(تركيا) ..... الى أين ؟ (12)
د. مهدي كاكه يي
الأمن القومي التركي
2. مكامن ضعف الدولة (التركية)
د. عوامل داخلية
في الحلقة السابقة تطرقتُ الى العامل الأول الذي كرسته للإقتصاد و البحث العلمي، كأحد العوامل الداخلية الذي يؤثر على الأمن القومي التركي و في هذه الحلقة أشير الى عوامل تركية داخلية أخرى لها دورها في تحديد الأمن القومي التركي.
2. العيش في أحلام الإمبراطورية العثمانية
إنّ الأنظمة التربوية التركية و المؤسسات الثقافية و الإعلامية فيها، خلقت أجيالاً تركية خيالية، تم تخديرها بأمجاد الأتراك و تأسيسهم للإمبراطورية العثمانية و حُكمهم لكثير من الشعوب و الدول في كل من قارة آسيا و أوروبا خلال تلك الحقبة الزمنية. هذه العملية لغسل أدمغة الأتراك، خلقت عقليات تتوهم أنّ الزمن قد توقف منذ الحكم العثماني و أنّ الأتراك لا لا يزالون قادرين على التحكم بمصائر الشعوب و القوميات، كما كانوا يفعلونها خلال الحكم العثماني. هذه التربية الكارثية رسخت في المواطن التركي التفكير بعقلية زمن الإمبراطورية العثمانية. هذه الثقافة الخاطئة خلقت، بشكل عام، شخصية تركية متغطرسة، تؤمن بتفوقها على الشعوب الأخرى و بكونها أحسن و أرقى من تلك الشعوب. من نتائج هذه التربية هي إعتقاد الأتراك بأنّ الشعوب و القوميات غير التركية هي أدنى مستواً منهم و ما عليهم إلا أن يكونوا خدماً لهم، كما صرح بعض قادتهم صراحةً بذلك. من جهة أخرى، فأنّ هذه التربية الإستعلائية تقود المواطن التركي الى الإحباط و اليأس، حينما يتأكد من أنّ الواقع يُفنّد ما غُرس في عقليته، حين يكتشف بأن (تركيا) هي بلد صغير و فقير و متأخر و تتحكم فيها الدول الكبرى و أنّ الكثير من الشعوب الأخرى لها مستواً معيشياً أعلى بكثير من ذلك الذي لدى الشعب التركي. الملايين من الأتراك الذين يتركون بلادهم و يهاجرون الى الدول الصناعية، طلباً للعيش الكريم، تشهد على الوهم الذي تربى عليه المواطن التركي المسكين. من هنا يمكن فهم المجتمع التركي بأنه مجتمع لا يزال يعيش ذهنية فترة الإمبراطورية العثمانية في معالجة القضايا القومية و الدينية و الإنسانية، بينما البشرية قد دخلت الى عالم العولمة و ثورة المعلومات و الإتصالات و إنبثاق عهد الحريات و الديمقراطيات التي بدأت تنتشر في مختلف بقاع العالم على كوكبنا الأرضي.
3. العنصرية التركية
مرة أخرى أضطر الى العودة الى موضوع التربية، حيث أنّ الطفل التركي، منذ صغره يتم تلقينه في المدارس بالأفكار العنصرية و يعلموه ترديد عبارة (يكون سعيداً مَن يكون تركياً!!). هذا الفكرالعنصري الذي يتشبع به الإنسان التركي، يجعله لا يعترف بحق الآخر غير التركي في الحياة. من نتائج هذه الآفة الشوفينية هي إنكار الأتراك لحقوق الشعوب والقوميات الأخرى في تقرير مصيرها، بل ينكرون وجودها و يعتبرون تلك القوميات و الشعوب ما هي الا أتراكاً، كما هو الحال مع الكورد في الشمال الكوردستاني الذين يطلقون عليهم إسم أتراك الجبال. هذه العقلية العنصرية أكسبت الشخصية التركية العنف و العدوان و رفع شعار إخضاع القوميات و الشعوب الأخرى بكل الوسائل و منها بإستخدام العنف و القوة.
