الاعداد والترجمة عن الروسية: دكتور #جليلي جليل#
عرفتِ الحربُ التي دارت رحاها بين روسيا القيصرية وتركيا العثمانية خلال الأعوام 1853 1856، باسم حرب القرم. وقد دارت على جبهتي القرم والقفقاس، وشارك الأكراد فيها على الجبهة الأخيرة، سواء من الجانب التركي أو الروسي. فقد استقدمت حكومة الباب العالي العثمانية وبشكل اجباري مابين أربعة إلى خمسة آلاف من أبناء العشائر الكردية المتاخمة للحدود الروسية إلى ساحة المعركة، ومن هذه العشائر: زيلا، حيدرا، سيبكا، جمال الدين، ميلا، بيزكا، وغيرها. هُزم الجيش التركي المؤلف من (40000) مسلح في المعركة الأولى التي جمعت بين جيوش الدولتين على جبهة القفقاس، والتي جرت في شتاء 1853 في منطقة باشكد كلار، وبدأ بالانسحاب شيئاً فشيئاً. لقد كتب قائد الجيوش الروسية الجنرال بيبوتوف بعد انتصاره في هذه المعركة، إلى قيادة الأركان الروسية موضحاً شجاعة المقاتلين الأكراد في الجانب التركي، ويتابع: عندما هزم الأتراك في ساحة القتال، ولاذوا بالفرار، لحق بهم الأكراد، وبدأوا بنهب الجيش النظامي، وعادوا بغنائمهم من الأسلحة إلى قراهم ومناطقهم. لقد أسر الروس في هذه المعركة عدداً كبيراً من الأتراك والأكراد، وأخذوا مايقارب المائة كردي، ووطنوهم في قصبة سمولينسك في مدينة روسلاف، بعيداً عن موسكو.
حتى ذلك الحين، لم يكن لدى روسيا فكرة واضحة عن الأكراد؛ وفي المرة الأولى التي تعرّف فيها المثقفون الروس إلى الأسرى، وقفوا مشدوهين أمام تواضعهم وطريقة عيشهم وروحهم الانسانية العالية. وتالياً كتب ك. ميكشين مقالة عنهم في عام 1855، في مجلة سفِرينيا بجيلا، العدد 283. وعندما قرأ الباحثون الروس في الأكاديمية العلمية القيصرية المقالة، كتب خمسة من الأساتذة الشهيرين آنذاك رسالة إلى رئاسة الأكاديمية، أكّدوا فيها أهمية التعرّف أكثر على الشعب الكردي، وطلبوا بارسال واحد منهم إلى الكرد الأسرى، للاطلاع عن قرب على لغتهم وطبائعهم. ولاتزال هذه الرسالة/الوثيقة التي كُتبت قبل حوالي المائة والخمسين سنة، محفوظة في أرشيف الأكاديمية في مدينة سان بطرسبورغ، وهي تعد مصدراً هاماً لتاريخ التعارف الكردي الروسي، كما تعد شاهداً على اطلاع وإعجاب الباحثين الروس بالشعب الكردي وحياته الاجتماعية وابداعاته الثقافية.
هنا، نترجم مقالة ك. ميكشين، والرسالة التي كتبها خمسة باحثين روس من الأكاديمية المذكورة.
الأكراد في قصبة سمولينسك
بعد أحداث باشكد كلار، تم توزيع الأسرى في مناطق متعددة من روسيا، حيث استقدم حوالي مائة أسير كردي إلى قصبة سمولينسك في مدينة روسلاف. وقد كتب لي أحد معارفي: على المرء أن يرى بأية حال مزرية قَدِمَ هؤلاء إلى مدينتنا. كانت الغالبية أكراداً من سكان آزوريستان القديمة، حيث يعيشون في الشرق على ضفاف نهر دجلة. كانت رؤوسهم معصوبةً بمزق من القماش بدل العمامات وثيابهم ممزقة، بشرتهم سمراء وتميل إلى السواد أحياناً، أقرب إلى الفقراء والمساكين ، وهم لايشبهون جنود الباب العالي في أي شيء.
أعطتهم السلطات منزلاً، ليسكنوا فيه، وكعادة أهل الشرق، فرشوا أرضيته بالقش ليجلسوا عليه، بعد ذلك بثلاثة أيام، استطعتُ التقرّب منهم والتعرف على عدد كبير منهم.
