مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة الثالثة والعشرون ) الصوفي الكبير أبو القاسم الجُنَيْد ( ت 297 ﮪ ) شيخَهْ مُوكْ!
د. أحمد الخليل
ترجع معرفتي بالجُنَيْد إلى أيام الصبا.
لكنها كانت معرفة مقتصرة على اسمه فقط.
حينذاك كنت في عالم آخر.
بصراحة أكثر: كنت أعيش خارج التاريخ وخارج العالم.
وكذلك كان مجتمعي الريفي البدائي.
كنا نطل على التاريخ والعالم عبر الخرافات والأساطير.
وكنا نعد الغث والسمين منها مقبولاً.
بل كنا نعدّها حقائق لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها.
حينذاك.. في قريتي كُرْزَيل Korzail (قُرْزَيْحِل)، وفي ضحى يوم ربيعي جميل، سمعت فجأة ضربات دُّف وإيقاعات صَنْج، وألحان أغنية غير معهودة تنطلق بالقرب من دارنا، كانوا رجالاً غرباء ثلاثة، كانوا يرتدون ثياباً غريبة أيضاً، عرفتهم.. كان الكبار يسمّونهم (شيخَهْ مُوكْ)، وكذلك كنا- نحن الصغار- نسميهم.
كل ما كنت أعرفه حينذاك أن تسمية (شيخَهْ مُوكْ) الكردية هذه تتضمن دلالات الاستصغار والازدراء، فال (شيخَهْ مُوكْ) أناس يتجوّلون في الأرياف، ويضربون على الدفوف ويقرعون الصُّنوج، ويغنّون بعض الأغاني الدينية، رجاء أن يجود عليهم القرويون ببعض الطحين أو البرغل أو الزيت، وكثيراً ما سمعت بعض رجال قريتي ونسائها يعبّرون عن عدم رضاهم عن تصرفات شخص ما أو هيئته فيقولون: إنه (شيخَه مُوكْ)!.. كأنه (شيخَه مُوكْ)!
وبعد زمن طويل اكتشفت في لقب (شيخَهْ مُوكْ) أمراً آخر.
ألا إن الحكمة تقول: ” أن تصل متأخراً خيرٌ من ألا تصل أبداً “.
وأقول لنفسي: أن تعرف متأخراً خيرٌ من ألا تعرف أبداً.
مُوغْ.. وليس (مُوكْ)!
إن تسمية (شيخَهْ مُوكْ) هذه تتألف من كلمتين: الأولى عربية هي (شيخ) بمعنى (رجل الدين)، والثانية كردية هي (مُوكْ)؛ فماذا تعني كلمة (مُوكْ)؟ وما حقيقة هذا التركيب؟ ولماذا صيغ بهذه الكيفية؟ وكيف اكتسبت تلك الدلالة الدونية في مجتمعنا الكردي؟
أحسب أن تسمية (شيخَهْ مُوكْ) تخفي في طيّاتها واحدة من أكثر الشرائح التراثية الكردية أصالة، شريحة قطعت رحلة تراجيدية يقارب عمرها ثلاثة آلاف عام، فالمعروف في المصادر التاريخية أن الكرد، وسائر الشعوب الآريانية، كانوا يعتنقون الديانة الميثرائية، نسبة إلى الإله الآري ميثرا Mithras (ميثرو)، وهو إله يحفظ الحقوق والنظام، ويقضي على قوى الشر، كما أنه إله الضياء الآري القديم، وكان يُرمز إليه بالشمس.
ثم أحدث النبي الميدي الأصل زَرْدَشْت تطويراً في العقيدة الميثرائية، وأطلق أتباعه على الإله (ميثرا) اسم أهورامزدا (إله الخير)، ثم جرى في الزردشتية نفسها تطوير آخر، وظهرت العقيدة الزُرڤانية، نسبة إلى زُرْڤان Zorvan (زُرْوان) إله الخير والنور، وفيه توحّد كلٌّ من إله الخير أهورا مزدا وإله الشر أهريمن، وأصبحا تكويناً إلهياً واحداً بلا ثنائية.
وعلى امتداد هذه التحولات العقدية بين الشعوب الآرية في غربي آسيا، ومنهم الكرد، كان رجال الدين يحملون لقب (مُوغ)، كما يقال في بعض الديانات (كاهن) و(شامان)، وفي اليهودية (حَبْر)، وفي المسيحية (بطريرك)، وفي الإسلام (الإمام)، أو (الشيخ)، أو (حجة الإسلام)، أو (آية الله)، أوغير ذلك.