أحب هنا أن أنوّه بأنّ التربية الإمبراطورية و الشوفينية قد أفسدت العقلية التركية و خلقت منها شخصية متكبرة، عدوانية و شمولية، بغض النظر عن آيديووجيته الدينية و السياسية، و عليه فأنّ رئيس وزراء (تركيا) السيد رجب أردوغان و جنرالات (تركيا) و غيرهم من السياسيين، هم خريجي مدرسة فكرية واحدة، غرّست فيهم العنصرية و الغطرسة و إلغاء وجود الآخر المختلف. عبر الحُقب التي مرت بها الجمهورية الكمالية و في ظل كل الحكومات المتعاقبة على الحكم، فأن الموقف من حقوق الشعوب و القوميات غير التركية هو نفسه دون تغيير، سواءّ كان خلال فترات حكم العسكر أو الأحزاب القومية أو اليسارية أو الإسلاموية. السيادة المطلقة للغة و الثقافة التركية في (تركيا) و إلغاء الهويات القومية للشعوب و القوميات الأخرى و منع تداول لغاتها و إلغاء ثقافاتها و منعها من الشراكة في الحكم و تقرير المصير و التحكم بخيرات أرضها خلال الحقبة الكمالية كلها، هي دليل على أحادية المدرسة الفكرية التي تخرّج منها قادة الجمهورية الكمالية منذ تأسيسها و الى الوقت الحاضر.
4. حكم الجنرالات
قام الجيش التركي بثلاث إنقلابات عسكرية في تأريخ الجمهورية، حيث يعتبر نفسه حارساً على الحفاظ على المبادئ الكمالية و الجمهورية العلمانية. قام الجيش بوضع الدساتير و القوانين بعد كل إنقلاب قام به، حيث ثم وضع الدستور التركي الحالي في عام 1982 من قِبل جنرالات تركيا، مع حدوث بعض التعديلات البسيطة عليه، حيث أنّ المادة 35 من الدستور تمنح الجيش حق التدخل في السياسة وحق تدبير الإنقلابات العسكرية. بينما المادة 301 منه يُقيد حرية الرأي و الإعتقاد. هكذا أسقط الجيش ثلاث حكومات منتخبة من قِبل الشعب.
في عام 1960، قام (جمال جورسيل) بانقلاب عسكري ضد حكومة عدنان مندريس، حيث تم إلقاء القبض على رئيس الوزراء التركي عدنان مندرس و تم تنفيذ حكم الإعدام فيه و تم كذلك إعدام كل من وزير خارجيته، (فطين رشدي زورلو) و وزير ماليته، (حسن بولاتقان)، بحجة إعتزامهم قلب النظام العلماني و تأسيس دولة دينية بدلاً منه. صدرالإنقلابيون العسكريون حكم الإعدام على رئيس الجمهورية (محمود بايار) أيضاً، إلا أنّه تمّ تخفيف الحكم بحقه الى السجن المؤبد لكُبر سنه.
في عام 1970، عندما كان حزب العدالة يتولى السلطة بمفرده و كان رئيس الحزب المذكور السيد (سليمان ديميريل) يرأس الحكومة، دخلت البلاد في فوضى عارمة و بدأت مواجهات طلابية في الجامعات التركية، فسيطرت الجنرالات على مقاليد الحكم، حيث إضطر سليمان ديميرل أن يستقيل.
في عام 1980، أعلن رئيس أركان القوات المسلحة التركية، (كنعان إفرين) تسلمه لقيادة البلاد و أعلن حالة الطوارئ و حل الحكومة الحاكمة آنذاك وحل الأحزاب السياسية والقبض على كافة زعماء الأحزاب والنواب و تمت محاكمتهم، و بذلك تسلم الجيش زمام الحكم للمرة الثالثة. في عام 1997 قام الجيش أيضاً بإنقلاب سلمي ضد حكومة نجم الدين أربكان الإسلامية و أجبره على الإستقالة. في هذه لأيام، و بتحريض من جنرالات (تركيا)، تحاول الهيئة القضائية إصدار حُكم يوصي بمنع حزب حزب العدالة والتنمية، و عليه فأنها محاولة لإنقلاب عسكري آخر.
