نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين و العلاقة بينهم (26) – أسلاف الكورد: الميديون .. تأسيس الإمبراطورية الميدية
د. مهدي كاكه يي
في هجومهم على نينوى، إختار المهاجمون الزاوية الشمالية الشرقية من سور نينوى وهو القسم الأعلى والأضعف لإقتحام المدينة. بعد القيام بِتدمير القوات الآشورية خلال ثلاث معارك جرت بين الطرفَين المتحاربَين، إستولى المهاجمون على منظومة التحصينات الأمامية والسدود والقناطر التي بواسطتها تعود مياه نهر الخوصر الى الخنادق وبِتجفيف الخنادق، إستطاع المهاجمون الوصول الى المنطقة الملاصقة لِسور المدينة الذي كان يبلغ إرتفاعه أكثر من 20 متراً وقاموا بتقريب الأكباش إليه، حيث قام المهاجمون بِردم قطاع الخندق الملاصق للزاوية الشمالية الشرقية من نينوى، بأنقاض الفجوة الكبيرة المتكونة بالسور، والتي تدل عليها التنقيبات. دافع الآشوريون بقوة ومهارة عن مدينتهم وأقاموا خلف الفجوة خطاً جديداً من التحصينات وأحبطوا هجوم المحاصِرين الميديين والبابليين، إلا أن المهاجمين إستغلوا تركيز إهتمام الآشوريين على الفجوة المعمولة في السور، فقاموا بِتحويل نهر (الخوصر) الى الخنادق التي تغطي الوجه الجنوبي للسور الشرقي وإندفعوا على حين غرة الى داخل المدينة في مجرىً عبر القنطرة النهرية، عندئذٍ جرت في شوارع العاصمة الآشورية عمليات قتل الآشوريين1.
فيما يتعلق بِمصير الملك الاشوري (سين – شار - اشكن)، فأن هناك نص يذكر بأن الملك الآشوري قد هرب من المدينة2، إلا أن المصادر الإغريقية تقول بأن (سين – شار – اشكن) قد لقي حتفه في الحرائق التي دمرت نينوىa. يستند الباحث (جورج رو) على نصٍ يذكر مقتل الملك الآشوري، حيث جاء في هذا النص ما يلي: ( فإحتلوا المدينة وأنجزوا هزيمة الرئيس وفي ذلك اليوم تم قتل الملك الآشوري (سين – شار - اشكن) f. كل الدلائل تشير الى ان الملك الآشوري قد لقي مصرعه في خضم المعارك الدامية التي جرت في مدينة نينوى أثناء إستيلاء الميديين والبابليين عليها، بِدليل أن (آشور- اوبالط الثاني) إعتلى العرش الاشوري. في 20 أيلول|سبتمبر من عام 612 قبل الميلاد، ترك الملك الميدي (كَيخَسرَو) وجيشه مدينة نينوى المتحولة الى أنقاض، عائدين الى بلادهم، حاملين معهم الغنائم والأسرى، بينما إستمرت قوات (نبوبلاصر) في تقدمها حتى وصلت مدينة (روسابو). تقع (روسابو) غرب نينوى قرب جبل سنجار3، حيث كانت في طريقها تنهب وتحرق. بعدها عاد الملك البابلي الى نينوى وإستقطع لنفسه منطقة آشور، بينما إستولى الاسكيثيون وزعماء آسيا الدنيا على القسم الأكبر من الغنائم، إلا أن الدولة الآشورية لم تنتهِ بعد، حيث أن مجاميع من الجيش الآشوري والنبلاء الآشوريين بقوا على قيد الحياة وإستمروا في المقاومة وإتخذوا مدينة (حران) ملاذاً لهم. (حران) مدينة قديمة تقع في أعالى نهر الفرات في إقليم شمال كوردستان، حيث أنها تقع على طريق تجاري مهم وإسمها يعني (طريق) وكانت مركزاً لعبادة إله القمر (سين) 4. في (حران) أصبح (آشور- اوبالط الثاني) ملِكاً لِبلاد آشور، حيث طلب المساعدة من حليفه الملك المصري (أمازيس) الذي قام بِتلبية طلبه. أسرع (أمازيس) بإرسال المعونات العسكرية لحلفائه الآشوريين.
