تركيا) ..... الى أين؟ (10)
د. مهدي كاكه يي
الأمن القومي التركي
2. مكامن ضعف الدولة (التركية)
ج. التطورات العالمية و الدولية
التطورات العالمية و الدولية التي حدثت في العقود الأخيرة، أثرت بشكل سلبى على (تركيا) و أضعفت دورها و أهميتها. إنهيار الإتحاد السوفيتي و الدول الأخرى العضوة في حلف وارشو و إنتهاء الحرب الباردة، أفقدا (تركيا) الدور التقليدي لها لحماية الجبهة الجنوبية للحلف الأطلسي من تهديدات المعسكر السوفيتي. بعد إنخفاض الأهمية الإستراتيجية ل(تركيا) للولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا، حاول الأتراك التعويض عن هذه الإنتكاسة بتأسيس إتحاد أو جامعة مع الدول الناطقة بالتركية في البلقان و آسيا الوسطى التي إستقلت عن الإتحاد السوفيتي، و تأسيس خطوط أنابيب لنقل الغاز و النفط من قازاغستان و تركمانستان و أذربيجان الى ميناء جيهان التركي على ساحل البحر الأبيض المتوسط، اإلا أنّ تلك الجهود باءت بالفشل بسبب إفتقار (تركيا) الى الثروة و التكنولوجيا و القوة للإستثمار في تلك الدول و للعمل على التكامل الإقتصادي معها. كما أنّ منافسة الولايات المتحدة الأمريكية و روسيا و أوروبا، و خاصة ألمانيا، و كذلك إيران على النفوذ في تلك الدول، أفشلت المشروع التركي. التباين الثقافي و حتى اللغوي بين الأتراك و شعوب تلك الدول، عمل بدوره على إختفاء الشعور القومي للتقريب بين شعوب الدول المذكورة. حاول الأتراك أيضاً خلق منطقة تعاون إقتصادي للدول المطلة و القريبة من البحر الأسود، إلا أنّ المشروع لم يرَ النور بسبب التناحرات الموجودة بين هذه المجموعة الدولية و إختلاف توجهاتها الإقتصادية و السياسية.
إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق و زوال شبح الحرب الباردة و ولادة معالم نظام عالمي جديد، أفرزت ظروفاً دولية جديدة لا تساعد على إستمرارية حكم الأنظمة الدكتاتورية و العنصرية و الشمولية في العالم. خلال فترة الحرب الباردة و نتيجة حاجة المعسكرين المعاديين، الأطلسي و وارشو، الى حلفاء في سعيهما الى كسب المعركة و الإنتصار على الجانب الآخر بأي ثمن كان، لأنها كانت معركة تقرير مصير للجانبين المتنافسين، فأنّ الدول الغربية الديمقراطية أخذت تنافس على كسب حكومات العالم، بغضّ النظر عن نوع أنظمتها السياسية و مدى إحترامها لحقوق الإنسان و معاييرها للحريات الشخصية، و التي قادت الى إحتضان الدول الديمقراطية و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية للحكومات الدكتاتورية و الفاشية و الشمولية و بذلك إضطرت هذه الدول أن تضحّي بمبادئها و قيمها من أجل حماية نظامها الديمقراطي و لحماية وجودها و تحقيق أهدافها السياسية و الإقتصادية. سيراً على هدى هذه السياسة، فأنّ الدول الغربية شجعت إنتشار الفكر الإسلامي المتزمت في العالم، في محاولة لمحاربة الفكر الماركسي (الملحد) و منع إنتشاره في العالم بشكل عام و في المجتمعات الإسلامية بشكل خاص. نتيجة هذه الإستراتيجية الغربية، تمّ الإيعاز الى العائلة السعودية في الحجاز بالقيام بالتبشير للفكر الوهابي الإرهابي المتخلف في مختلف أنحاء العالم، في آسيا و أفريقيا و في قلب أوروبا و أمريكا نفسها، حيث تشير الإحصائيت بأنّ النظام السعودي أنفق حوالي 87 مليار