نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين و العلاقة بينهم (16) – أسلاف الكورد: الخوريون – الميتانيون 11. الحضارة الخورية - الميتانية
د. مهدي كاكه يي
إعتمد الخوريون الكتابة المسمارية في تدوين لغتهم الهندو آرية، كما أنهم دوّنوا وثائقاً باللغتين الأكادية والحثية. عُثر على مجموعات من الوثائق الخورية في نوزي (يورگان تبه، جنوبي كركوك) ومحيطها وفي (ماري) و(إيمار) الواقعتَين على الفرات الأوسط وفي (أوگاريت) وفي العاصمة الحثية هاتوشا (بوغازكوي الواقعة في شرقي أنقرة). كما ترد تعابير ومفردات وأسماء أعلام خورية في كثير من الوثائق المكتشفة في مناطق مختلفة من الشرق القديم. إنتشرت اللغة الخورية على نطاق واسع عند إتساع المملكة الخورية في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وأصبحت لغة لها مكانة بارزة في المنطقة. اللغة الأورارتية قريبة من اللغة الخورية و قد تكون منحدرة منها.
تم العثور في (أوگاريت) على رقم فيه مسرد مفردات خورية مكتوبة بالخط المسماري وهو عبارة عن معجم يدل على عبقرية الخوريين في تعلم اللغات وإفادتهم من هذه المسارد
إن من أهم ما قدمه الخوريون للحضارة الإنسانية هو إختراع أقدم نظام كتابي أبجدي مسماري في العالم المستند على نظام قواعدي متكامل والمؤلف من 30 رمز مسماري أبجدي الذي شكلّ القاعدة الأساسية في إبتكار وظهور الأبجدية الفينيقية والآرامية والأبجديات الأخرى التي اشتقت من الفينيقية والآرامية كالعبرية واليونانية والنبطية والسريانية والعربية.
التنقيبات المكتشفة تشير الى أنه كان يتم تدوين أخبارالخوريين وكان هناك محل خاص لكتابة الوثائق (مصدر 1).
إن معظم الرُقم المُكتشَفة كانت مرتّبة على شكل مجموعات وكل مجموعة مؤلفة من مكتبة أو ديوان للأرشيف. كانت المكتبات تابعة لمؤسسة دينية أو ممتلَكة من قِبل أفراد. المكتبات المكتشفة في أوگاريت تشتمل على مكتبة الكاهن الأكبر التي تحتوي على الملاحم والأساطير ومكتبتان لكاهن آخر ومكتبة النصوص الأدبية وستة دواوين للأرشيف في القصر الملكي وديوان للأرشيف في القصر الجنوبي. تم العثور في الحي الفخم الممتد شرقي القصر الملكي على مكتبتين خاصتين وعلى ديوان أرشيف خاص. كانت الوثائق التي لها طابع مدرسي، موجودة في القاعات المخصصة لهذه المجموعات وكذلك وُجِدت بعض الأدوات الكتابية كالمخرز أو المنقاش وهو القلم الذي كان يتم إستخدامه لحفر الرموز المسمارية في الرقم الفخارية. كان الكاتب (SCRIBE) االخوري يقضي معظم وقته في قاعات المحفوظات ويقوم بكتابة الرقم الفخارية وتصنيفها وترتيبها على رفوف وفي هذه القاعات كان يزاول أيضاً دوره كمُعلّم (مصدر 2).
الوثائق المُكتشَفة في رأس الشمرة تُبين بأن الكاتب الخوري كان يقوم بتعليم الطلاب حروف الأبجدية. لقد تم العثور على عدد من رُقم فخارية صغيرة منقوشة عليها أحرف الأبجدية الخورية الثلاثين وهي مرتبة بحسب التسلسل الذي كان معتمداً آنذاك. هذا التسلسل يُظهر في كل رقم الألفباء المكتشفة في الموقع، وهذا يدل على أن هذه الوثائق تم وضعها لتعليم الطلاب.
تم العثور على رقم مُرتّبةً فيه أحرف أبجدية خوررية في أعمدة ويوجد مقابل كل حرف المقطع الصوتي الأكادي المطابق له باللفظ. إنه عبارة عن جدول تم وضعه لمساعدة المترجمين في القيام بالترجمة. في رأس الشمرة، علاوة على النصوص المكتوبة بهذه الطريقة، هناك نصوص خورية مكتوبة بالإشارات المسمارية الأبجدية المبتكرة في أوگاريت (مصدر 2).
