*شيفان إبراهيم
في اليوم العالمي للغة الأم
لا لغة رسمية سوى العربية في سوريا، وعلى الجميع التحدّث بها وحدها، ويُمنع الكتابة بغيرها. هذه كانت إحدى أقسى التوجّهات والممارسات التي دأبت عليها الحكومات السورية المتعاقبة على سدّة الحكم، خاصة وأن اللغة هي الحامل الرئيسي والركيزة الأساسية للهويّة القومية لأيّ شعب.
لذلك لم تشهد سوريا ومنذ تاريخ نشأتها أيّ اعترافٍ رسمي باللغة الكردية، بل بقيت محظورة وممنوعة من التداول الرسمي في المؤسسات الحكومية والمدارس والجامعات والاعلام.
ومُنع من افتتاح أيّ مركزٍ تعليمي للغة الكردية بشكل رسمي ومباشر، ما خلا الدورات التدريبية والتعليمية التي كانت تقوم بها الأحزاب الكردية سرّاً.
وخلال العقود الماضية أُعتقل العشرات من مُدرّسيها ولُحقَ الأهالي الراغبينَ بتعليمها، وكثيراً ما صُدرت أجهزة الطباعة والنشر المستخدمة في نسخ الأوراق التي تحتوي على حروفٍ ومفرداتٍ أو نصوصٍ تعليمية باللغة الكردية.
والمؤسف أن المرحلة الوحيدة التي شهدت خلالها سوريا انتعاشاً للغة الكردية، كانت خلال فترة الانتداب الفرنسي، والتي سمحت للمثقفينَ والكتّاب الكُرد بإصدار دوريات ثقافية باللغة الكردية، لكنها لم تدرّس في المدارس.
وما أن أُعلن عن جلاء الفرنسيينَ، حتى تم إلغاء نشر أيَّ شيء بغير اللغة العربية، وبل زادت مشاريع صهر وإلغاء الأخر المختلف قومياً، وتوسّعت سياسة المضايقات والملاحقات الأمنية لمنع طباعة ونشر وتداول كل ما له علاقة باللغة الكردية، وغالبية المراسيم كانت سرّية أو تعاميم خاصة تمنع تداول وتعليم اللغة الكردية؛ كي لا تترك الحكومة السورية خلفها دلال على قمع الكُرد.
لكن بمجرد ضرب الطلاب لتحدّثهم بلغتهم، ومنع الطباعة، أو النشر باللغة الكردية، ومنع فتح الدورات الخاصة باللغة الكردية، واعتقال من يقتني كتب كردية، وعدم الاعتراف الدستوري بها، والاختصار على العربية كلغة رسمية وحيدة في البلاد، فإنه يُفهم ويُستنتج وجود تلك القرارات. خاصة وأن دستور عام1973 أكدت المادة الأولى دوماً على مصطلحات ومفهوم العروبة.
يوم عالمي للغة الأم؟
وأعلنت اليونسكو 21 شباط/فبراير من كل عام يوم للغة الأم، واعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فيما بعد، وأكدوا على أهمية دور الألسن في تعزيز الإدماج وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، كما عنونت موضوع عام 2024 ب”التعليم متعدد الألسن بوصفه أحد ركائز التعليم والتعلّم بين الأجيال” واعتبرته ضرورة للتعليم الشامل ولصون ألسن السكان الأصليين. و ببدء التعليم بلسان المتعلم الأم وإدخال ألسن أخرى إدخالاً تدريجياً، تُردم الهوة بين المنزل والمدرسة، مما يسهل التعلّم الفعال.
في سوريا بقي الوضع على ما هو عليه، قمعٌ وإنكارٌ وإلغاء، حتى بدأ الحِراك السوري، وانخراط الكُرد فيه بفاعلية كبيرة، وبدأت الأحزاب السياسية الكردية والمنظمات الشبابية بتعليم اللغة الكردية على نطاق واسع، عبر سلسلة دورات أو افتتاح مراكز خاصة بها.
وبعد سيطرة الإدارة الذاتية على مجمل مفاصل الحياة العامة في تلك المناطق، سعت لفرض مناهجها المدوّنة باللغات الثلاث الكردية والعربية والسريانية.