وكان الموغ – حسبما ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوت- ينتمون حصراً إلى قبيلة ميدية ذات شأن، وعندما غزا الإغريق بلاد ميديا وفارس، في القرن الرابع قبل الميلاد، بقيادة الإسكندر المكدوني، سمّوا الموغ (ماغوس)، ونسبوا إليهم البراعة في السحر والإتيان بالخوارق، ويبدو أن صيغة (ماغوس) الإغريقية دخلت في الأدبيات المسيحية بعد ذلك، واقتبسها العرب، واستعملوها بصيغة (مَجُوس)، وأطلقوها على جميع أتباع الزردشتية.
وصحيح أن الشعوب قد تتخلّى – طوعاً أو كَرْهاً- عن ديانة ما، وتعتنق ديانة أخرى، لكنها لا ترمي تراثها وراء ظهرها دفعة واحدة، بل إن ذلك مستحيل أصلاً، لأن بعض البنى والصيغ والمصطلحات الدينية الخاصة بمنظومة عقدية ما، في أي عصر كان، تخالط ثقافة الشعب كما تخالط الروح البدن، فتستعصي على الاندثار، وتجد لها مواقع في المنظومة العقدية الجديدة، وإن كان ذلك بشكل محوّر، بل قد يُبقي عليها سدنة المنظومة العقدية اللاحقة، من باب التنفير والتشنيع والازدراء.
وأرجّح أن هذا ما حدث لمصطلح (موغ) العقدي الميثرائي الزردشتي الزرڤاني، فبعد أن اعتنق الكرد الإسلام في القرن السابع الميلادي لم يتمّ القضاء قضاء تاماً على البنى الثقافية الزردشتية، وبقي لقب (موغ) الديني يدور على ألسنة الجماهير الكردية، واقترن باللقب الإسلامي (شيخ)، وانتهى به الأمر عبر القرون إلى صيغة محرَّفة جديدة هي (مُوك)، واكتسبت الصيغة الجديدة (شيخَهْ مُوكْ)، بتأثير الثقافة الإسلامية المعادية للمجوسية، دلالات الدونية والازدراء في الوسط الشعبي الكردي المسلم.
اكتشاف الجنيد
كان غرضي من هذا المدخل تِبيان أمور ثلاثة أراها مهمة:
– أولها أن (المقدسات) تتصارع، ويفترس القوي منها الضعيف.
– وثانيها أن الشعوب قد تزدري بعض بنى ثقافاتها من حيث لا تدري.
– وثالثها أهمية مراجعة الرموز والمصطلحات في الثقافة الشعبية، وقراءتها قراءة تاريخية فاحصة؛ لاكتشاف العلاقات بين صيغها المعاصرة، وجذورها التاريخية العريقة.
ولنعد إلى اليوم الربيعي وجوقة المنشدين ال (شيخَهْ مُوكْ).
كان أحدهم يضرب بالدُّفّ، وآخر يقرع الصَّنج، وكانا ينشدان معاً بالكردية أغنية ذات طابع ديني إسلامي، أما الثالث- وكان ضخماً ممتلئ الجسم- فكان يصول ويجول كأنه في ساحة معركة، ويصرخ صرخات حماسية مديدة، ويلوّح بدبّوس متوسط الحجم، له مقبض حديدي رفيع مدبَّب، ثم يرمي به عالياً في الهواء، ويتلقّفه بيده، كان ذلك أمراً مدهشاً بالنسبة إلينا نحن الصبية، وما كنا نعرف حينذاك أن رأس الدبوس هو مركز الثقل، وهو الذي يهبط أولاً، وأن الرامي كان على ثقة بأن الطرف المدبّب سيبقى في الجهة العليا، ولن يخترق يده.
وأذكر من جملة ما أذكر أن رامي الدبوس كان ينادي، وهو يرمي بدبوسه في الهواء، قائلاً: يا إمام علي! يا عبد القادر كَيْلاني! يا جُنيد! تصوّرت حينذاك أن هذه شخصيات أسطورية ذات قدرات خارقة، وأنها تُمِدّ رامي الدبوس بقوة إعجازية كافية، تجعله قادراً على جعل الدبوس يهوي كل مرة بحيث يكون الرأس المدوّر إلى الأسفل، والنهاية المدبّبة إلى الأعلى.