هناك نص تم إكتشافه في رأس الشمرة يبين أهمية الكتابة والمعرفة في المجتمع الخوري، وهو عبارة عن دعاء تمت كتابته بصيغة رسالة موجهة من كاهن إلى أحد الآلهة يطلب فيه مساعدة تلميذه ومما جاء في النص المذكور:
لا تُظهر في عظمتك عدم الإهتمام بالقضية التي أستعطفك من أجلها. بهذا التلميذ الصغير الجالس أمامك.. لا تُظهر عدم الإهتمام.. إكشف له أيّ سر في فن الكتابة، العد، المحاسبة، أيّ حل.. إكشف له.. إكشف له إذن الكتابة السرية.. إعطِ لهذا التلميذ الصغير القصب المبرى والجلد والفخار.. إذن لا تهمل شيئاً من كل ما يتصل بفن الكتابة.
قام الخوريون بعمل قوائم لتنظيم الحياة الإدارية والإقتصادية و قوائم تُمثل مفكرات تم إستعمالها للحصول بسرعة على المعلومات التي كانوا يحتاجونها. في أوگاريت، تم العثور على رقم يتضمن خمسمائة سطر والذي هو موسوعة فيها تعداد الأسماك والطيور والنباتات والمنسوجات والأقمشة والأحجار وما شابه ذلك. فيها أيضاً قوائم تعدّد آلهة أوگاريت وقائمة تعداد الآلهة الخورية. رقم آخر يتضمن جدولاً بالآلهة السومرية، فيه يقابل كل إله ما يقابله من آلهة عند الخوريين، حيث أنه وثيقة عن الديانة المقارنة عمرها حوالي ثلاثة آلاف سنة.
ساهم الخوريون في إثراء التراث الأدبي والفني العالمي القديم المدوّن من خلال كتابة نصوص أدبية بأسلوب متميز والتي كانت تدور حول مواضيع شائعة في ذلك العصر. كما قاموا بترجمة نصوص تعود لشعوب أخرى، إلى اللغة الخورية و أخذوا حكايات شفاهية وكتابية وصاغوها بلغتهم صياغة جديدة. كما أضافوا إلى أدبيات منطقة غربي آسيا أساطير وتعويذات من تراثهم الذي تشير إليه الإكتشافات الأثرية في حتوشا و(أوگاريت) (محمد العزو: حضارة الفرات الأوسط والبليخ، دار الينابيع، دمشق، 2009).
كانت للثقافة الخورية تأثير كبير على الثقافة الحثية، بل أثرت الثقافة الخورية على ثقافات شعوب منطقة الشرق الأدنى القديم بأكملها، كما أن الثقافة الآشورية المبكرة ورثت الثقافة الخورية وخلفتها. يذكر الدكتور عبد الحميد زايد بأن الأسرة الحثّية خلال فترة المملكة الحثّية الحديثة أصبح لها طابع خوري وكان عدد كبير من ملوك وملكات الحثيين يحملون أسماء خورية (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد: مقدمة في تاريخ و حضارة الشرق الادنى من اقدم العصور حتى عام 323 ق.م, دار النهضة العربية، القاهرة، 1966، صفحة 473).
تم العثور أيضاً على رقم يحتوي على بعض النصوص الطبية، حيث كان الطب آنذاك مرتبط بالسحر ومتداخل معه. يحتوي هذا الرقم على عدد من الوصفات الطبية ومن خلال نصوص الإبتهالات والأدعية السحرية يمكن التعرّف أحياناً على بعض الأمراض والأدوية. من بين الأمراض التي يأتي ذكرها هي الصداع والأنفلونزا والصرع والزكام والدوار وأمراض الأسنان والرئة والبطن والعيون و إعتلال العضلات والجلد. كان يتم إستعمال المواد النباتية في العلاج، وأحد الرقم يشير الى إستخدام حمام بخاري في العلاج. هناك نص يذكر وجود أطباء في (أوگاريت) ونص آخر يتضمن التعليمات الواجب إتباعها للعناية بالخيول المريضة. كما أنه تم إكتشاف نص تم تفسيره على أنه تلميح لكسوف الشمس (مصدر 3).
