#بيار روباري#
سنتناول في هذه الدراسة التاريخية المختصرة، هوية وتاريخ مدينة “إيمار” الأثرية، التي يعود تاريخها إلى ما قبل (3000) الألف الثالث قبل الميلاد، والتي تقع على الضفة الغربية لنهر الفرات، عند بدايات تشكل بحيرة سد الفرات. وتبعد عن مدينة الطبقة المتاخمة للسد بنحو (80) كيلومتر، وعن مدينة حلب غربآ بحوالي (100) كم. وهي واحدة من المدن الخورية – الكردية الفراتية الأثرية، الواقعة غرب نهر الفرات في غرب كردستان.
والتي كادت أن تذهب أثارها ضحيحة قيام سد الفرات والبحيرة الكبيرة التي إنشأت غرب السد، لمده بالمياه طوال الوقت. ولولا أن علماء الأثار الفرنسيين أسرعوا إلى التنقيب في موقع المدينة، وإستخراج كنوزها الأثرية لطمرتها مياه البحيرة الإصطناعية ولما كنا عرفنا شيئ عن تاريخها، وحضارتها ودورها السياسي، وقبل كل ذلك سكانها الأصليين الذين أنشأوها، ولا شيئ عن معتقداتهم ودينهم وحياتهم وألهتهم.
الأسباب التي دفعتنا إلى تناول هوية وتاريخ هذه المدينة الأثرية الخورية – الكردية العريقة، إسوة بغيرها من المدن الكردية التاريخية والكتابة عنها عديدة منها:
1- إلقاء الضوء على تاريخها وحضارتها ودورها السياسي والإقتصادي والإجتماعي في عصرها قبل ألاف السنين. ثم التعرف عن قرب على أثارها وثقافة مجتمعها الخوري ولغته وعادته وعباداته وألهته.
2- تعريف الشعب الكردي بتاريخها الحقيقي الغير مزيف الذي كتبه العرب. من خلال الأدلة التاريخية
والإكتشافات الأثرية التي إكتشفها علماء الأثار في موقع المدينة. ومن ثم تفنيد أكاذيب العربان التي سوقوها على مدى مئات الأعوام، وخدعوا بها أبناء الشعب الكردي، من خلال عرضهم تاريخآ مزيفآ للمدينة، والإدعاء أنها مدينة عربية.
3- تأكيد هويتها القومية الخورية – الكردية من خلال الإثبتات المادية، كالأثار والنصوص الكتابية التي دونت على الألواح الطينية وإكتشفت في المدن الأخرى بالألاف، والتي أشارت لمدينة “إيمار” وتحدثت عنها.
4- إثبات أن ما يطلق عليه زورآ وكذبآ (سوريا)، هو مجرد كيان مصطنع وليس له أي ماضي ولا وجود في التاريخ. وأن هذه الجغرافية هي أراض كردية وإسمها الحقيقي هو “غرب كردستان” وهذا البلد كردي الهوية والروح والتاريخ، والأقلية العربية الإسلامية التي تسكن دار الكرد هذه، مجرد محتلين ومستوطنين أشرارٍ وأوغاد.
5- تدوين تاريخنا الكردي القديم والحديث بأنفسنا، وعدم السماح للأخرين التلاعب بتاريخ شعبنا الكردي وأسلافه: الخوريين، السومريين، الإيلاميين، الكاشيين، الهكسوس، الميتانيين، الهيتيين، الميديين، وأخيرآ الساسانيين، ومدننا الأثرية والتاريخية أي التاريخ المادي لأسلافنا.
6- إبراز أهمية هذه المدينة من جميع النواحي، كونها واحدة من المدن الكردية الواقعة غرب نهر الفرات وبحكم كونها مرفأ تجاريآ مهمآ يتربع على شاطئ نهر الفرات. وسوف نتناول في هذه الدراسة التاريخية المحاور الرئيسية التالية:
1- مقدمة.
2- جغرافية مدينة إيمار.
3- أثار مدينة إيمار.
4- تاريخ مدينة إيمار.
5- المعتقدات الدينية لسكان إيمار الأصليين.
6- أصل تسمية مدينة إيمار ومعناها.
7- علاقة مدينة إيمار بالممالك الأخرى.
8- الوجود الكردي في مدينة إيمار ومحيطها.