تلك كانت المرة الأولى التي سمعت فيها اسم الجُنيد، والفضل في ذلك للسادة ال (شيخَهْ مُوكْ)، وبعد أن أفلتّ من براثن الفكر البدائي، وانهمكت بالمطالعة، فقرأت الشعر، وانتقلت من الشعر إلى الفلسفة، وانتقلت بعدئذ إلى التراث الإسلامي، إذا بي ألتقي بالجنيد في كتب التصوّف، وإذا به أحد كبار رجالات التصوّف ومنظّريها، ووجدتُني شديد الإعجاب بحكمه ومقولاته، وكان من حسن حظي أني انتقلت منذ قرابة عشرين عاماً إلى قراءة التاريخ، وعندئذ اكتشفت أن الجنيد كردستاني أصيل.
وكي أبسط الحقيقة أمامكم لا بد من (الجغرافيا).
بلى، لا بد من العودة إلى جغرافية كردستان.
وتحديداً إلى المدينة العريقة (نَهاوَنْد).
فماذا عنها؟
نَهاوَنْد
كان يطلق اسم (بلاد الجبل) أو (إقليم الجبال) على جنوبي كردستان (تقع اليوم في شمالي العراق وغربي إيران)، وفي بلاد الجبل تلك تقع مدينة (نهاوند) القديمة، قال عنها ياقوت الحموي في (معجم البلدان):
” نهاوند بلدة من بلاد الجبل قديمة، بينها وبين هَمَذان ثلاثة أيام، فُتحت سنة تِسعَ عشْرةَ أو عشرين، في خلافة عمر بن الخطاب “.
وكانت كردستان – كما هو معروف- تابعة للدولة الساسانية الفارسية قبل الفتح الإسلامي، وقد دارت بعض أشد المعارك ضرواة بين العرب المسلمين والجيش الفارسي في جنوبي كردستان، ومنها المعركة المعروفة في كتب التاريخ الإسلامي باسم (معركة نهاوند)، وذكر البلاذري في (فتوح البلدان، ص 303) أن المسلمين هزموا الجيش الفارسي، وفتحوا نهاوند صلحاً بقيادة حُذَيْفة بن اليَمان.
أما كردستانية نهاوند فنستدل عليها مما دوّنه الجغرافيون المسلمون بالقدامى في كتبهم، وهي واحدة من أبرز حواضر (إقليم الجبال) كما مر، وكما جاء في خريطة (إقليم الجبال) التي رسمها ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض)، وقد وصف اليعقوبي في كتابه (البلدان، ص 6) بلاد الجبل بأنها ” دار الأكراد “، ومادام الأمر كذاك فمن الطبيعي أن تكون نهاوند كردستانية.
نشأة الجنيد
ومن نهاوند الكردستانية خرجت أسرة الجُنَيْد بن محمد، أما هو نفسه فقد ولد ونشأ في بغداد، وكنيته أبو القاسم، وعرف بالخَزّاز والقَواريري، إذ كان خزّازاً يتّجر في الخزّ (نوع من الحرير)، وكان أبوه يبيع قوارير الزجاج.
وهذا يعني أن الجنيد كان من أسرة متوسطة الحال، تمارس التجارة، ونجده مع ذلك علماً بارزاً من أعلام التصوّف في عصره (القرن الثالث الهجري)، والدليل على ذلك أمور ثلاثة: أقواله وأفعاله، وكثرة المهتمين بترجمته، وحرص الذين ترجموا لغيره من الصوفية على أن يقولوا في تراجم بعض الصوفية:
” من أقران الجنيد”، ” كان الجنيد يقول فيه: .. “، ” صحب الجنيد “، ” مات قبل الجنيد ..”، ” من كبار أصحاب الجنيد “، ” لقي الجنيد .. “، ” من أقارب الجنيد وجلسائه “، ” وكان في عصر الجنيد، وكان الجنيد يقول بفضله “، ” أخذ عن الجنيد “، ” أبوه صحب الجنيد “.
وهكذا دواليك.
رحلته الصوفية
ولا نعرف إلا القليل عن بدايات تحوّل الجنيد إلى التصوّف، فالذين ترجموا له ذكروا أنه تتلمذ على خاله الصوفي سَرِيّ السَقَطي (ت 253 ﮪ) وجاء في (الرسالة القشيرية) أن سَرِيّ السقطي كان وحيد زمانه في الورع وأحوال السنة وعلوم التوحيد، وهو تلميذ الصوفي الكبير معروف الكرخي (ت 200 ﮪ)، وكان سريّ أيضاً تاجراً.