قام الخوريون بتنظيم الإدارة بشكل جيد، حيث كان الحُكام يقررون إعلان الحروب و الإستمرار فيها أو إيقافها و كذلك كانوا يقومون بعقد التحالفات و المعاهدات مع الممالك الأخرى و الإشراف على الجوانب الإقتصادية و التجارية و العسكرية. كان الملك الخوري يُمثل السلطة التنفيذية و التشريعية معاً، وكان له مساعدون يساعدونه في إدارة شئوون البلاد (جرنوت فلهلم: الحوريون تأريخهم وحضارتهم، ترجمة فاروق إسماعيل، دار جدل، حلب، الطبعة الأولى، عام 2000 م).
تذكر الوثائق التي تم العثور عليها في مدينة نوزي بأنه في نظام الحكم الخوري، كان هناك الملك الأكبر الذي يرأس المملكة وكان هناك ملوك أدنى شأناً كانوا يحكمون المدن وكانوا خاضعين لسلطة الملك الأكبر. ملوك المدن كانوا من طبقة الذوات وكان أغلبهم ينتمون الى سلالة الملك الأكبر. كان من واجبات ملوك المدن الدفاع عن المملكة، حيث كانوا مسئولين عن نصب الإستحكامات الدفاعية في المدن والقرى وتأمين العربات الحربية والمتطلبات الدفاعية والحربية الأخرى. كل قصبة والتي كانت تسمى (ALUM )باللغة الخورية، كان يديرها بيگ (HAZANNU ) أو مختار خاضع لسلطة ملك المدينة التي تتبعها قصبته. كان من واجبات البيگات هي إقامة الإستحكامات في قراهم.
كانت هناك موازين موحدة معمول بها في المملكة وكانت في مدخل المدينة يتم عرض مقاييس ومكاييل لتعميمها على بقية المدن. من القوائم التي كانت تُستعمل كمفكرة، عدة رقم التي هي عبارة عن جداول لقياسات الوزن والطول والمساحة (مصدر 4).
إشتهر الخوريون بصناعة الخزف و إمتاز الفخار الخوري بألوانه الزاهية وتنوع أشكاله كان خزف الخابور يتميز بِرسومات ذات خطوط حمراء و أشكال هندسية ثلاثية الأضلاع، بينما خزف نوزي (مدينة كركوك الحالية) كان له أشكال مميزة جداً و لونه بُنّي أو أسود
كان الخوريون كذلك بارعين في الصناعات المعدنية، حيث كان يتم جلب النحاس من جبال منطقة الأناضول الى بلاد ما بين النهرَين. كان وادي الخابور مركزاً رئيسياً لتجارة المعادن، حيث كانت مملكة (كيزوواتنا Kizzuwatna) و (إيشوا ISHUWA) الواقعة في مرتفعات الأناضول، مصادر للنحاس والفضة والقصدير، إلا أن المملكة الخورية كانت تعاني من نقصٍ في كمية الذهب ولذلك كانت تستورد الذهب من مصر، كما تخبرنا رسائل AMARNA. السومريون قد أخذوا مفردات مصطلحات النحاس من الخوريين.
تعرضت المصنوعات المعدنية الخورية للتلف والضياع، بإستثناء تلك التي تعود الى العهد المتأخر لمملكة أورارتو، حيث تم إكتشاف بعض التماثيل البرونزية الصغيرة للأسد في مدينة (URKESH). كما تم إكتشاف لوحة برونزية تصّور أسداً فاغر الفم، يثبّ فوق لوحةٍ تحتوي على كتابة مسمارية. هذه اللوحة معروضةً في متحف لوفر في العاصمة الفرنسية، باريس. ومن المنحوتات الميتانية هناك تمثال أسد ضخم من حجر البازلت، يبدو فاغر االفم ويمشي ببطء، يعود تأريخه إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، ويتميز بالجلال وتتجلى فيه كاريزما الحياة.
إشتهر الميتانيون بصناعة الأقواس، حيث تجاوزت شهرة القوس الميتاني خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد حدود بلاد ميتاني. كان التنظيم القوي للبيت الملكي واضحاً في القصور الكبيرة، والموجود حتى في عواصم المقاطعات. لقد كان يتمّ تزيين القصور باللوحات الجدارية. كانت العاصمة الميتانية (واشوكاني) تُزينها مباني المعابد والقصور المتميزة بجمال مداخلها التي كانت تزينها منحوتات كبيرة للأسود والثيران وغيرها، و كان يتم تزيين أسفل الجدران بمنحوتات مغايرة. ربما كان يتم دفن الموتى خارج مناطق السكن.