من مجريات الأحداث، يظهر أن الملك البابلي (نبوبلاصر) لم يقف مكتوف الأيدي تجاه هذا التطور السياسي الخطير، حيث أنه في تموز عام 611 قبل الميلاد، زحف نحو بلاد آشور التي سار حولها بدون أية مقاومة تُذكر، ثم إلتقى بجيوش بلدان (حازو) و (هان) و (سو) فإستولى على غنائم وإقتاد الأسرى من هناك. في شهر تشرين الثاني من نفس السنة، توجّه نحو مدينة (أوكولتيو) وتمكن من الإستيلاء عليها في عام 610 وقام بقتل جميع سكانها بحيث لم يتمكن رجل واحد من الهرب من المدينة، إستناداً الى النص البابلي. (أوكولتيو) هي مدينة تقع في إقليم غرب كوردستان، قرب تل (بارسيب) شرق نهر الفرات وقد سيطر عليها الاشوريين في عهد (شلمنصر الثالث) عام 856 قبل الميلاد5. قد يكون الملك البابلي قام بهذا القتل الجماعي لترهيب وتخويف سكان المدن الأخرى وإجبارهم على الإستسلام5. بعد معارك عديدة دامت بين سنتي (612 – 605 قبل الميلاد)، والتي إستطاع الحلف الميدي - البابلي إنهاء الوجود الآشوري السياسي في منطقة الشرق الأدنى القديم بشكل نهائي في معركة (كركميش)، وبذلك خسر الحلف الآشوري - المصري الحرب أمام الحلف الميدي - البابلي، وإختفت من الوجود إحدى أقوى الإمبراطوريات التي عرفها العالم القديم.
تمّ تقسيم أراضي الإمبراطورية الآشورية وآسيا الصغرى بين الميديين والبابلين، فكانت حصة الميدين كل البلاد القريبة من ميديا وغرب كوردستان الحالي ودجلة العليا والفرات وإمتدت حدودهم الى البحر الأسود، أما البابليون فقد إستحوذوا على جنوب سوريا وجنوب بلاد الرافدين. بعد هذا النصر التاريخي، رجع الملك كَيخاسرَو مع جيشه المظفر، حاملاً معه الثروة الطائلة التي تركها الآشوريون، الى عاصمة مملكته، جمزان.
يذكر النبي العبراني (ناحوم) عن سقوط نينوى أمام الهجوم الميدي - البابلي، بأن الشعوب التي كانت تخضع للآشوريين، عبّرت عن إرتياحها وفرحها لهذا السقوط، حيث كان (ناحوم) حينذاك أسيراً في نينوى ولذلك كان شاهداً على سقوط نينوى: (نَعِست رعاتُك يا ملك آشور. إضطجعتْ عظماؤك. تشتّتَ شعبُك في الجبال ولا مَن يجمع. ليس جبرٌ لإنكسارك. جرحُك عديم الشفاء. كلُّ الذين يسمعون خبرك يصفّقون بأيديهم عليك؛ لأنه على من لم يمرّ شرُّك على الدوام)6.
بعد سقوط الدولة الاشورية وإختفائها، بدأ (كَيخَسرَو) يطمح في التوسّع الى تخوم
آسيا الصغرى، بعد أن تفككت وتلاشت ممكلة أورارتو بالتزامن مع إنهيار
الإمبراطورية الآشورية. إستغل الملك الميدي (كَيخَسرَو) الفراغ السياسي الحاصل في الجهة الشمالية الغربية لمملكته، فتوجّه نحو مملكة (ليديا) التي كانت آنذاك من أهم الدول المتمتعة بموقع إستراتيجي مهم وكانت أيضاً مركزاً تجارياً مهماً. إندلعت حروب عنيفة بين الميديين والليديين، بقيادة كل من الملك الميدي (كَيخَسرَو) والملك الليدي (ألياتسAlyaates ). إستمرت الحروب بين الجانبَين لمدة خمس سنوات دون أن ينتصر أحد الجانبَين. في سنة 575 قبل الميلاد، إندلعت معركة ،أُطلِق عليها إسم (معركة الكسوف)، حيث أنه أثناء هذه المعركة حصل كسوف الشمس طيلة يوم كامل، فخاف منه الجيشان المتحاربان وإعتقدا بأنه نذير شؤم لهما من السماء؛ لذلك قام الطرفان بتوقيع معاهدة للصلح التي تم إبرامها بعد أن شرِب كل من الملِكَين جرعة من دم الآخر7. إستناداً الى بنود هذه المعاهدة، أصبح (نهر هاليس Halys)، الذي يصب في البحر الأسود والواقع قرب مدينة أنقرة الحالية، فاصلاً حدودياً بين المملكة الميدية والليدية8. توطدت هذه المعاهدة بزواج ولي العهد الميدي ( أستيا گ Astyages)، إبن الملك الميدي (كَيخَسرَو) من (أرينيس Arenes)، إبنة الملك الليدي (ألياتس).