تدريس اللغة الكردية.. إلى ماذا تسعى حكومة دمشق؟
ورغم حجم التشنّجات والرفض المجتمعي لتلك المناهج لأربع أسباب متشابكة،
أوّلها: غياب الاعتراف الرسمي من أيّ جهة سواء الحكومة السورية، أو جهات إقليمية أو دولية بالشهادات الصادرة عن تلك المناهج،
وثانيها: عدم كفاءة الكوادر التعليمية المتخصصة،
وثالثها: غياب المنهجية العلمية الواضحة في الإعداد والتأليف،
ورابعها: الإشارات الأيديولوجية في تلك المناهج.
لكنها حققت تطوّراً ملحوظاً في زيادة عدد الجيل الناشئ المتمكّن من الكتّابة والتعبير باللغة الكردية، لكنها أيضاً ساهمت في تحفيز رغبة الهجرة لدى أخرين، بسبب ضبابية مستقبل تلك الشهادات.
بقيت اللوحة التعليمية على حالها، سيطرة “الإدارة الذاتية”، وفرض مناهج بلغات متعددة، و انقسام مجتمعي بين رافضٍ ومؤيدٍ لها في عموم المناطق الكردية، ومنها عفرين.
عفرين وتبدلات لغوية
تغير حال اللغة الكردية هناك؛ بعد سيطرة فصائل المعارضة السورية عليها عقِب عملية “غصن الزيتون” في آذار/مارس 2018، حيث أصدرت “وزارة التربية في الحكومة السورية المؤقتة” التابعة “للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” مناهج خاصة، من بينها تخصيص أربع حصص للغة الكردية ومثلها للغة التركية، لكنها تقلّصت في العديد من النواحي والمناطق ضمن عفرين إلى حصتين فقط وأحياناً حصة واحدة لا غير، وأُلغيت في أماكن أخرى بحجة عدم وجود كوادر لتدريسها، خاصة بعد هجرة الغالبية العظمى من مدرّسي الإدارة الذاتية نتيجة العملية العسكرية.
بدوره أكد أسعد بطال من أهالي مدينة عفرين وعضو في الحزب “الديمقراطي الكردستاني” –سوريا لموقع “الحل نت”، غياب الاهتمام بواقع اللغة من فتح العديد من المراكز والمعاهد التعليمية لها، أو إدراجها ضمن معهد تعليم اللغات في الجامعات التابعة للمعارضة السورية، وعدم تأهيل الكوادر العلمية، واعتبارها لغة ثانوية في المناهج التعليمية بعد العربية والتركية والإنكليزية من جهة عدد الحصص، ومعاملتها كمادة غير مؤثرة في المعدل العام للدرجات، بسبب عدّها لغة اختيارية في امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية.
ما جعلها ذا قيمة تربوية أقل من التركية والعربية. كما شكّل التعليم بالعربية وحدها عقبة ومشكلة كبيرة أمام الطلاب؛ نتيجة تلقّيهم سابقاً مناهج باللغة الكردية، والعربية كأي لغة، حال عدم استعمالها يؤدي لنسيانها.
الجديد في الموضوع حالياً وفقاً للسيد بطال أنه تم إدراج اللغة الكردية ضمن خطة تعليمها للطلاب الكُرد في جامعتي “أعزاز” و”عفرين” التي تم ربطها بجامعة “غازي عنتاب” التركية بمرسوم رئاسي تركي وفقاً للمادة 30 من قانون تنظيم مؤسسات التعليم العالي رقم 2809، والمادة 39 الإضافية من قانون التعليم العالي رقم 2547، ويتم الاعتماد على خبرات ومدرسين محليين. وتواصل موقع “الحل نت” مع الدكتور عبد المجيد شيخو المشرف على تعليم اللغة الكردية ب “جامعة حلب الحرة”، لكنه تجاهل اتصالنا به عدّة مرات، في حين اشتكت أفين عليوي من أهالي ناحية شيران وهي طالبة في “جامعة عفرين” من كون اللغة الكردية لغة اختيارية مع اللغة الإنجليزية في السنة الأولى، ونوّهت أفين أن هناك ضعف في مستوى المدرسينَ، وغياب الكفاءات التدريسية، والخوف من مستقبلهم بعد التخرج في ظل غياب أيّ اهتمام باللغة الكردية في المدارس، وعدم افتتاح معهد أو فرع للغة الكردية، أو قسم الأدب الكردي.