من هنا ندرك أنّ المواد غير الديمقراطية التي يتضمنها الدستور التركي و كَون الجنرالات هم الحكام الفعليون ل(تركيا)، تعمل على تفريغ الديمقراطية من محتواها و التي يدّعيها الأتراك، بل يضع الحكم في أيدي العسكر، حيث يتحكم الجنرالات بمصير البلاد. الحًكام السياسيون المنتخبون من قِبل الشعب هم دُمى يُحركهم الجيش كما يشاؤون. إذن لا وجود للديمقراطية على النمط الذي هو موجود في الدول الغربية، بل يمكن القول بأنّ نظام الحكم التركي هو نظام عسكري غير مباشر، بعكس ما يروّجه بعض الكُتّاب في إدّعائهم بأنّ (تركيا) هي دولة ديمقراطية. السيدة ليلى زانا، البرلمانية الكوردية في (تركيا)، تمّ الحكم عليها بالسجن لمدة خمس عشرة سنة بسبب تحدثّها باللغة الكوردية تحت قَبة البرلمان التركي. هذه العقوبة هي مثال لآلاف الأمثلة الأخرى التي تفضح زيف النظام الديمقراطي التركي و تُبيّن لنا الديمقرطية القرقوشية التي يتمتع بها النظام التركي!!
5. أزمة الديمقراطية و حقوق الإنسان
بالرغم من الإدعاء بوجود النظام الديمقراطي في (تركيا)، إلا أنّ زيفها تكشفه الإنتهاكات الخطيرة التي تتعرض لها الديمقراطية و حقوق الإنسان و التي ينص الدستور التركي على إنتهاكها. الدستور التركي ينص على منع نقد الفكر الكمالي، بل يقّر بأنّ مصطفى كمال أتاتورك معصوم عن الخطأ و أيّ إنتقاد له و لفكره، يضع صاحبه تحت طائلة المساءلة و العقاب. كما أنّ الدستور التركي لا يسمح بتوجيه النقد للإنتهاكات الخطيرة و المجازر الرهيبة التي قام بها الأتراك في العهد العثماني بحق الشعوب الأخرى، و خاصةً بحق الشعبين الأرمني و الكوردي. هكذا يقف الدستور التركي عائقاً أمام المؤرخين و الكُتّاب في كتابة علمية و موضوعية لتأريخ الإمبراطورية العثمانية و تركيا الكمالية، و بذلك يصّر الأتراك على تزوير التأريخ و طمس معالم جرائمهم و أخطائهم التأريخية. كما أنّ هذه البنود الدستورية تُقيّد حرية الرأي و الصحافة و تُبعدها عن موضوعيتها و مهنيتها. من الأمثلة البارزة في هذا المجال هو الملاحقات القانونية التي تعرّض لها كل من الكاتب التركي(Ohran Pamuk)، الحائز على جائزة نوبل للآداب و الصحفي الأرمني (Hrant Dink)، بسبب تطرّقهم الى المذابح التي تعرض لها كل من الشعببن، الكوردي و الأرمني على يد الأتراك و كذلك بسبب النقد الموجّه لكمال أتاتورك. كانت من النتائج المأساوية لهذه البنود الشمولية التي ينص عليها الدستور التركي، هي إغتيال الصحفي الأرمني المذكور و التهديدات المستمرة التي يتعرض لها (Ohran Pamuk))، حيث أنه إضطر الى إلغاء زيارته لألمانيا في العام الماضي بسبب التهديدات التركية له. تعرض العديد من الكُتّاب و الصحفيين للإغتيال و السجن بسبب تلك البنود الدستورية التي لا تسمح بإنتقاد الفكر الكمالي و المجازر المرتكبة من قِبل الأتراك، بحُجّة العمل على الإطاحة بالنظام العلماني و المساس بالكرامة الوطنية التركية. هذه البنود الدستورية الشمولية تعمل على تفريغ الديمقراطية من محتواها و تجعلها ديمقراطية شكلية.
كما أنّ هناك قوانين تركية تنص على معاقبة الأفراد و الأحزب و التنظيمات التي تطالب بتمتع الشعوب و القوميات، و خاصة الشعب الكوردستاني، بحقوقها، بحُجّة المساس بالوحدة الوطنية و الدعوة الى تجزئة البلاد. الدستور التركي ينص على أنّ جميع مواطني (تركيا) هم أتراك و بذلك يُلغي وجود الشعب الكوردستاني و جميع القوميات الأخرى، مثل الشركس و العرب و الأرمن و الآشوريين و السريان و اليهود و غيرهم و يعترف بوجود العنصر التركي فقط في (تركيا).
