*الباحث شورش درويش
*المركز الكردي للدراسات
برزت سياسات النقل والتبادل السكاني في القرن التاسع عشر كدينامية جديدة للنظام الدولي وحل المشكلات في الدول القومية، ما عنى نهاية الشكل الكلاسيكي للإمبراطوريات المتعددة الإثنيات والديانات. في تركيا، يتمثّل الجانب الوحشيّ في هذه السياسات المتبعة لحل مشكلة التعدد الإثني في اعتمادها على واحد من ثلاثة نماذج: إما اتباع خطط التهجير القسري المتفق عليها بين الحكومات، أو انتهاج سياسات «الحل الأخير» عبر الإبادة والمذابح والترانسفير، أو عبر إنكار الوجود والتغيير الديمغرافي والاستيعاب القسري للسكان. في الحالة الأولى، يظهر اليونانيون كنموذج لعملية التبادل، فيما يبرز الأرمن كضحايا في النموذج الثاني، وبطبيعة الحال كان ومازال الكرد يمثّلون ضحايا النموذج الأخير.
في واحدة من السياسات الأشد راديكالية التي رسمت ملامح تركيا الحديثة، جاءت سياسة التبادل السكّاني التي رسختها#اتفاقية لوزان# 1923 بدعم من بريطانيا تتويجاً لنهاية الحرب اليونانية التركية 1919- 1923. لكن، قبل إبرام الاتفاق بعام، كان قرابة مليون مسيحيّ فرّوا من أراضي الدولة العثمانية خوفاً من أعمال الانتقام التي قد يشنّها القوميون الأتراك.
وفي المؤدّى النهائي للاتفاق، خرج نحو مليون ومئتي ألف يوناني من أراضي الأناضول التي عاشوا فيها لمئات السنين في مقابل خروج 400 ألف مسلم/عثماني من الجزر التي ستعرف اليوم بأنها أراضٍ يونانية.
لكن قبل هذه المبادلة العظمى، اختبرت الدولة العثمانية طرد العثمانيين البلقان إلى داخل الأناضول عام 1912 كأول تجربة ترانسفير مريعة كان ضحّيتها اقتلاع أزيد من 100 ألف عثماني.
وقع ذلك بسبب تنامي الفكرة القومية في البلقان، والتي يبدو أنها حفرت أثراً عميقاً في وجدان القوميين الأتراك الذين سيوافقون على مقترحات التبادل السكاني وتغيير خرائط المنطقة فيما بعد بحثاً عن المجانسة.
أرسيت صيغة التبادل السكاني كنموذج جديد لحل المشكلات السكانية/العرقية، في ما بعد اتفاقية لوزان. لذا، سيشهد العالم حركة تبادل سكاني بين الاتحاد السوفيتي وبولندا عام 1944، وبين تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا عام 1946 مستلهمتين تجربة التبادل التركي اليوناني. لكن هذا النموذج القائم على الاقتلاع برعاية الحكومات توقّف عن أن يكون منطلقاً لحل المشكلات القومية والثقافية في الدول متعددة الإثنيات، على ما يحويه من كلف اقتصادية واجتماعية واغتراب، فضلاً عن أن رسوخ النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية عطّل الكثير من أفكار القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
يمكن اعتبار التبادل السكاني في عداد سياسات الترانسفير، لكن دلالات الأخيرة أوسع لجهة احتوائها على حالات الطرد والتهجير القسري وإعادة التوطين «الإحلال السكاني». ولئن كان النموذج التركي هو الأشد بروزاً في المرحلة التي سبقت وتلت تأسيس الجمهورية، فإن نموذج سلب لواء اسكندرون وتفريغه من أكثريته السكانية العربية عبر اعتماد التهجير القسري وإحلال العنصر التركي خاصة بين الأعوام 1936 – 1939 مثّل آخر مهام ترسيمات ما بعد لوزان، أو هكذا تبدّى.