9- الحياة الإقتصادية في مدينة إيمار.
10- الخلاصة.
11- المصادر والمراجع.
أولآ، مقدمة:
لا شك إن نشأة المدن في الماضي البعيد والحاضر، كانت نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته الطبيعية، وكان لا بد من توفر عدة عناصر لإنشاء مدينة في موقع ماء، وأول هذه العناصر هو توفر الماء عصب الحياة في الجوار، وفي الماضي كان لا بد من توفر ر الأراضي الصالحة للزراعة، ووجود غطاء نباتي إلى جانب الماء حتي يستطيع سكان المدينة من إغتنام الحيوانات مثل المواشي والأبقار والدواجن وتربيتها والعيش منها.
ولا ننسى أن إكتشاف الزراعة على يد الخوريين الكرد في مدينة “نوزي” الملاصقة لمدينة كركوك الحالية في جنوب كردستان، كانت الفاتحة لظهور المدن وإستيطان الإنسان في الأرض ومن ثم تدجين الحيوانات، وهكذا ظهرت أول مدينة في تاريخ البشرية، وكانت هذه المدينة مدينة “گوزانا” في غرب كردستان، التي كانت مهد الإمة الكردية وأول حضارة إنسانية على الإطلاق، ويعود تاريخ نشأتها إلى
(8000) الألف الثامن قبل الميلاد.
يمكننا القول بأن المدن الأولية أو القديمة كانت مدن زراعية بإمتياز، وهذا أمر طبيعي لأنها كانت نتيجة أعظم إكتشاف في التاريخ الإنساني ألا وهو الزراعة، وهذا الإكتشاف العظيم ساعد الإنسان الحفاظ على حياة الناس وتكاثرهم، بسبب توفر الطعام لأعداد كبيرة وعلى مدار السنة. ولهذا رأينا أن 98% من المدن الخورية – السومرية – الكاشية – الإيلامية – الميتانية – الهيتية الكردية ، أقيمت على ضفاف الأنهر والروافد والجداول والبحيرات، وحيث إمتازت الأرض بالخصوبة، وهطلت الأمطار بعمدلات مقبولة والمناخ كان معتدلآ.
وإستمر الوضع هكذا حتى نهايات القرن الثامن عشر ميلادية وأثر الثورة الصناعية، أنشأت مدن حديثة ذات طابع صناعي وسميت لاحقآ بالمدن الصناعية، وحلت محل المدن الزراعية، ولكنها أيضآ أقيمت على ضفاف الأنهر وذلك لثلاثة أسباب هي:
الأول: لا توجد صناعة من دون ماء.
الثاني: حيث نقل البضائع عبر البر كانت ومازالت أكثر كلفة من النقل النهري والبحري. وتكاليف النقل البرية الباهظة، تزيد من أسعار البضائع وهذا يعني قلة البيع وبدوره قلة المربح، بينما النقل النهري والبحري أقل تكلفة وبالتالي تقليل أسعار البضائع، وذلك يعني بيع المزيد من المنتوجات والقدرة على منافسة المنتجين الأخرين.
الثالث: إستيراد المواد الأولية الضرورية لإنتاج البضائع المختلفة عبر الماء ممكن من أي مكان في العالم، وهذا غير متوفر بريآ.
من هنا ولدت أولى الحضارات الإنسانية على ضفاف الأنهر الكبيرة مثل نهر الفرات وتيگريس وخابور في كردستان ونهر النيل في مصر. ومن المدن التي أقيمت على نهر الفرات: گرگاميش، ميرا، هسكه، رقه، درزور، باخوز، باب، مبوگ وغيرها من المدن. ومدينة “إيمار” الأثرية التي نحن بصدد دراسة تاريخها وهويتها واحدة من تلك المدن الفراتية الرئيسية.
