نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين والعلاقة بينهم (37) – أسلاف الكورد: الميديون.. ميديا بعد سقوط إمبراطوريتها (5)
د. مهدي كاكه يي
كانت (آتروپاتين) البلد الواقع في غرب آسيا، أقل تأثراً بالحضارة الإغريقية من جميع البلدان الأخرى. لا توجد حتى قطعة نقدية واحدة مسكوكة لِحُكام (آتروپاتين)، لكن يرى الباحثون المعاصرون بأن (آتروپاتين) كانت مكاناً خاصاً للديانة الزردشتية، ويستندون الى حد ما على الإتيمولوجيا الشعبية للإسم وعلى التقاليد الزردشتية (إسم آتروپاتين يعني بلاد عبادة النار)، بما في ذلك التقاليد فيما يتعلق مسقط رأس زردشت، وذلك الى حد ما بسبب الظاهرة الطبيعية للهيب النيران المنبعثة من شقوق الصخور الموجودة في جميع أنحاء مناطق (آتروپاتين) (إتيمولوجيا هي عِلم متخصص في مجال أصل الكلمات وتاريخها). قد يكون الملوك الميديون بلا شك قد إعتنقوا الديانة الزردشتية، إلا أنه لم تكن العقيدة الزردشتية عميقة الجذور بين رعايا الإمبراطورية الأخمينية وكان الدين اليزداني سائداً بينهم.
ظل جنوب ميديا كمقاطعة من الإمبراطورية السلوقية لمدة قرن ونصف، وإنتشرت الهيلينية في المنطقة. كانت ميديا محاطة بالمدن اليونانية في كل مكان، وفقاً لِخطة الأسكندر المكدوني لحمايتها من الممالك المجاورة، حسب كلام (پوليبيوس Polybius)a. مدينة إكباتانا كانت المدينة الوحيدة التي حافظت على طابعها القديم. (سلوقس الأول نيكاتور Seleucus I Nicator)، الذي كان قائداً عسكرياً في جيش الأسكندر المكدوني، قام بتغييرإسم مدينة (رَي Rhagae) الى (يوروپوس Europus). بالإضافة الى هذه المدينة، يذكر سترابو أسماء مدن (لاوديسيا Laodicea) و (أپاميا هيراكليا Apamea Heraclea) أو (أچايس Achais)b. تم بناء معظم هذه المدن من قِبل (سلوقس الأول Seleucus I) وإبنه (أنتيوچس الأول Antiochus I).
في سنة 221 قبل الميلاد، حاول حاكم ميديا (مولون Molon) أن يجعل مملكته مستقلة (توجد عملات برونزية بإسمه مع لقبه الملِكي)، جنباً إلى جنب مع شقيقه أسكندر، حاكم (پيرسيس Persis)، إلا أنهم هُزِموا أمام جيش (أنتيوچس الكبير Antiochus the Great) وبعد هزيمته إنتحر (مولون). بنفس الطريقة، أصبح الحاكم الميدي (تيمارچس Timarchus) ملِكاً وقام بِغزو بابل. في النقود التي سكّها، يُسمّي نفسه الملِك العظيم (تيمارچس)، إلا أنه مرة أخرى نجح الملك (ديمتريوس الأول Demetrius I)، في إخضاع ميديا وتمّ قتل (تيمارچس). مع بدأ حُكم (ديمتريوس الأول)، حلّ إنهيار الإمبراطورية السلوقية، والذي نتج في المقام الأول عن دسائس الرومان، وبعد ذلك بوقت قصير، في حوالي سنة 150 قبل الميلاد، قام الملك الپارثي (ميثراداتس الأول Mithradates I) بِغزو ميدياc.
منذ ذلك الوقت ظلت ميديا تخضع للأشكانيين (الپارثيين) الذين غيّروا إسم (رَي Rhagae)، أو (يوروپوس Europos)، إلى (أرساسيا Arsacia)t، وقاموا بتقسيم البلاد إلى خمسة أقاليم صغيرة (Isidorus Charac). في سنة 226 م، أصبحت هذه الأقاليم بالإضافة الى (آتروپاتين) تحت حُكم الساسانيين. قام الساسانيون بإحياء الديانة الزردشتية بالإكراه في كل مكان، ثم أصبحت (آتروپاتين) المركز الرئيسي لِعبادة النار، وبُنيت فيها العديد من معابد النار وأصبحت (رَي) أكثر المدن المقدسة للإمبراطورية الساسانية ومقراً لرئيس الهيئة الدينية الزردشتية و لِآڤيستا الساسانية وتقاليد معتنقي الديانة الزردشتية ولهذا السبب تُعتبر (رَي) موطن عائلة النبي زردشت.
بعد الإحتلال اليوناني للمنطقة، لعب الميديون دوراً فعالاً في الأحداث التي حصلت في المنطقة، حيث إشتركوا في العديد من الحروب التي إندلعت فيها وكانوا يحاولون تقوية سلطتهم وتوسيع مملكتهم. بعد ضعف السلطة اليونانية في المنطقة وإزدياد النفوذ الأشكاني، كان الملوك الميديون يستغلون الخلافات القائمة بين الأشكانيين والروم لتقوية حكمهم وكانوا يُقيمون التحالفات مع القوى الأخرى تبعاً للتغيرات التي كانت تحصل في ميزان القوى في المنطقة.