من صفات الأكراد، طول القامة، الرشاقة، الأكتاف العريضة، الخصر الرفيع، وليس ثمت من عيب في بشرتهم، أو في سيماء وجوههم، ويبدو أن كثيرين منهم كان قريباً من القلب. وفي التمعن، ستجد على الكتف اليسرى لكل كردي، يتدلى حجابٌ ليحميه من القتل في الحرب. وقد روى لي أحدهم أن شاباً تركياً عرض عليه (800) بياستراً (1)، مقابل حجابه، لكنه رفض، ورد عليه قائلاَ: الحياة أغلى من المال. كما نجد في أعناق غالبيتهم محفظة جلدية تحتوي على قرآن صغير يشبه كتيبات كريلوف(2)، أوراقه ملونة، كتب عليها قانون (محمد) بأحرفٍ ذهبية، ونُقشتْ عينا وشفتا (محمد) على بعض صحائفه؟. عندما يخرج الكردي قرآنه الملفوف بورق أصفر من المحفظة الجلدية، فانه يقبّله بداية عدة مرات، خاصة شفتي وعيني (محمد)؟. وهم لايتدخلون في النقاشات التي تدور حولهم. ويملك كل واحد منهم سُبْحةً، ينقّل حباتها بهدوء وبلاكلل، يبتهل إلى الله بهمس خفيض.
في الربيع، وبعد ذوبان الثلوج، بدأ الكرد الأسرى يخرجون شيئاً فشيئاً، وكانوا في أحيان كثيرة يمسكون بأيدي بعضهم البعض ويرقصون على أنغام بالالايكا (3) بأوتارها المعدنية المشدودة، وعلى أنغام الموسيقى يخطون خطوة جانبية، ثم يتقدمون خطوتين إلى الوراء، ثم يتوقفون، ويهزّون بأجسادهم. ماذا أقول؟ الرقص لايُكتب. لاتستطيع الكتابةُ شرحَ تلك الارتعاشات. يجب على المرء أن يرى ذلك بنفسه. كنتُ مشدوهاً أمام نشاطهم وهم يلعبون الجيخاردا، بأن يقف أحدهم في وسط الميدان، متصالب اليدين، وينحني، ليركض حوالي خمسون رجلاً للقفز فوقه. لم أرَ رجلاً واحداً أخطأ في هذه الرياضة/اللعبة. يقفون مستقيمي الظهور رغم قاماتهم الطويلة، وهذا ما لم أره عند غيرهم، وفي هذه اللعبة يمكن تخمين مدى خفة الحركة والفطنة وسرعة البداهة عند هؤلاء.
صيفاً، يجلسون على الحِجارة القريبة من منزلهم، أو على حافات نوافذه، ممدين أرجلهم، ويعرضون أنفسهم للهواء النقي معظم الوقت. وعندما تشتد حرارة الشمس، يغمض اثنان أو ثلاثة منهم أعينهم دون أن يغيّروا أماكنهم إلى الظلال، مدللين على فكرة استمتاع المسلمين بكل شيء. وكان بين هؤلاء الكرد الأسرى عدد من الأتراك القادرين على إختلاق اللذة والمتعة، وهذه ميزة ثمينة في حال الأسْرِ. ولأن الأسرى كانوا أحراراً تماماً في الحركة، فكانوا في أحيانٍ كثيرة ينزلون إلى السهل، يتنزهون فيه حتى المساء المتأخر، أو يجلسون جانب النهر، وهم يغطسون بأقدامهم في مائه. ويتكلمون بلوعة لساعات طويلة عن وطنهم البعيد؛ أو يَسْبحون في البحيرة القريبة، ودائماً يعودون من نزهاتهم بباقات الزهور. ومما يلفت النظر أنهم لايصنعون باقةً من زهور مختلفة، انما يصنع كل كردي أسير باقةً من نوع محدد من الزهور، ثم يعلقها في مكان عالٍ. هذه الرقة لدى الأكراد تجاه الزهور، قلّما نشاهدها لدى شعوب الشمال. الزهرة عندهم عشبة مباركة، حيث لديهم اعتقاد بأنها كانت بلا رائحة في البداية، إلى اليوم الذي كان (محمد) فيه جالساً في روضته، قريباً من حوض الزهور، مفكراً في مشقات الحياة ومتاعبها، فبكى مهموماً، فتساقطتْ قطراتُ دمعه على الزهور، حتى روتها، فأضحى للزهور منذ ذلك الحين الفَوْح.
إنّ الإيمان بالله راسخ عند الأكراد. نشيطون. ينأون بأنفسهم عن الكسل. يستيقظون قبل شروق الشمس. يتوضأون، ويصلون، ويشعرون بذنب كبير إذا أضاعوا أوقاتهم في النوم، بدلاً من العبادة. لاشيء يبعدهم عن طاعة الله. وهم مقتصدون في طعامهم. فمن أصل تسعة كوبيكات التي يحصل عليها يومياً لتدبير أمور معيشته، يشتري بثلثها تبغاً، وبالباقي يشتري زجاجتين أو ثلاثاً من الحليب ورغيفاً من الخبز الأبيض، يكفيه طيلة النهار. وهم مع ذلك أسخياء جداً. لايقولون أبداً لا لمن يطلب منهم شيئاً. فإذا كان في يد أحدهم رغيف خبز، وطلبه جائع، فانه لايتردد في تقديمه له بالكامل، دون أن يتقاسمه. وهم في أيام الأعياد، يدعون الفقراء إلى موائدهم، ويعطونهم الصدارة في مجالسهم. حدث مرات، أن اشترى أحدهم تفاحاً من سوق المدينة، ووزّعه في طريق عودته على الفقراء، دون أن يتذوقه. في إحدى المرات، كنتُ جالساً مع أحد هؤلاء في منزلي، فقَصَدَنا متسولٌ، فأرشدته إلى المطبخ، قائلاً: اذهب إلى هناك، وهم سيطعمونك. فنظر الكردي إليّ معاتباً، وسألني: هل معك نقود؟، وعندما أجبته: بأنني لاأملك نقوداً صغيرةً، مدّ يدَه إلى جيبه بسرعة، وأخرج قطعة نقدية، دسّها في يدي خِفيةً، حتى لايراه المتسول، وقال لي: هاك، اعطها له. ثم أوضح لي: عندما يسألك سائلٌ حاجته، اعطها له بنفسك، ولا ترسله إلى غيرك، فقد يصدّه ويخذله. كم مرة رأيتُ الأكراد يأخذون دِلاءَ الماء من أيدي النساء، ويوصلونها إلى منازلهنّ، دون أن يطالبوا بشيء مقابل ذلك.