دولار خلال عشرين سنة (من منتصف العقد السابع الى منتصف العقد التاسع من القرن الماضي) لغرض نشر الوهابية في العالم. قام آل سعود بنشر الفكر الوهابي المتخلف عن طريق بناء المساجد والمدارس الدينية و المشروعات الخيرية واستقطاب الشباب المهاجرين العاطلين عن العمل في هذه البلدان و عن طريق (تصدير) رجال الدين الوهابيين المتزمتين الى تلك الدول. إنّ منظمة القاعدة الإرهابية هي من صنيعة العالم الغربي، حيث أنها من إفرازات زمن الحرب الباردة. هكذا ساهمت الدول الغربية في نشر الفكر الإرهابي الذي بات يهدد الحضارة البشرية في أيامنا هذه. أوردتُ هذا المثال لتبيان حاجة الدول الرأسمالية الى حكومات ديمقراطية تفتح أبواب بلدانها للرأسمال الغربي و لتصبح أسواقاً آمنة و مستديمة لبضائعها و مصدراً للطاقة و للخامات والمواد الأولية. لذلك فأنّ (تركيا) لا تستطيع الإستمرار في خرق حقوق الإنسان و إضطهاد الشعب الكوردي و إنكار حقه في تقرير مصيره بنفسه كما كانت تقوم بها خلال فترة الحرب الباردة.
إنتصار البلدان الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على الإتحاد السوفيتي و حلفائه و بروز الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أوحد في العالم، أدى الى إنتشار المفاهيم و القيم الديمقراطية و الليبرالية و العلمانية في العالم و عمل على رفع مستوى الوعي و المعرفة لدى الشعوب و الأفراد و الإلمام بقضايا حقوق الإنسان و التعددية و قبول الآخر و إحترام حرية و إختيار الإنسان لنمط حياته و معتقده و كذلك حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
بعد الإعتداء الإرهابي على الولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، قررت الإدارة الأمريكية القضاء على قواعد الإرهاب و الخطر في كل من أفغانستان و العراق. في هجوم القوات الأمريكية لتحرير العراق من العصابات الفاشية لحزب البعث، إمتنعت (تركيا) عن السماح للقوات الأمريكية بإستخدام الأراضي (التركية) لتُشكّل الجناح الشمالي لتلك القوات في تحقيق مهمة التحرير. لم يرغب الأتراك في إنهيار حلفائهم البعثيين في بغداد، حيث أنّ الجانبين كانا يلتقيان في إضطهاد الكورد و حرمانهم من حقهم في تقرير المصير و كذلك للإبقاء على إضطهاد الشعب الشيعي في العراق و تهميشه و إستعباده و للحفاظ على توازن القوة الشيعية – السُنّية الإقليمية و إستمرار العلاقات التجارية المزدهرة بين أنقرة و بغداد. هذا الموقف التركي خلق شرخاً عميقاً في العلاقات الأمريكية – التركية التي لا تزال تعاني من آثاره. قامت القوات الكوردستانية الجنوبية بالتعويض عن الدور التركي بالمساهمة في تحرير العراق من القاطع الشمالي و بذلك تعمقت العلاقات الإستراتيجية الأمريكية – الكوردستانية بشكل أكثر. بعد تحرير العراق و إستقرار الوجود الأمريكي فيه، أصبح الأمريكيون جيراناً (مزعجين) للأتراك و بذلك فقدت (تركيا) أهميتها الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية بشكل أكثر، بعد أن كانت هذه الأهمية قد تعرضت لتدهور كبير بعد إنتهاء الحرب الباردة. في حالة إستمرار التدهور في العلاقات الأمريكية – التركية، فأنّ الأمريكيين يستطيعون الإستغناء عن قواعدهم العسكرية في (تركيا) و نقلها الى الجنوب الكوردستاني.