صراع اللغات في شرق الفرات
لا تزال اللغة الرسمية في المخاطبات والتدوين والمراسلات التابعة ل “الإدارة الذاتية”، غالبيتها باللغة العربية، رغم تأكيد العقد الاجتماعي الجديد والذي أصدرته تلك “الإدارة” قبل أسابيع على التعددية اللغوية، وأن الكردية من بين اللغات الرسمية في البلاد في لغة المخاطبات والمراسلات، ولم يتلقَّ موقع “الحل نت ” أيّ ردٍّ حول عدم اعتماد الكردية كلغة رسمية في تلك المراسلات، ما عدا “إن المكونات الأخرى لا تجيد القراءة والكتابة باللغة الكردية”، وفقاً لمصدر خاص ضمن “الإدارة الذاتية”، في حين يرى الأكاديمي الكوردي فريد سعدون، أن “اللغة الكردية تجاوزت عتبة لغة التخاطب والتفاهم لتصبح لغة تجاري التطورات الحالية، كالتكنولوجية والاجتماعية، وساعدها في ذلك دخول اللغة في محركات البحث وأصبحت لغة تدريسية في المدارس والجامعات”، مضيفاً أن الكُرد بحاجة إلى لغة موحّدة متّفق عليها في كافة المناطق لتلافي الخلل في اللهجات، ومراعاة للحدود السياسية التي تفصل بين الكُرد في الأجزاء الأربعة، والكُرد بحاجة لبناء مجمع اللغة الكردية لتوحيد الأبجدية واللهجة، لتكون هي اللغة الرسمية المتّفق عليها، ولتلافي صعوبة التفاهم بين الكُرد حول العالم.
تواجه مناهج “الإدارة الذاتية” في شمال شرق سوريا تحديات متعددة بسبب اختلافات لغوية وثقافية في المنطقة. في دير الزور والرقة، على سبيل المثال، تغيب هذه المناهج بشكل كامل عن المدارس، وهناك تجاهل واضح من الطلاب السريان لها.
بالإضافة إلى ذلك، يوجد اهتمام ضعيف جدّاً من الطلاب العرب في الحسكة تجاه المناهج المقدمة باللغة العربية، و تباين ملحوظ في مواقف الطلاب الكُرد بين اختيار مدارس “الإدارة الذاتية” ومدارس “الحكومة السورية”. على الرغم من الاحتكار اللغوي في المناهج السورية، التي تقتصر على اللغة العربية فقط وتحظر أيّة إشارات للغة الكردية حتى في إطار حصة أسبوعية، تستقطب هذه المناهج إقبالاً أكبر من الطلاب مقارنة بمناهج “الإدارة الذاتية”، سواء في المدارس أو الجامعات.
رضوان أحمد، موجّه تربوي في مديرية التربية بالحسكة، أشار إلى أن عدد الطلاب في الفصول المدرسية بالمدارس “الحكومية” يصل إلى 80 طالباً، بينما لا يزيد في مدارس “الإدارة الذاتية” عن 20-25 طالباً. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر الإحصاءات أن “الإدارة الذاتية” تسيطر على 115 مدرسة كانت تحت إدارة “وزارة التربية السورية”، في حين تدير “الحكومة السورية” حوالي 125 مدرسة بنظام الدوامين الصباحي والمسائي. على الرغم من جهود “الإدارة الذاتية” لتقليل الإشارات الأيديولوجية، إلا أن هناك معارضة واضحة من مختلف الفئات الشعبية، بما في ذلك الكُرد، لهذه الإشارات.
كما تتواجد في محافظة الحسكة ثلاث جامعات، واحدة خاصة في القامشلي باسم “جامعة قرطبة” تتبع إدارياً لوزارة التعليم العالي السورية، وأخرى “حكومية” في الحسكة وهي فرع من “جامعة الفرات” في دير الزور، لا يُسمح فيهما بغير اللغة العربية للتدريس، أما الثالثة فهي تابعة ل “الإدارة الذاتية” التي افتتحت جامعة في الحسكة باسم جامعة “روج آفا”، وأخرى في عين العرب/كوباني تم افتتاح فرع الأدب الكردي فيها، تعاني هي الأخرى من غياب المتخصصينَ في الأدب الكردي، وضعف مستوى الكوادر التعليمية، وفقدانها لأيّ اعتراف رسمي بها، وهي مستمرة في تدريس اللغة الكردية منذ بدايات سيطرتها على المنطقة.