في أيام الحصاد.. نزل الأكراد للعمل في الحقول، وحصلوا مقابل أتعابهم على النقود، وعندما لاحظنا أن إنتاجهم يفوق إنتاجنا ثلاث مرة، ضاعفنا لهم الأجر. بعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ، ارتدى جميعُهم ستراتٍ حمراءَ لامعةً منقوشةً بخيوطٍ ذهبيةٍ، ولفّوا عماماتهم بحريرٍ أزرقَ ينسدل حتى خصورهم. واشتروا بالنقود التي كسبوها أقمشةً وثياباً جديدةً. في نهاية الصيف، كانت ثيابُهم بالكامل جديدةً ونظيفةً. والحق أقول: أنهم يقومون بكل الأعمال بمهارة ودراية.
خلال عام من مراقبتي للأكراد، لاحظتُ تعايشهم السلمي والودّي فيما بينهم. لايدوم أشدُّ خلافاتهم لأكثر من يوم واحد: حرامٌ. تُفقأ العيونُ يقولون. ومن جانب آخر، يتمتع الأكراد بروحِ تضحيةٍ بطرياركيةٍ. ولمعرفة صحة ذلك، من الأفضل سماع شهادة أهالي روسلاف، في مروياتهم للحريق الكبير الذي حدث فيها: عندما شبّتِ النيرانُ في المدينة، وتحولتْ في غضون ساعات إلى بحرٍ لُجبٍ من ألسنة اللهب بسبب حرارة الجو الشديدة وهبوب الرياح. وصار قطع الطريق عن النيران، ومحاولة الحدّ من انتشارها أمراً أكبر من طاقة البشر، فكل مايعترضها، يتحول في دقائق إلى رماد. وعندما نال الرعب من الجميع، وقفوا عاجزين، أظهر الكرد الأسرى رشاقة وشجاعة لم نرَ مثلها. فكانوا يشجّعون بعضهم البعض بالصرخات، ويصعدون إلى أسطح المنازل، ينشرون عليها اللبّاد والسجاد والبطانيات المبللة ، واستطاعوا بهذه الطريقة حماية الكثير من المنازل من الاحتراق. وعندما اشتعلت النيران في قبّة الكنيسة، خلع الأكراد أحذيتهم وعماماتهم ودخلوا في رحابها بقدسية وخشوع كبيرين، واستطاعوا إنقاذ بعض الأشياء الصغيرة من أثاثها، ووضعوها على أحد الجبال القريبة. لقد ترك عملهم النبيل هذا أثراً طيباً لدى سكان المدينة، وزاد من قَدرهم واحترامهم. وبسببٍ من طيب سريرتهم، لم يكونوا ينتظرون مقابل أعمالهم أي مقابل. قلوبهم مفتوحة نحو كل البشر. وقدّرَ هؤلاء الأسرى الكرد كَرَمَ عدوهم تجاههم؛ ومن الجهة الثانية كان الشكر والامتنان لجميل صنيعهم أمراً مفرغاً منه. ومن المهم أن نظهر للعالم بأسره سخاء وتضحية الأكراد المتخلفين عن ركب الحضارة!. واذا قارناهم بالمثقفين الانكليز، فما الذي سيبقى للأخيرين من الأفكار والصفات التي يتفاخرون بها؟!
إن الحياة توضّح أنّ مَدَنيّة الانكليز تتلخّص في حماية مصالحهم، واستغلال الآخرين إلى حده الأقصى، والصلف والكبرياء الفارغة.. مما يولّد الظلم والكراهية، وهم يرويدون فرض مدنيتهم على روسيا بالقوة. تعالوا، نضع أيدينا على ضمائرنا، هل نستطيع القول بأن الانكليز أنقى وأكثر كرماً من الأكراد؟ بالتأكيد: (لا).
اليوم يسير الغربُ بروح التحضّر والمدنية نحو الدمار.
فليبتعدْ هذا العارُ عن روسيا المُبارَكة.
سان بيتربورغ. 08-10- 1855.[1]