مستقبل الكيان السياسي العراقي
د. مهدي كاكه يي
في البداية أعتذر للقراء الأعزاء على إنقطاعي عن الكتابة لفترة غير قصيرة، حيث أنني غير متفرغ للكتابة و مع ذلك سأسعى بالإستمرار في الكتابة بين حين و آخر و لكن خلال فترات زمنية أسرع. كما أنني سأكتب و أنشر الحلقات المتبقية من دراستي المعنونة تركيا الى أين؟ تباعاً. بالنسبة لهذه المقالة، في الحقيقة بدأت بكتابتها بعد إنتهاء الإنتخابات التشريعية العراقية الأخيرة و ها تجد طريقها الى النشر بعد مرور أكثر من ثلاث أشهر.
قبل البدء بالموضوع الذي نحن بصدده، أود الحديث قليلاً عن الإنتخابات البرلمانية العراقية و تشكيل الحكومة العراقية الجديدة التي لها علاقة بالموضوع. في الحقيقة أن الإنتخابات البرلمانية العراقية تفتقد الى الشرعية و النزاهة و الشفافية لأسباب عديدة. الإنتخابات لم تستند على تعداد سكاني لتحديد المواطنين العراقيين الذين كان يحق لهم التصويت في إنتخاب أعضاء البرلمان العراقي، حيث أنه إستند حق التصويت على حيازة المواطن على البطاقة التموينية. نتيجة عدم وجود إحصاء سكاني حديث، تم تحديد المقاعد البرلمانية المخصصة للمحافظات على أسس سياسية و فئوية، بعيدة عن الأسس التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي. هذه النقطة لوحدها تُفقد الإنتخابات العراقية شرعيتها و مصداقيتها. الإنتخابات العراقية تجرّدت أيضاً من مصداقيتها و شفافيتها نتيجة إغداق أموال البترول الضخمة لآل سعود على االكتلة لعراقية التي يقودها السيد إياد علاوي و التي هي كيان سياسي يجمع فلول البعثيين من أمثال السادة صالح المطلق و الأخوَين النُجييفي و طارق الهاشمي و غيرهم من الذين لا يزالون يحلمون بعودة صرحهم المنهار و أمجادهم الماضية و كذلك أموال ملالي إيران التي دفعوها للأحزاب الدينية الشيعية و تسخير وسائل إعلام الحكومات المساندة لتلك الكيانات و الأحزاب العراقية في خدمة عملائهم العراقيين. بهذه الأموال الطائلة قد إستطاعوا أن يشتروا ذمم مسئولي المفوضية العليا للإنتخابات و المشرفين على عملية إجراء الإنتخابات و حصر غالبية العاملين في المفوضية على المنحازين للقائمة العراقية و قائمة السيد نوري المالكي، حيث كانت أكثرية المشرفين على العملية الإنتخابية هم من البعثيين و أعضاء في حزب الدعوة الإسلامية التي يرأسها السيد المالكي. إن التفاوت في الإمكانيات المالية و الدعائية و السلطوية بين الكيانات السياسية أحدث خللاً في التنافس المتكافئ بين تلك الكيانات السياسية المشاركة في الإنتخابات التشريعية و الذي يعني إعطاء أرقام خاطئة للأصوات الحقيقية للمواطنين التي كانت من المفروض أن تنالها الكيانات السياسية المختلفة. بالإضافة الى القيام بعمليات تزوير واسعة خلال هذه الإنتخابات و التي تعني عدم إحترام المزوّرين لإرادة الشعب العراقي و عدم إيمانهم بالديمقراطية. خلاصة القول أنه يستحيل إجراء إنتخابات نزيهة و شفافة و ذات مصداقية، سواء كانت إنتخابات برلمانية أو رئاسية أو بلدية، في المجتمعات المتخلفة، مثل المجتمع العراقي. كما أن وضع دساتير متطورة لهذه المجتمعات لا يعني شيئاً لأنّ المجتمعات القبلية و العنصرية و الطائفية لا تلتزم بمواد الدستور بأي شكل من الأشكال.