تذكر مصادر أخرى بأن الحرب التي إندلعت بين مملكة ميديا و ليديا (Lydie) التي كانت عاصمتها (ساردSarde )، كانت بسبب السكيث الذين كانوا قد غزوا ميديا قادمين من شمالي البحر الأسود، وتحالفوا مع الدولة الآشورية، ولما سقطت الدولة الآشورية لجأوا إلى ليديا، وحماهم الملك الليدي إلياتس9.
في هذه الفترة، تميزت العلاقات بين الممالك الثلاث، الميدية ، والبابلية ، والليدية بالهدوء والسلام في عهد الملك (كَيخَسرَو) الذي إستمر حتى وفاته في عام 585 قبل الميلاد. هكذا خيّم الإستقرار والإزدهار على غربي آسيا لفترة دامت حوالي نصف قرن9.
هكذا أصبحت الدولة الميدية إحدى الإمبراطوريات الأربع التي تقاسمت فيما بينها زعامة الشرق الأدنى القديم وهي الدولة البابلية والدولة المصرية والدولة الميدية والدولة الليدية، حيث بلغت ميديا أوج عظمتها و إزدهارها و إمتدت حدودها من (بخاري) شرقاً الى نهر (قزيل إيرماق) غرباً ومن بحر قزوين شمالاً الى الخليج الفارسي جنوباً. بعد أن أصبحت ميديا دولة قوية أخذت الدول المجاورة لها تخاف منها، وخاصة البابليون، حيث قام ملكهم (نبو خذ نصر) ببناء سد ضخم وتحصينات كبيرة على طول الحدود الشمالية الذي عُرف بالسد (الميدي) نسبة الى الميدين، لحماية بابل من أي هجوم ميدي من الشمال.
المصادر
1. سليمان، عامر (1991). الموصل في النصف الأول ق.م. موسوعة الموصل الحضارية، الموصل، المجلد 1، صفحة 106.
2. بليافسكي، ف أ (2007). أسرار بابل. ترجمة توفيق نصار، الطبعة الثانية، دمشق، صفحة 168 – 169.
3. محمد، حياة ابراهيم (1983). نبوخذ نصر الثاني (604- 562 ق.م). بغداد، صفحة 050
4. الكيلاني، لمياء الآلوسي (1999). أول الرب من القرن التاسع وحتى القرن السادس قبل الميلاد. بيروت، صفحة 73.
5. غزاله، هديب. الدولة البابلية الحديثة (626-539ق.م). صفحة 64.
6. الكتاب المقدّس. العهد القديم، سفر ناحوم، الأصحاح 3، الآية 18- 19.
7. دياكونوف (1956). تاريخ ميديا. موسكو. صفحة 302.
8. الأحمد، سامي سعيد (1983). الصراع العراقي الفارسي خلال الألف الاول قبل الميلاد (933-331ق.م). صفحة 79.
9. هيرودوتس (1886). تاريخ هيرودوتس. ترجمة حبيب افندي، مطبعة القديس جاورجيوس، بيروت.
المراجع
a. Heick, Gwendolyn (1999). whos who in the Ahcient Near East. London and New york, p . 657 .
نهر هاليس الذي شكّل فاصلاً حدودياً بين ميديا و ليديا
الملك كَيخَسرَو يُستقبَل في العاصمة (جَمَزان) بِحفاوة منقطعة النظير من قٍبل الميديين بعد قضائه على الإمبراطورية الآشورية.
خرائب مدينة نينوى بعد سقوط الإمبراطورية الآشورية
الحدائق المعلقة التي بناهها نبوخذ نصر لزوجته، الأميرة الميدية أوميد
[1]