بعد وفاة الأسكندر المكدوني، تجزأت إمبراطوريته وأصبحت ميديا ضمن المنطقة التي كان يسيطر عليها أحد جنرالات الأسكندر المكدوني والذي كان إسمه (سلوقس Seleucus)، حيث قام بتأسيس السلالة السلوقية. بقيت ميديا تحت الإحتلال السلوقي لمدة 64 سنة (311 – 247 قبل الميلاد). في سنة 250 أو 249 قبل الميلاد، إحتل الأشكانيون بلاد ميديا. في عهد الملك الأرمني (تيگران الثاني) (توفي في سنة 55 أو 54 قبل الميلاد)، كانت ميديا محتلة من قِبل الأرمن، حيث أن الملك الأرمني بنى عاصمته الثانية (تيگران كيرتا) في الأراضي الميديا وهي مدينة (ميافارقين) الحالية1. في الربع الأول من القرن الأول قبل الميلاد أصبحت ميديا ساحة للصراع بين القوى الإقليمية الكبرى الثلاث المتمثلة بالرومان والأشكان والأرمن، حيث تشكّلت جبهتان متصارعتان، الجبهة الأولى كانت تضم كلاً من الأشكان والأرمن والجبهة الثانية كانت مؤلفة من كل من الرومان والميديين، حيث تمّ إتخاذ مدينة (نصيبين) قاعدة عسكرية رومانية من قِبل القائد الروماني (لوكولس) ومن ثم القائد الروماني پومپَي2. تبعاٌ للتحالف الذي كان قائماً بين الميديين والرومان، وقف الملِك الميدي أردافست (أرْدَوان) الى جانب القائد الروماني (أنتونيو) في حربه ضد الأشكان والأرمن، لذلك شنّ الملِك الأشكاني فرهاد الرابع والملِك الأرمني أرداشيس الثاني (حكم من سنة 30 الى 20 قبل الميلاد) هجوماً مشتركاً على الأراضي الميدية في المنطقة الواقعة بين تبريز وهمدان وخلال هذا الهجوم إستطاع الملِك الأرمني أن يقتل الملِك الميدي أردافست. بين سنة 1 – 2 ميلادية سيطر الرومان على أرمينيا وعينوا عليها حاكماً ميدياً إسمه (أريوبازان) و بين سنة 2 – 11 ميلادية حكم أرمينيا شخصاً ميدياً آخراً إسمه أردافست الخامس3.
سلالة آتربات (atropat) حكمت بحزم لمدة خمسة قرون، وتمسكوا بعاداتهم الكوردية القديمة. الميديون في ميديا الصغرى أصبحوا أمة قوية والتي لم تتقهقر أمام جحافل الرومانيين. كان الآتروباتيون يفتخرون بأنفسهم عن جدارة، بعد ان قطعوا أوصال الإمدادات للإمبراطور الروماني (أنتونيو) في سنة 37 قبل الميلاد.
في سنة 220 - 222 قبل الميلاد، حصل ملك ميديا الصغرى( أرتبازان) على أراضي واسعة ليس فقط بإتجاه الجنوب ولكن أيضا بإتجاه الشمال من نهر آىراس. وعقد تحالفاً مع ثوار مرزبان ميديا العظمى (آرشيكوم) ضد السلوقيين. (أرشيكوم) باللغة الكوردية هو آري شاك أي الرجال اﻷريين. الإسم الأرمني أرتساخ متأتي من هذا الإسم. في سنة 138 قبل الميلاد، ميديا الصغرى غزاها ملك الپارثيين (ميثراتديس الأول)، (ميثرا دال إله الشمس ميثرا دال باللغة الكوردية).
أصبحت كوردستان بعدها تؤلف جزء من الأمبراطوريات التي تعاقبت بعد إحتلال بابل من قِبل الأسكندر المقدوني. قام الملك السلوقي أنطيوخيوس السابع (حكم من 138 ق.م - 129 ق.م) بآخر حملة كبيرة له على ميديا، إلا أنه تمّ إندحار قواته وكان بمثابة كارثة كبيرة للإغريق في الشرق وللوجود الهيليني في بلاد ما بين النهرَين4.
يذكر الباحث مهرداد إيزادي بأنه خلال القرن الأول قبل الميلاد كانت هناك ثلاث ممالك كوردية قائمة في آسيا الصغرى وهذه الممالك كانت مملكة (كاپادوكياCappadocia ) ومملكة (كوماجين Commagene) ومملكة (پونتPontus )d. خلال حُكم الملك الكوردي (ميثريدات Mithridates) العظيم (حكم من سنة 120 – 63 قبل الميلاد) ، إمتدّ نفوذ مملكة پونت من اليونان إلى جنوبي أُوكرانيا. كان ملوك مملكة (پونت) يحملون لقب ميثريدات. تمّ إسقاط هذه الممالك الثلاث من قِبل الرومان. في حديثه عن وقائع القرن الأول قبل الميلاد، يذكر المؤرخ اليوناني (پلوتارچ Plutarchus ) (120 – 40 م) أن زوجة الملك الكوردي (ميثريدات Mithridates) ملك مملكة (پونت Pontain) كانت تقود وحدة عسكرية وتقاتل إلى جانب زوجها ضد القائد الروماني (پومپَى Pompey) (106 – 64 ق.م) الذي كان يحاول غزو مملكة (پونت)d.
المصادر
1. أرشاك سافراستيان (2008). الكرد وكردستان. ترجمة الدكتور أحمد محمود الخليل، االطبعة الثانية، صفحة 48.
2. مروان المدوّر (1982). الأرمن عبر التاريخ. دار مكتبة الحياة، صفحة 155 – 157.
3. المصدر السابق، صفحة 158 – 162.
4. (زينفون (1978). ساثيو بيدي لاسبيلاس. پاريس، فرنسا، صفحة 241.
المراجع
a. Polybius x. 27.
b. Strabo xi. 524.
c. Justin xli. 6.
d. Mehrdad R. Izady: The Kurds :A Concise History And Fact Book. First Edition, page 194.
[1]