لنتحدث أيضاً بإختصار عن تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. لو كان السياسيون العراقيون يؤمنون بالنظام الديمقراطي و يحترمون الدستور، لَكانوا يفتحون المجال للسيد إياد علاوي، الذي حازت كتلته على أعلى عدد من المقاعد البرلمانية، بالقيام بمحاولة تشكيل حكومة عراقية جديدة و لَكانوا لا يحتاجون الى الدخول في فراغ سياسي كل هذه الفترة الطويلة. إن تكليف السيد علاوي بتشكيل الحكومة لا يعني بأنه سيصبح رئيساً للوزراء، لأنه يحتاج الى أصوات نصف أعضاء البرلمان العراقي زائداً واحد، أي 163 صوتاٌ من مجموع أعضاء البرلمان العراقي البالغ 325 عضواً. إذن يجب على السيد علاوي تأمين ذلك العدد من الأصوات ليصبح رئيساً للوزراء و الذي بدون أعضاء قائمة السيد نوري المالكي و المؤتمر الوطني اللتين حصلتا معاً على 159 مقعداً برلمانياً، يحتاج السيد علاوي أن يحصل على تأييد كافة الكتل السياسية الأخرى الفائزة في الإنتخابات البرلمانية إذا أراد تشكيل حكومة لا تشارك فيها كتلتا المالكي و الإئتلاف الوطني، و سيكون من شبه المستحيل تمكنه من الحصول على تأييد كافة تلك الكتل السياسية. من جانب آخر، فأن فترة تكليف القيام بتشكيل الحكومة هي فترة محددة حسب الدستور العراقي (أعتقد أنها شهر واحد) و إذا فشل المكلَّف بتشكيل الوزارة في مهمته خلال تلك الفترة الزمنية التي يحددها الدستور، فأنه يتم تكليف مرشح القائمة التي لها ثاني أكبر عدد من أعضاء البرلمان و الذي في هذه الحالة هو السيد نوري المالكي.
هنا أحب الإشارة الى أن القيادات الكوردستانية و الشيعية قد إرتكبوا خطأً خطيراً لا يُغتفر حينما سمحوا، منذ بداية سقوط نظام صدام حسين، للرموز البعثية العنصرية، من أمثال السادة إياد علاوي و طارق الهاشمي و الأخوَين النُجيفي و صالح المطلك و ظافر العاني و غيرهم، بالمشاركة في الحكم، بل تبؤ مناصب قيادية و مهمة في الدولة. هؤلاء الى يومنا هذا يمجدون حزب البعث ولا يدينون الجرائم الرهيبة التي إقترفها حزب البعث بحق الشعب العراقي و بحق البشرية جمعاء. بكل أسف فأن كثيراً من المثقفين و الكُتّاب لا يستوعبون الخطر الذي يُشكله الفكر البعثي العنصري الذي يفوق الفكر النازي في عنصريته و عنفه و وحشيته و بدأوا بترديد مقولة حكام العراق الجدد النظام البعثي الصدامي بدلاً من النظام البعثي و كأنما فكر حزب البعث هو فكر إنساني متحضر، و أن صدام حسين قام بتحريفه. طيب، ها هو الفكر البعثي الإجرامي نفسه يحكم في سوريا و صدام حسين لم يكن حاكماً هناك. لم يكن صدام حسين سوى عضو بسيط في صفوف حزب البعث عندما إقترف حزب البعث جرائم رهيبة، من قتل و إبادة، بعد تسلمه الحكم في سنة 1963. من المهم جداً العمل على إستئصال الفكر البعثي و التعامل معه كما يتم التعامل مع الفكر النازي.