كان الميتانيون رواداً في تربية الخيول، حيث أن إسم مملكة (إيشوا ISHUWA) قد يعني بلد الحصان. تم إكتشاف نصٍ مشهور في (HATTUSA) يتضمن دروساً في تعلّم تربية الخيول وجاء في ذلك النص بأن شخصاً خورياً إسمه (كيكولي Kikkuli) كان مسئولاً عن التدريب لتعلّم تربية الخيول. الميتانيون قاموا بإستخدام الخيول في قيادة عربات حربية خفيفة ذات عجلتين، حيث كان الكاشيون والخوريون أوّل من أدخلوا إستخدام الخيول والعربات الحربية في غربي آسيا وكان (كيكولي Kikkuli)، يقوم بتعليم الفنون الحربية المتعلقة بإستخدام المركبات والعربات الحربية (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة د.محمد مصطفى زيادة , الطبعة الأولى.القاهرة -نيويورك، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1968 م، صفحة 62).
في المملكة الخورية، لم يتم بناء الكثير من المدن، حيث كانت (URKESH) المدينة الخورية الوحيدة في الألف الثالث قبل الميلاد. في الألف الثاني قبل الميلاد، تم بناء عدد من المدن الخورية مثل (ARRAPHA) و (HARRAN) و(KAHAT) و (NUZI)و TAIDU)) و ((WASHUKANNI التي كانت عاصمة المملكة الميتانية. يبدو أن الثقافة الخورية في بناء المدن كانت تختلف عن الحكم المركزي للأشوريين و المصريين القدماء ويمكن تفسير ذلك بأن النظام الإقطاعي للممالك الخورية لم يسمح بتطوير بناء قصور فخمة أو معابد.
كانت أغلب الأختام الإسطوانية الخورية تصوّر مخلوقات أسطورية مثل البشر المُجنّح و الحيوانات المُجنّحة و هذه الصور المرسومة قد تكون الغاية منها هي الوقاية من الأرواح الشريرة. الأختام الأسطوانية الميتانية تتميز بتنوع المادة المتكونة منها مثل حجر الهيماتيت والعجينة الزجاجية. كان الفنان الميتاني يميل إلى تبسيط الأشكال وتحويرها إلى ما يشبه العناصر الزخرفية ويحرص على إظهار الرموز بأنواع مختلفة، حيث أن لكل رمز دلالته وجماليته مثل السمكة والعقرب والطائر والماعز والكلب والأسد والكائنات الخرافية المجنحة، والكواكب والنجوم والقمر ويرسم رسومات تُظهِر عبادة الشجرة المقدسة والعابد بملابسه الطويلة، وهو يؤدي طقوس العبادة كتشابك اليدين على الصدر، أو لمس شجرة الحياة. كان الفنان الميتاني يحرص كذلك على التناظر والدقة الفنية في نقش مشاهد معقدة بأدوات بسيطة. وهذا الفن له أهمية وثائقية وقيمة فنية وجمالية متميزة ويشير الى مدى إنفتاح الميتانيين ثقافياً وتفاعلهم مع ثقافات شعوب الشرق الأدنى القديم. هذا الإنفتاح ساهم كثيراً في إثراء الفنون الخورية وتطوير االثقافة الخورية.
إهتم الخوريون إهتماماً كبيراً بالزراعة، حيث قاموا بزراعة الشعير بشكل خاص. الفلاح الخوري كان يقوم بزراعة قطعة أرض زراعية كبيرة و كان مالك الأرض يحصل على قسمٍ من المحصول الزراعي ثمناً لإستغلال أرضه الزراعية من قِبل الفلاح.
المصادر
1. BULLETIN OF AMERICAN SCHOOL OF ORIENTAL RESEARCH (11) NO , 81 FEBRUARY 1941.
2. LAROCHE; E. Les textes hourrites”, Palais Royal d’Ugarit III, Paris 1955. 325-385; Documents en langue hourrite provenant de Ras Shamra” Ugaritica V, Paris 1968: 447-644.
3. BOYER, G. La place d’Ugarit dans I’histoire de I’ancien Droit oriendans Palais Royal d’Ugarit III, Paris 1955: 283-306.
4. SMITH, SIDNEY. EARLY ASSYRIA HISTORY TO 1000 B. C,
LONDON, 1928, p. 325.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]