ولكن هناك مدن كثيرة أنشأة على ضفاف أنهر صغيرة مثل مدينة هلچ (حلب) على نهر كاليس، ومدينة دو- مشك (دمشق) على نهر پيروز (برد) الذي ينبع من جبل شير. بالطبع عندما أنشأة مدينتي “هلچ، دو- مشك”، لم تكونا كبيرتين منذ البدء، إنما الظروف التاريخية والموقع الجغرافي لكلا المدينتين جعل منهما تكبران وتتحولان إلى مراكز حضارية كبيرة، وتستمر الحياة فيهما دون إنقطاع وحتى يومنا هذا. وللمعلومات فإن مدينة “هلچ” أقدم من “دو- مشك” بحوالي (3000) ثلاثة ألاف عام. وهناك مدن أخرى أقيمت على أنهر أقل حجمآ، مثل مدينة “ألالاخ” على نهر أفرين بمنطقة جبل الكرد، ومدينة “باتين” على نهر رش (أسود) أيضآ في جبل الكرد. وهناك مدن بنيت بالقرب من شواطئ البحر المتوسط مثل مدينة أوگاريت الواقعة إلى الشمال من مدينة اللاذقية.
ودون شك فإن إقليم غرب كردستان تتوفر فيه كل تلك العوامل الطبيعية الضرورية، التي ذكرناها لنشوء المدن الحضرية، وخاصة منطقة “جي- زيره” الفراتية، ولخصوبة أرضها ومرور نهر الفرات وراوفده فيها، لا بد لنا أن نقف عند تسمية منطقة “جي- زيره” ونهر الفرات ودوره الهام للغاية في نشوء أول حضارة بشرية في التاريخ الإنساني.
معنى تسمية جزيره وأصلها:
لقد إجمعت كافة المقومات الطبيعية المطلوبة لنشوء حضارة بشرية في منطقة “جزيره” مثل الأراضي الصالحة للزراعة، توفر المياه بكثرة التي تتمثل في نهر الفرات والخابور، جقجق وتيگريس، إضافة إلى هطول الأمطار الشتوية بمعدلات جيدة في الماضي وأخيرآ المناخ المعتدل، من هنا أطلق أسلاف الشعب الكردي من الخورين تسمية “جي- زيره” على هذه المنطقة. وبعد قليل سوف نشرح معنى وأصل هذه التسمية وفق نظام “علم إصول الكلمات”.
الجغرافيين والباحثين العرب على مدى مئات الأعوام سوقوا جملة من الأكاذيب والأضاليل حول معنى وأصل هذه التسمية، ولم يرد أحد من الكتاب والباحثين الكرد عليهم، والسبب في ذلك حسب قناعتي هو جهلم بلغتهم الكردية وتحديدآ “علم إصول الكلام”، والتي نمسيها بالكردية “پيڤ- سازي” وباللغة الإنكليزية إيتمولوجيا.
الجغرافيين العرب المستعربة سوقوا للكذبة التالية حيث قالوا: “سميت المنطقة بالجزيرة كون يحدها من الشمال جبال طوروس وبعض منابع روافد نهر الفرات، ومن جهة الشرق والشمال الشرقي نهر دجلة، أما من الغرب والجنوب الغربي فيحدها نهر الفرات وبادية الشام، وتشكل سهول أرض العراق حدوداً جنوبية لإقليم الجزيرة”.
هذا الكلام غير صحيح علميآ وليس له أي أساس ومنطق، حيث أن منطقة “جزيره” تنقسم إلى قسمين: القسم الشمالي: يقع شمال نهر الفرات ويشمل كامل محافظة الهسكه وأجزاء من محافظة الرقه ودرزور. القسم الجنوبي: يقع جنوب نهر الفرات ويضم أجزاء من محافظة درزور ورقه الحاليتين، إنظر للخارطة المنشورة في أسفل هذه الفقرة.
ثانيآ، المناطق الواقعة بين السلاسل الجبلية المفتوحة علميآ تسمى “السهول”، وإذا كان البقعة الجغرافية مغلقة كليآ بالجبال تسمى بالحوض. فلا الحالة الأولى تنطبق على هذه المنطقة التي نتحدث عنها، ولا الحالة الثانية. حيث أن جبال طوروس وزاگروس بعيدة جدآ عن منطقة الهسكه، الرقه، الطبقه، قامشلوا، كوباني، گريه سپي، وگرگاميش. كما هو معلوم المنطقة مفتوحة من كل الجهات وتحتاج لساعات من السفر بالسيارة إلى أن تصل إلى المناطق الجبلية في شمال وجنوب كردستان.
ومن الناحية الأخرى، لا يوجد منطقة جغرافية معينة في المنطقة، يحيط بها المياه بالمعنى الجغرافي الحقيقي، لكي نطلق عليها تسمية الجزيرة، ولهذا تفسير الجغرافيين والمؤرخين العربان، ليس له أي أساس علمي ولا منطقي، وهو مجرد عملية تدليس وأكاذيب من الأساس.