التطورات الهائلة في سرعة الإتصالات و تزوّد الإنسان بكميات هائلة من المعلومات، ساهمت و تساهم في زيادة التنمية المعرفية و المعلوماتية لدى الفرد و تعريفه بالمبادئ و المعايير المتحضرة و ترسيخها فيه. لا شك أنّ هذه التطورات أثّرت و تؤثر على المواطن الكوردستاني و تعمل على تطويره و رفع مستوى وعيه الفكري و الثقافي و القومي و قدراته المعرفية و تعلمه للقيم الديمقراطية التي بدورها تجعل الشعب الكوردستاني قادراً على معرفة نفسه و تأريخه و رزوحه تحت نير الإحتلال و تشرذمه و تقسيم كوردستانه. هذا النمو في الوعي القومي و الحضاري للشعب الكوردستاني يُشكّل بداية النهاية لقبول الإستعباد و الذل و يُحطم أحلام و أوهام العنصريين الترك في الإستمرار في إذلال الشعب الكوردي العريق و سيقود الكورد نحو الإستقلال و التحرر. هذه التطورات العالمية الكبرى ستؤثر أيضاً على العقلية التركية العنصرية و الإلغائية بمرور االوقت و تظهر في أوساط الشعب التركي أصواتاً كثيرة تنادي بالإعتراف بحق الشعب الكوردي في تقرير مصيره، أسوةً بشعوب العالم الحرة الأخرى.
التغييرات العالمية و الإنجازات العلمية جعلت من كوكبنا مجرد قرية صغيرة يتواصل و يتفاعل سكانها مع البعض. هذه الظاهرة أعطت زخماً قوياً لمنظمات المجتمع المدني و للمنظمات الإنسانية و الدينية والمدافعة عن حقوق الشعوب و كرامة الإنسان و عمل و يعمل على تقوية نفوذ و دور الرأي العام العالمي و المحلي في التأثير على القرارت العالمية و المتعلقة بحقوق الشعوب و الظروف السيئة اتي تعيش فيها تلك الشعوب. كما أنّ هذه التطورات العالمية منحت دوراً محورياً للإعلام و الصحافة للتأثير على الأحداث و كشف الواقع السئ الذي تعيش في ظله الشعوب المضطهدة و الدفاع عن حقوق تلك الشعوب. هذه الثورة الإنسانية تعمل أيضاً على تسهيل إيصال صوت الشعوب و الأفراد المضطهدة و المستعبدة الى العالم لإنصافها و تحريرها من العبودية و إنقاذها من الظلم و الإضطهار و القهر. هذا العامل يساهم في تحقيق الشعب الكوردستاني لحريته و يفضح الأعمال الوحشية التي يقوم بها النظام التركي ضده.
العولمة و ثورة المعلومات و الإتصالات أزالت الحدود الدولية و جعلت شعوب الأرض في تواصل مستمر و دائم مع بعضها. هذه الثورة أثرت و تؤثر بشكل سلبي على (تركيا) بطريقتين؛ الأولى: أنها تفضح الجرائم التي ترتكبها الحكومات الدكتاتورية و الشمولية و العنصرية و الطائفية بحق شعوبها و تكشف الإضطهاد و خرق حقوق الإنسان و تكبيل حريته التي تتعرض لها الأفراد و الشعوب و القوميات و الأديان و المذاهب. الطريقة الثانية هي من خلال التوعية التي تقوم بها هذه الثورة المعلوماتية و الإتصالاتية من إنترنيت و فضائيات و موبايل و التجمعات الإقتصادية و السياسية و حرية و سرعة إنتقال الرأسمال و الأفراد و زيادة التواصل و التلاقح بين الأفراد و الشعوب و الجمعيات و الثقافات و تشابك المصالح و تلاقيها. هذه الثورة الإنسانية الكبرى لا تدع النظام التركي أن ينفرد بالشعب الكوردي في الشمال و أن يخنق صوته بعيداً عن أنظار العالم. من جهة أخرى فأنها تُزيد من الوعي القومي للشعب الكوردي و الذي يدفعه الى زيادة وتيرة نضاله لتحقيق هدفه في الحرية و الإستقلال و أن يصبح سيّداً على بلاده. كما أنّ العولمة و ثورة الإتصالات و المعلومات ستؤثر بشكل إيجابي على الإنسان التركي و تُغيّر عقليته العنصرية و غطرسته الفارغة.