يحدد القانون التركي الحد الأدنى للنسبة المئوية التي يجب أن يحصل عليها الحزب السياسي المشارك في الإنتخابات التشريعية ب(10(%) من مجموع أصوات الناخبين لأعضاء البرلمان التركي، لكي يتمكن الحزب من الحصول على مقاعد في البرلمان و المشاركة فيه. في حين أنّ هذه النسبة في بلد مثل السويد تبلغ 4% فقط. هذه النسبة المئوية العالية تعمل على حرمان الأحزاب الصغيرة و ممثلي القوميات غير التركية و ممثلي الأديان غير الإسلامية و المذاهب غير السُنية، من المشاركة في الحكم و التي تُعتبر شرخاً خطيراً في بُنية النظام الديمقراطي. هذا السقف العالي لشرط المشاركة في الهيئة التشريعية تمّ وضعه بصورة خاصة لمنع ممثلي الشعب الكوردستاني من المشاركة في البرلمان و بالتالي حرمان هذا الشعب من المشاركة في حكم البلاد.
6. العلمانيون و الإسلاميون
منذ تأسيس الجمهورية التركية و إنقلاب كمال أتاتورك على القيم الإسلامية، فأنّ الصراع قائم و مستمر بين العلمانيين و الإسلاميين. في هذه الأيام نرى أنّ المدّعى العام التركي السيد (عبدالرحمن يالتشينكايا) يطالب بحظر حزب العدالة والتنمية و منع قادته بمن فيهم رئيس الجمهورية من العمل في السياسة لمدة خمس سنوات، بتهمة تناقض ممارسات و تصريحات أعضاء الحزب المذكور مع مبدأ العلمانية المنصوص عليها في الدستور التركي، بالرغم من فوز حزب العدالة والتنمية في الإنتخابات التشريعية. قرار المدعى العام التركي خطوة نحو إزاحة حزب العدالة والتنمية عن الحكم من قِبل الأتاتوركيين العسكريين و المدنيين و ما هو إلا إستمرار للصراع المزمن بين الفريقين.
من خلال النظر الى الفوز الساحق الذي أحرزه حزب العدالة والتنمية الإسلامي برئاسة السيد رجب أردوغان، ندرك بأنّ أكثرية الشعب التركي لا تزال تحتفظ بالفكر الإسلامي و شعور الإنتماء الى الدين الإسلامي بالرغم من التغريب الذي أحدثه كمال أتاتورك للأتراك و الذي إستمر لأكثر من ثمانين عاماً. هذا يُثبت فشل الفكر الكمالي الذي فرضه أتاتورك بالقوة على الشعب و أراد أن يسلخه من معتقداته و طقوسه و عاداته و ها نرى أن العقيدة الإسلامية متجذرة في نفوس أكثرية الشعب التركي. من جهة أخرى، فأنّ الجنرالات الأتراك و معهم المدنيون (العلمانويون) الذين تلتقي مصالحهم الشخصية و الحزبية مع رجال الجيش، يعملون على الإحتفاظ بالهيمنة على الحكم و التمتع بالإمتيازات، و لذلك يعملون جاهدين على إزاحة القوى الإسلامية في طريقهم للإستمرار في الحكم و الإستحواذ على ثروات البلد. كما ذكرتُ، فأنّ الجنرالات هم واضعو الدستورالتركي و جعلوه يتضمن مواد تمنحهم الصلاحية في إسقاط الحكومات المنتخبة بحجة الدفاع عن العلمانية و وحدة البلاد و عليه فأنّ الجيش قد قام بتأمين التمسك بالحكم لنفسه و بإستطاعته تقويض أية حكومة لا يرغب بها.
لا شك أنّ هذا الصراع بين الإسلاميين و مَن يُسمّون أنفسهم بالعلمانيين، سيؤثر سلباً على الحياة السياسية و الإقتصادية و يُؤدي الى حالة من الفوضى و عدم الإستقرار و بالتالي يقود الى إضطراب الحياة السياسية و التأخر في التنمية الإقتصادية و الإجتماعية و بذلك يُضعف مقومات الأمن القومي التركي. أكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة و سنتابع عوامل تركية داخلية أخرى تساهم في تحديد الجمهورية (التركية) ككيان سياسي في الحلقة القادمة.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]