إذآ من أين جاءت التسمية وماذا تعني؟ والسؤال الثاني هو: لماذا الكرد يلفظون التسميه بشكل مختلف ويقولون “جزيره”.
الحقيقة أن هذه التسمية مأخوذة عن المفردة الكردية “جي-زيره” والتي تم تعريبها، وهي كلمة مركبة من لفظتين: الأولى (جي) وتعني المكان، والثانية (زير) وتعني الذهب. وحرف (ا) هي إضافة تتم إضافتها عند وصف الموصوف، وهكذا يكون معنى التسمية “المنطقة الذهبية”.
Cî: مكان
Zêr:الذهب
Cî + zêr —— Cizêr: جزيره
السؤال: لماذا سمى أسلاف الكرد هذه المنطقة بهذه التسمية أي “المنطقة الذهبية”؟؟
بعد أن شرحنا أصل التسمية ومعناها بشكل علمي وفق ” علم إصول الكلام” الخاص باللغة الكردية، بات من السهل الإجابة على هذا الستاؤل، وخاصة لمن يعرف المنطقة قليلآ. كما هو معلوم فإن هذه المنطقة
كانت السلة الغذائية والمائية والثروة الحيوانية لكل غرب كردستان. ولليوم هي كذلك وأضيف إليها حديثآ
سلتين جديدتين هما: سلة الغاز والنفط، والثانية سلة الطاقة الكهربائية، التي ينتجها سد الفرات. ورغم كل هذا الثراء والغنى التي يتمتع بها المنطقة، كان أهلها الكرد يعيشون حالة من الضنك والتهميش المتعمد من قبل سلطات النظام البعثي العنصري – العلوي الطائفي. حيث كانوا ينهبون خيرات المنطقة ويتعمدون إفقار أهلها الكرد بهدف دفعهم للهجرة لإحداث تغير ديمغرافي فيها لصالح العربان.
وبقيا أن أضيف كل الشركس والسريان والأرمن الذين يقطنون المنطقة ليسوا من أهل الجزيره نهائيآ، وإنما مهاجرين أتوا إليها من مناطق مختلفة، أما العرب فهم محتلين ومستوطنيين أشرار ووجب طردهم من المنطقة وفي مقدمتهم العرب الغمر، الذين جلبهم نظام البعث إلى المنطقة الكردية في عام 1962، ضمن إطار حملة التعريب وإسكانهم في بيوت الفلاحين الكرد بعد طردهم، ومنح هؤلاء المستوطنيين أملاك الكرد وأراضيهم، تمامآ كما فعل المقبور “صدام حسين” في مدينة كركوك وغيرها من المدن الكردية في جنوب كردستان.
واليوم المدلسين والمزورين من الكتاب العرب، يتهمون الشعب الكردي بأنه هاجر من تركيا إلى منطقة (الجزيره)، وأن الكرد لا تاريخ لهم في هذه المنطقة!!! وهذا الكلام لم يقولوه فقط أبواب النظام الأسدي -البعثي الإجرامي والعنصري، بل جاء على لسان أقطاب المعارضة الليبراليين منهم والماركسيين، الذين شبهوا الوجود الكردي في غرب كردستان بوجود السود في أمريكا. بل البعض منهم وخاصة القومجيين إعتبروا أن الكرد ليسوا بشرآ!!!!
نهر الفرات ودوره في نشوء أول حضارة إنسانية – خورية:
إذا كانت منطقة الجزيره مهد أولى الحضارات البشرية في التاريخ، فإن نهر الفرات العظيم، هو روح تلك الحضارات دون منازع. ولولا هذا النهر الخالد لما ظهرت أول حضارة بشرية في هذه البقعة الجغرافية من تراب كردستان، ومنها إنتشرت إلى جميع أنحاء العالم.
ولأهمية دور نهر الفرات في نشوء أول حضارة إنسانية على ضفافه من حيث ينبع في شمال كردستان وحتى مصبه في خليج إيلام بجنوب كردستان، وثم العشرات المدن الخورية الحضرية الأولى في تاريخ الإنسانية التي بنيت على ضفافه أو بالقرب منه، دعونا نتوقف عند هذا النهر ونلقي الضوء عليه قليلآ ومن ثم نشرح معنى تسمية الفرات وأصلها باللغتين الكردية والعربية وفق “علم إصول الكلمات” المتبع في جميع أنحناء العالم.