ثورة الإتصالات و المعلومات و العولمة خلقت ظروفاً و فرصاً للشعب الكوردي لم يسبق له في تأريخه أن توفّر له مثل هذه الفرص التأريخية الفريدة من نوعها في التواصل و التلاقي بين مواطني شعب كوردستان في كافة أجزاء وطنه و أينما يعيشون، في كوردستان أو المهجر، حيث إختفت الحدود الدولية المصطنعة التي تُقسّم الوطن الكوردستاني و تفصل بين أبناء الشعب الواحد. أخذ المواطنون الكوردستانيون من مدينة آمد و هه ولير و قامشلو و مهاباد و الساكنين في بغداد و طهران و دمشق و إستانبول و واشنطن و لندن و سيدني و في أقصى مدن و أرياف كوردستان، يلتقون عبر الإنترنيت و على شاشات التلفزيون عبر الفضائايت و عن طريق الموبايل و الجمعيات و المنظمات الكوردستانية و عبر السياحة و التجارة و الدراسة و العمل. إنها فرصة لا نظير لها في التأريخ الكوردي، حيث تلتقي و تتفاعل و تتلاحم و تتوحد اللهجات الكوردية و الفكر و الثقافة و الهموم و الآمال الكوردية، مخترقة القارات و الحدود و الأسلاك الشائكة و الأسوار العالية و الحصون المنيعة و بذلك يتوحد الفكر و القلب و الهدف الكوردستاني، حيث أنّ موانع المحتلين أصبحت عاجزة عن فصل الكوردستانيين و عزلهم عن البعض و إيقاف هذا التلاحم التأريخي الذي يقود شعب كوردستان الى حيث الحرية و الإستقلال. هذا التطور الكبير في تلاقي الكوردستانيين و وحدتهم يُشكّل ضربة قاضية للنظام التركي في وقف التحرر الكوردستاني و إستقلال كوردستان.
نستنتج مما تقدم، بأنّ التطورات العالمية و الدولية و خاصة بعد إنتهاء الحرب الباردة و ظهور بوادر نظام عالمي جديد و بعد الثورة العلمية العملاقة في مجال الإتصالات و المعلومات، كلها يخدم الشعب الكوردستاني في تحقيق حريته و إستقلاله، بينما يقف محتلو كوردستان و منهم الأتراك، عاجزين عن إيقاف مسيرة هذه الثورة الإنسانية العارمة التي ستجمع شمل الكوردستانيين و ستوّحد كوردستانهم و سيصبح المحتلون العنصريون مرغمين على الإستسلام للأمر الواقع و الإعتراف بدولة كوردستان و حرية شعبها العريق. من أجل الإسراع في تحقيق هدف التحرر و الإستقلال، يحتاج الكوردستانيون الى توحيد صفوفهم على المستوى القومي و الإقليمي و تنتظرهم أعمال كثيرة من أجل إنضاج الظروف الذاتية للشعب الكوردستاني بعد أن بدأت الظروف الموضوعية تصبح مؤاتية و ممتازة لهم. بعيداً عن العواطف و الشعارات، فأنّ إستقلال كوردستان أصبح يلوح في الأفق و أنّ حدوثه أصبح متعلقاً بعامل الزمن و الأحداث و الوقائع تقول لنا بأننا سنشهد بزوغ فجر الإستقلال في المستقبل المنظور.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]