واستمرت داخل تركيا سياسات النقل السكانيّ وتقليص الجغرافية الكردية عبر مشاريع مرعبة، كمشروع «إصلاح الشرق» الذي اقتصر على تتريك غرب نهر الفرات ذي الغالبية الكردية في ثلاثينيات القرن الماضي، فيما كانت غايته الأساسية تغيير كامل جغرافية كردستان الشماليّة، فضلاً عن مشاريع أمنية الاتجاه برزت في ثمانينيات القرن الماضي رمت أنقرة من خلالها إلى تدمير القرى الكردية ودفع سكّانها للهجرة إلى وسط الأناضول والحواضر الغربية الكبرى.
تحوّل دخول تركيا في مختبرات التغيير الديمغرافي الكبرى، وما يتضمنه من مبادلات سكانية وتهجير وإعادة توطين، إلى إحدى ديناميات السياسة الداخلية والخارجية التي تظهر عند اللزوم.
وليس أدلّ على ذلك سوى ما قامت به تركيا في المختبر السوري، وتحديداً في عفرين، إذ ستقوم تركيا وروسيا بتبادل مناطق نفوذهم في الغوطة الشرقية وعفرين مطلع عام 2018، ليخرج إثره آلاف المسلحين وأسرهم إلى ريف حلب الشمالي وعفرين.
استوجبت المبادلة إعلان تركيا الحرب على كانتون عفرين بعد خروج القوة الروسية الصغيرة من قاعدة كفر جنة باتجاه تل رفعت بعد فشل مفاوضات ربع الساعة الأخير بين وحدات حماية الشعب والقوات الروسية في حلب، في مقابل سيطرة روسيا والنظام السوري على مدن وبلدات الغوطة الشرقية.
وحصل كل ذلك نتيجة خرق أطراف أستانا بشكل مريح ومتفق عليه لاتفاقيات «خفض تصعيد». في المآل، تمّ احتلال عفرين والتسبب في مقتل الآلاف واختطاف واعتقال 2600 شخص خلال أقل من عام وتهجير 250 ألف كرديّ.
اقتضت سياسة الطرد الممنهجة تشكيل جهازٍ أمني وشرطيّ خالٍ من المشاركة الكردية، يكون عصبها الفصائل القادمة من الغوطة الشرقية، فيما أفسحت تركيا المجال لحصول «بوغروم» مريع في عفرين، حين همّت الفصائل بنهب وسلب أملاك الكرد ومحلّاتهم أمام أنظار تركيا وبإرادتها، ثم تشييد العشرات من المستوطنات لتنفيذ برامج إعادة التوطين والحؤول دون عودة المهجّرين قسرياً.
وعلى هذا النحو، تكاملت سياسات التغيير الديمغرافي التركية في سوريا حيث بإمكانها إقامة حزام أمني-إثني- طائفيّ بحثاً عن شكلٍ جديد للمجانسة مع برامج حزب العدالة والتنمية يقرّب العرب السنة إلى الحدود ويبعد التواجد الكردي ويذرّره جهد المستطاع، وهو ما كرّرته مع عملية احتلال رأس العين وتل أبيض في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
تبقى العبارة المفتاحية لفهم سياسات تركيا في سوريا في ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبيل الشروع في عملية الاحتلال: «هذه المنطقة لا تناسب حياة الكرد»، وهو تكرار لمقولات المجانسة التي دشّنها الاتحاديون إزاء الأرمن واستكملتها العصبة القومية قبيل تشكيل الجمهورية في الموافقة على المبادلة مع اليونان.
واقعياً، يمكن الحديث عن كاتالوغ يناهز عمره قرناً، ومضمونه أن سياسات التغيير الديمغرافي قابلة للتكرار إلى ما لا نهاية عبر التعديل عليها بحسب مقتضى الحاجة.
إذ يمكن استبدال الكرد خارج الحدود بعناصر قومية أخرى حال عدم وجود أتراك، شرط أن يتحد المستوطنون الجدد في العالم السني الخاص بتركيا وأن يصبحوا جزءاً من ترسانتها العسكرية لتدمير فكرة المجتمعات التعددية.
بهذا المعنى، فإن سياسة المجانسة باتت تتعدّى البعد العرقيّ، وإن مازالت تعتمد على ثلاثية المبادلة والتهجير وإعادة التوطين.[1]