هو أكبر نهر في كردستان وأغذرهم، لا بل أكبر في كامل منطقة غرب أسيا، وينبع من المناطق الواقعة بين بحيرة “وان” وجبل “أگري” في شمال كردستان ويبلغ طول النهر (2.940) الف كم. منها (1176) الف كم تقع في شمال كردستان وحوالي (610) كم منه تقع ضمن أراضي غرب كردستان، والباقي يقع ضمن أراضي جنوب كردستان ويبلغ (1160) كم. ويتراوح عرضه بين (200) و (2000) متر عند المصب. ويلتقي مع نهر تيگريس عند مدينة “القرنة” في جنوب كردستان التي تبعد عن بغدا بحوالي (375) كم جنوبآ.
ويتكون النهر من رافدين وثم يتحدان ويمران بمدينة “آمد” عاصمة كردستان ومن يتجه جنوبآ نحو مدينة گرگاميش عاصمة الدولة الثانية، ومن ينعطف تدريجيآ نحو الشرق بإتجاه منطقة الجزيره ويعبر مدينة رقه، درزور ومن بعدها يشق طريقه متعرجآ نحو خليج إيلام. ويتحد قبل أن يصب في مياه الخيج مع نهر تيگريس القادم أيضآ من شمال كردستان. وخلال هذه المسافة ينضم إليه العديد من الروافد ومن أهمها نهر الخابور وجقجق القادمين أيضآ من شمال كردستان بعد المرور بمدينة الهسكه. والمسطح المائي لنهر الفرات يبلغ حوالي (673.000) كم². ومجرى النهر تغير مع الزمن وبفعل المناخ والعوامل الطبيعية، وليس هذا المجرى هو نفسه قبل (5000) خمسة ألاف عام.
معنى تسمية الفُرات وأصلها:
إن إسم نهر “الفرات”، قديم جدآ ويعود تاريخ هذه التسمية إلى فترة الخوريين أسلاف الشعب الكردي. وكما هو معلوم فإن بلد المنبع هو الذي يمنح التسمية للأنهر. وبالمناسبة نهر الفرات و تيگريس نهرين كردستانيين (%100)، من المنبع وحتى المصب.
والتسمية مركبة من لفظتين الأولى (فرا) وتعني الوفير أو الواسع، ولا يمكن أن يتوسع مجرى النهر ما
لم يكن غزيرآ ووفير الماء. واللفظة الثانية (هات) وتعني الجريان. والإسم الصحيح للنهر هو “فراهات”
وتعني النهر العظيم بمعنى كبير من حيث كمية الماء، أو النهر الوفير وهذا ينطبق على هذا النهر الخالد.
أهمية نهر الفرات لم تتلخص فقط في تأمين مياه الشرب للسكان للخوريين ودوابهم وزراعتهم، بل تعدى ذلك إلى فتح مجال التجارة أمامهم والإحتكاك والتواصل بين المدن الخورية ذاتها، ومع العالم الخارجي أي الممالك والدول المجاورة لهم.
البعض يتسأل كيف كان سكان بعض المدن الخورية الأثرية، يعيشون في مناطق بعيدة عن مصادر المياه أي الأنهر والبحيرات، والحقيقة أن هذه المدن كمدينة “ميرا” قد إنشأت على ضفة نهر الفرات مثل بقية المدن، ولكن الذي حدث هو أن مجرى النهر تغير مع الزمن وذلك نتيجة عوامل طبيعية عديدة. مما دفع بسكان تلك المدن بشق أقنية مائية لمدها بالمياه التي يحتاجونها للشرب والسقاية. وإذا تابعنا سير نهر
الفرات سنجد العشرات من التلال الصغيرة التي أقيمت على جانبيه بدءً من شمال كردستان وحتى جنوب كردستان، وهذه التلال كانت عبارة عن قرى صغيرة، والسكان الخوريين كانوا يلاحقون مجرى النهر، بمعنى كانوا أحيانآ يبتعدون عن ضفة النهر ليتجنبوا فيضانات النهر المدمرة وأحيانآ ينقلون قراهم إلى مجرى النهر الجديد. ولمن لا يعرف فإن مدينة “إيمار” كانت تبعد حوالي (3) ثلاثة كيلومترات عن مجرى نهر الفرات قبل إنشاء سد الفرات وتشكيل بحيرة إصطناعية أمامه. ونتيجة توسع بحيرة السد كادت مياهها تغرق أثار المدينة. مع العلم عند إنشاء المدينة حوالي الألف الثالث قبل الميلاد كان مجرى نهر يلامس سور المدينة، وكانت في الأساس مرفأ نهري ومع الوقت تحولت إلى مدينة.