ويبدو أن الجنيد صحب خاله سَرِيّ السقطي مدة طويلة، إضافة إلى تتلمذه على جماعة من مشايخ الصوفية، منهم الحارث المُحاسبي (ت 243 ﮪ)، وقد قيل في الحارث: ” لا نظير في زمانه علماً وورعاً ومعاملة وحالاً “، كما درس الجنيد الفقه على إبراهيم بن خالد بن اليمان المشهور بكنية أبي ثَوْر الكلبي صاحب الإمام الشافعي، وأحد الأئمة المجتهدين.
ومهما كان من أمر فقد كان عند الجنيد استعداد لأن ينحو منحى الصوفية منذ صغره، ولا شك أن للوسط الاجتماعي الذي عاش فيه تأثيراً كبيراً في هذا المجال، وفي حديثه عن صباه إشارة واضحة إلى ذلك، لقد قال:
” كنت بين يدي سَريّ ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلّمون في الشكر. فقال لي: يا غلام، ما الشكر؟ قلت: الشكر ألا تعصي الله بنعمه. فقال: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك! قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السَرِيّ “.
ويبدو أن سريّ السقطي كان يتوسّم الخير في ابن أخته الجنيد، ويلمس فيه تباشير الفطنة والتأمل والصلاح، وإلا ما كان ليسأله ذاك السؤال الدقيق الذي لا يتناسب والقدرات الفكرية للصبية، ولعله كان يحاول بذلك أن يوجّه ابن أخته إلى دائرة التصوف، ويشجّعه على المضي فيه، وها هو ذا الجنيد يذكر خبراً آخر يعزّز ما نذهب إليه، قال:
” قال لي خالي سريّ السقطي: تكلّم على الناس! وكان في قلبي حِشمة من ذلك، فإني كنت أتّهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم- وكانت ليلة جمعة- فقال لي: تكلّم على الناس! فانتبهت، وأتيت باب سريّ قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: لم تُصدّقنا حتى قيل لك! فقعدت في غدٍ للناس بالجامع، وانتشر في الناس أني قعدت أتكلّم، فوقف عليّ غلام نصراني متنكّر، وقال: أيها الشيخ، ما معنى قوله عليه السلام: (اتّقوا فِراسِة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)؟ فأطرقت، ثم رفعتُ رأسي فقلت: أسلمْ، فقد حان وقت إسلامك! فأسلم “.
هكذا بدأ الجنيد تجربته التصوّفية بإيمان عميق، وهو إلى هذا معدود في طبقات فقهاء الشافعية المرموقين، وحسبنا دليلاً على ذلك أنه كان يفتي بحلقة أبي ثَوْر الكلبي وله من العمر عشرون سنة فقط. قال علي بن إبراهيم الحدّاد:
” حضرت مجلس ابن سُرَيْج الفقيه الشافعي، فكان يتكلّم في الفروع والأصول بكلام حسن عجيب. فلما رأى إعجابي قال: أتدري من أين هذا؟ قلت: لا! قال: هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد “.
ونفهم من هذا الخبر أن الجنيد لم يقتصر في حديثه إلى الناس على علم الحقيقة وأحوال التصوّف فقط، وإنما كان ضليعاً في علوم الشريعة أيضاً.
من أحواله وأقواله
ونذكر من أحوال التصوّف التي نقلت عن الجنيد الخبرين الآتيين:
قال أبو عمرو بن علوان، وهو ممن صحب الجنيد وأخذ عنه:
” خرجت يوماً إلى سوق الرَّحْبة في حاجة، فرأيت جنازة، فتبعتها لأصلّيَ عليها، فوقفت حتى تدفن، فوقعتْ عيني على امرأة مُسفِرة، من غير تعمّد، فألححت بالنظر إليها، واسترجعت واستغفرت الله تعالى، وعدت إلى منزلي. فقالت عجوز لي: يا سيدي، مالي أرى وجهك أسود؟! فأخذت المرآة فنظرت، فإذا ﮪو كما قالت، فرجعت إلى سِرّي أنظر من أين ذهبتُ، فذكرتُ النظرة، فانفردت في موضع، أستغفر الله، وأسأله الإقالة أربعين يوماً، فخطر في قلبي أن زُرْ شيخك الجنيد، فانحدرت إلى بغداد، فلما جئت حجرته طرقت الباب، فقال لي: ادخل أبا عمرو! تذنب بالرحبة، ونستغفر لك ببغداد “.
