وتعليمياً ونشراً وكتابة وبحثا وتراثاً وما إلى ذلك.
وضمن هذه الصيغة تدخل مسألة إقامة دولة مواطنة كاملة المساواة لا تمييز فيها بين تركي وكردي وعربي مع تقسيمات إدارية وصلاحيات متوافق عليها بين الجميع.
وفي حال تم رفض كل ذلك، وهنا تظهر الصيغة الثانية، فإن تقسيم البلاد قد يكون حلاً جذرياً. لكن دون ذلك دماء لن يتوقف سيلها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
ليبقى السؤال: كيف يمكن تطبيق هذا الحل؟.
والجواب قد يكون صادماً لكنه منطقي. وهو أنه ما لم تقتنع النخب التركية الحاكمة بعلمانييها وإسلامييها، بخطأ أو عبثية حل المشكلة عسكرياً فإنها ستبقى قائمة.
لكن كيف يمكن إقناع الأتراك بذلك؟
هنا بيت القصيد.
على أمل ألا تكون عملية خاكورك الأخيرة مجرد محطة من آلاف المحطات منذ مئة عام مع التساؤل “المقيت” عما إذا كنا بحاجة إلى مئة عام أخرى وبعدها مئة أخرى!.[1]