من هنا علينا أن نعود للتاريخ القديم والبحث والتصوير الجوي الدقيق لنتعرف على مجرى نهر الفرات القديم، وغيره من أنهر كردستان مثل تيكريس، الخابور، البليخ، الزاب، رش، … إلخ. عندها سندرك أن تلك المدن التي تبدوا اليوم أنها بنيت في عمق البرية بعيدآ عن مصادر المياه غير صحيح. ولا ننسى أن هناك أنهر أو الأصح العديد من الروافد ماتت أي يبست بسبب التغيرات المناخية عبر ألاف السنين. وهناك العديد من المدن الأثرية مطمورة تحت مياه نهر الفرات البعض منها ظهرت مؤخرآ نتيجة حبس تركيا لمياه النهر بشكل متعمد كنوع من الضغط على الشعب الكردي في غرب كردستان وفي جنوب كردستان لتحقيق أهداف سياسية خسيسة.
خلاصة ما تقدم، أن نهر الفرات العظيم هذا، كان شريكآ أساسيآ للشعب الخوري في بناء أول حضارة بشرية في التاريخ الإنساني، وما تلاها من نشوء مدن حضرية كثيرة للغاية على ضفافه وضفاف روافده الكثيرة. ولا يمكن فهم تاريخ الشعب الخوري سلف الشعب الكردي ودراسة تاريخ هذه المدن دون الإلمام بتاريخ هذا النهر والتحولات التي جرت على مجرى مياهه عبر الزمن بفعل العوامل الطبيعية. فهو نهر غير عادي من حيث التأثير في الحضارة الإنسانية وتفوق كثيرآ على نهر تيگريس بسبب هدوء جريانه بعكس الأول، الذي يجري بشكل سريع، نظرآ لإنحدار المناطق العالية التي يتدفق منها مياهه، ولهذا أطلقت عليه هذه التسمية تيگريس.
تسمية تيگريس مصطلح كردي ويعني السهم. ولليوم الكرد يسمون السهم (تير)، وأشعة الشمس يسمونها (تيرژ). وسبب هذه التسمية هو جريان النهر بسرعة نتيجة إنحدار المناطق التي يمر بها النهر بشمال كردستان المرتفع – الجبلي بإتجاه الجنوب المنخفض – السهلي، فشبه أسلاف الكرد إنحدار والجريان السريع للنهر بسرعة السهم (تير). ومعنى إسمه هو: “النهر السريع”. وكون العرب لا يملكون حرف (گ) الكردي، فبدلوه بحرف (ج)، تمامآ مثلما فعلوا مع إسم (گيزَر) وحولها إلى جزر وهو في الأصل مصطلح كردي يسمى (گيزَر).
علّم علماء الأثار والمؤرخين بوجود مدينة “إيمار” الأثرية من خلال نصوص عدة مدن : إيبلا، وميرا، أوگاريت، وإطلعوا على دورها الهام والمؤثر الذي لعبته في العلاقات السياسية والاقتصادية بين غرب كردستان (سوريا) وجنوب كردستان (العراق)، حيث إستقر الكرد السومريين والكاشيين والأيلاميين وشمال غرب كردستان التي يطلق عليها البعض تسمية (الأناضول). ومن خلال تلك النصوص المكتشفة في المدن الثلاثة التي جئنا على ذكرناها أنفآ، تمكن علماء الأثار الغربيين من تحديد مكان مدينة “إيمار” الأثرية. وتم إكتشاف المدينة في العام (1972) ميلادي، من قبل بعثة المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، والتي أكدت أن تاريخ المدينة يعود إلى ما قبل (3000) الألف الثالث قبل الميلاد، وإستمرت حتى نهاية الألف الثاني (1200) قبل الميلاد أي العصر البرونزي الحديث.[1]