وقال أبو الحسن خير النسّاج (صوفي أصله من سامرّاء، وعاش ببغداد):
” كنت يوماً جالساً في بيتي، فخطر لي خاطر أن الجنيد بالباب فاخرجْ إليه، فنفيته عن قلبي، وقلت: وسوسة! فوقع لي خاطر ثانٍ بأنه على الباب فاخرجْ إليه، فنفيته عن سِرّي، فوقع لي ثالث، فعلمت أنه حق، ففتحته، فإذا بالجنيد قائم، فسلّم عليّ، وقال لي: يا خير! لِمَ لا تخرج مع الخاطر الأول “؟!
وجاء في (طبقات الأولياء) لابن المُلقِّن:
” كان يقال: في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم: أبو عثمان الحِيري بنيسابور، والجنيد ببغداد، وأبو عبد الله الجلاّء بالشام “.
ويخرج المرء من سيرة الجنيد بنتيجة مفادها أنه لم يكن صوفياً من الغلاة الذين يقولون بالحلول والاتحاد، ولا من أولئك الذين قالوا بإسقاط التكليفات الشرعية؛ إن تصوّفه يرتكز على إيمان عميق، وتمسّك شديد بالسنة النبوية، وحرصٍ كبير على التزام ما جاءت به الشريعة الإسلامية، وهو القائل في هذا الصدد:
” الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر رسول الله عليه الصلاة والسلام “.
وقال أيضاً:
” من لم يحفظ القرآن الكريم، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنّة “.
ومن أقواله التي تدعو إلى التأمل:
– ” من طلب عزّاً بباطل أورثه الله ذلاًّ بحقّ “.
– ” من همّ بذنب لم يفعله ابتُلي بهمّ لم يعرفه “.
– ” الأدب أدبان: أدب السرّ، وأدب العلانية؛ فالأول طهارة القلب من العيوب، والثاني حفظ الجوارح من الذنوب “.
– وسئل من العارف؟ فقال: ” من نطق عن سرّك وأنت ساكت “.
– وسئل: أنطلب الرزق؟ فقال: إن علِمتم في أيّ موضع هو فاطلبوه. فقالوا: نسأل الله ذلك؟ فقال: إن علمتم أنه نسيَكم فذكِّروه. فقالوا: ندخل البيت، ونتوكّل على الله؟ فقال: تجرّبون الله في التوكل؟! فهذا شك. قالوا: فكيف الحيلة؟ قال: تركُ الحيلة.
– وقال شعراً:
وإنّ امرَأً لم يَصْفُ لله قلبُه لفي وَحشة من كل نظرةِ ناظرِ
وإنّ امرَأً باع دنيا بدينه لَمُنقلِبٌ منها بصفقةِ خاسرِ
– – – – –
قال أبو بكر العطار:
حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلّي ويَثني رجله، فثقلت عليه حركتها، فمدّ رجليه وقد تورّمتا فرآه بعض أصحابه، فقال: ما هذا يا أبا القاسم؟! قال: هذه نِعَم، الله أكبر! فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجُرَيري: لو اضطجعت! قال: يا أبا محمد! ﮪذا وقت يؤخذ منه؟! الله أكبر. فلم يزل ذلك حاله حتى مات، وكان ذلك سنة (297 ﮪ).
المصادر
1- إحسان يار شاطر: الأساطير الإيرانية القديمة، ترجمة محمد صادق نشأت، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1965م.
2- أرنولد توينبي: مختصر لدراسة التاريخ، ترجمة فؤاد محمد شبل، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، الطبعة الأولى، 1964م.
3- البلاذري: فتوح البلدان، عني بمراجعته والتعليق عليه رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م.
4- ابن حوقل: صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979م.
5- ابن خَلِّكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1968م.
6- دياكونوف: ميديا، ترجمة وهيبة شوكت، دمشق.
7- الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.
8- السُّلمي: طبقات الصوفية، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1986م.
9- الشَّعْراني: الطبقات الكبرى، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م.
10- القشيري: الرسالة القشيرية، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
11- ابن الملقّن: طبقات الأولياء، حققه و خرجه نور الدين شريبه، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973م.
12- ياقوت الحموي: معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1977م.
13- اليعقوبي: البلدان، ضمن كتاب الأعلاق النفيسة لابن رُسْته، مطبعة بريل، ليدن، 1891 م.
وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة والعشرين.
د. أحمد الخليل في 03-09-2006
[1]