ورغم زيادة عدد المجلات و الجرائد والمنشورات والمواقع الإلكترونية، وتوسيع هوامش الحرية للتدوين والكتابة، لكن اللغة الكردية لا تزال دون مستوى المأمول، وفقاً لما أكده الناشر وصاحب مطبعة كُتب في مدينة الحسكة مروان خليفة لموقع “الحل نت” على ضعف الإقبال على التدوين والكتابة باللغة الكردية، وبل أن الفكر والثقافة الكردية مدوّن ومطبوع بالعربية، لأسباب أعادها أبرزها غياب الترويج المالي للمنتوج باللغة الكردية، وربطه الإقبال على اللغة بالعامل المادي والتجارة والاقتصاد أكثر من السياسة والعسكرة، وغياب الإقبال العربي على قراءة اللغة الكردية، لجهلهم بها، وإذا كانت القراءة باللغة العربية ضعيفة، فكيف والحال مع الكردية ونشرها، في حين يخالفه الرأي الأكاديمي والسياسي الكوردي فريد سعدون، قائلاً “إن اللغة الكردية استفادت من التطورات الإعلامية وافتتاح الكثير من القنوات ومحطات الراديو والمواقع التي تنشر المحتوى باللغة الكردية الأم”.
تغيرات كثيرة..ولكن؟
وتشكّل حركة الترجمة واحدة من أكثر القضايا التي تؤثر على مستقبل اللغة الكردية وترسيخها لدى باقي المكونات؛ فهي تعاني من ضعف كبير في حركة الترجمة من وإلى كافة اللغات، وهي وفقاً للكاتب الحقوقي والمدوّن باللغتين العربية والكوردية معاذ يوسف، تعود إلى غياب الاعتراف الدستوري بها، وحرمان الكُرد من حقوقهم اللغوية في التعليم والإعلام ولغة التدوين والمخاطبات الرسمية، واستمرار سياسة الإنكار للتعددية اللغوية، ويحتاج الكُرد للمزيد من ترسيخ اللغة الكردية عبر مناهج مدرسية معترفٌ بها، وهو أمرٌ مرتبط بحالة الحرب التي تعيشها البلاد. ومن السهل ملاحظة حجم غياب حركة ترجمة الكتب الفلسفية والعلوم وأدب الأطفال للغة الكردية، الاكتفاء بحركة الشعر والرواية فحسب.
وأضاف معاذ اليوسف، أن عدم تمكّن النُخب العربية من القراءة أو الكتابة باللغة الكردية، رغم استعمال الكردية للأحرف اللاتينية، وكل ما يتم ترجمته للعربية هي عبر المترجمينَ الكورد، وهي تُشكل مفارقة سلبية، فالمدونون السوريون مُطّلعين على أدب ولغة الآخر البعيد، وهي بطبيعة الحال جزء من التطور الحضاري والانخراط في الشأن العام، لكنهم يجهلون أبسط المعلومات عن الأدب واللغة الكردية، وهذا الجهل باللغة الكردية سببه الأساسي الإنكار والتهميش السياسي للكُرد وتراثهم ولغتهم.
وفي لقاء “للحل نت” مع المحامي محمود سيدو، طالب بتثبيت اللغة الكردية كلغة رسمية في البلاد، ومراعاة خصوصيتها في المناطق ذات الغالبية الكردية، وتأسيس مناهج تعليمية بأكثر من لغة، وتخصيص مساحة جيدة للغة الكردية في الإعلام الحكومي الرسمي.
وتؤكد الجهات الدولية كالأمم المتحدة واليونسكو وغيرها، أن التعليم متعدد الألسن لا يعزز المجتمعات الشاملة فحسب، بل يساعد كذلك في صون الألسن الثانوية في المجتمع من مثل ألسن الأقليات والسكان الأصليين. وذلك هو حجر الزاوية لتحقيق التيسير العادل في الحصول على التعليم وفرص التعلم مدى الحياة أمام الجميع.
وهو ما يفرض على مستقبل البلاد في سوريا وفقاً لبيانات أغلب الأطراف السياسية والحزبية الكوردية، الاهتمام الجَدّي والفعلي باللغة الكردية وباقي اللغات الأخرى، بما يضمن لها الانتعاش والبقاء والحفاظ على أصالتها وتاريخانيتها، وضرورة جعلها لغة رسمية في مناطق الكُرد التاريخية، ولغة أساسية في الجامعات وكليات الآداب، وضمان الاعتراف الدستوري بها.[1]