كان على القيادات الشيعية و الكوردية الحاكمة التي إستلموا السلطة بعد زوال الحكم البعثي في العراق، إشراك قوى سنية غير بعثية و معتدلة في الحكم و التي تُدين جرائم حزب البعث و تؤمن بالنظام الديمقراطي. إن الأطراف المؤتلفة في الكتلة العراقية التي يقودها السيد إياد علاوي تجمعها أفكار حزب البعث و العنصرية العروبية و هدفها هو الإستيلاء على الحكم و الإنفراد به و أن الحكومات العربية السُنيّة و الحكومة التركية تساندها بكل قوة لتحقيق هذا الهدف لإبعاد الشيعة و الكورد عن الحكم و النفوذ في العراق. إن هؤلاء لا يؤمنون مطلقاً بالديمقراطية، و إنما يستغلون الوسائل الديمقراطية المتاحة في العراق لتحقيق هدفهم في الإستيلاء على الحكم و إحتكاره تماماً كما فعل حزب البعث عندما إستلم الحكم في عام 1968، حيث في بداية حكمه، عندما كان ضعيفاً و غير مسيطراً على الوضع في العراق بشكل كامل و مطمئن، تحالف، كتكتيك مع قيادة الثورة الكوردستانية و الحزب الشيوعي العراقي الى أن قاموا بتثبيت حكمهم فقاموا حينئذ بنكث الإتفاقات التي أبرموها معهما و بضرب الحركة الكوردية و الحزب الشيوعي. لذلك فأن هؤلاء يشكلون خطراً كبيراً على النظام العراقي الجديد و خططهم ترمي الى التسلل الى الجيش و القوى الأمنية ليكونوا قادرين على القيام بإنقلاب عسكري للإستيلاء على الحكم في العراق. صحيح، أن الظروف في العراق و العالم تختلف الآن عما كانت في سنة 1968 عندما إستولى البعثيون على السلطة، إلا أنهم سيقومون بتخريب العملية السياسية في العراق و يشعلون نار حرب أهلية مدمرة بأموال النفط السعودي و دعم الحكومات الخليجية الأخرى و الحكومة التركية و المصرية و الأردنية و التي قد تتحول الى حرب إقليمية شيعية – سُنيّة (بين إيران و حلفائها من جهة و السعودية و مصر و الأردن و تركيا من جهة أخرى) و يكون العراق الساحة الرئيسة لتلك الحرب الكارثية.
نتيجة التنوع القومي و المذهبي في العراق و طبيعة العوامل التي تتحكم بالعلاقات التي تربط هذه المكونات ببعضها، فأن هناك خياراً وحيداً أمام السياسيين في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة وهو تشكيل حكومة (شراكة) بين العرب الشيعة و العرب السُنّة و الكورد. لا يوجد خيار آخر غيره. بدون الشيعة الذين يؤلفون حوااي 60% من نفوس العراقيين، لا يمكن أن تنجح أي حكومة يتم تشكيلها لأسباب عديدة، إضافة لكونهم الأكثرية، فأن الظروف قد تغيرت الآن مقارنة بالعهود السابقة، حيث أنهم الآن يمتلكون قوات عسكرية و لديهم الأسلحة و يحكمون مناطقهم بأنفسهم و كما أن الحكومة الإيرانية لا تقف مكتوفة الأيدي في حالة إبعاد حلفائهم عن الحكم. بالنسبة للعرب السُنّة، في حالة إبعادهم عن المشاركة في الحكم فأنهم سيكثفون من عملياتهم الإرهابية و بدعم من الحكومات الإقليمية السنية [حكومات آل سعود و (تركيا) و الأردن و مصر]. كما أنه نتيجة العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة الأمريكية و إيران، فأن أمريكا لا تريد أن يتمتع الشيعة بنفوذ كبير في العراق. أما إبعاد الكورد عن المشاركة في الحكم فأنه يعني الإقدام على قطع العلاقات بين الحكومة العراقية و حكومة كوردستان و بالتالي إستقلال هذا الإقليم الكوردستاني.
من هنا نرى أن نتائج الإنتخابات في العراق ليست لها أهمية كبيرة لأن في حالة الإصرار على الوحدة القسرية بين العرب السُنّة و الشيعة و الكورد و جمعهم في دولة واحدة ستؤدي الى تقاسم السلطة بين هذه المكونات المتنافرة التي لا تجمعها أهداف و مصالح و ثقافة مشتركة و بذلك يتم إنبثاق حكومة متخاصمة هزيلة فاسدة و كل الفرقاء يكونون من الخاسرين، حيث تستمر العمليات الإرهابية من قِبل القوى العربية السُنيّة لأنها لا ترضى بغير الإستحواذ على السلطة المطلقة في العراق كما كانت تتمتع بها منذ حوالي 14 قرناً و ستقاتل في سبيلها الى النهاية، بدعم من الحكومات الإقليمية السُنيّة. من جهة ثانية سيستمر نظام الملالي في طهران بعملياتهم الإرهابية في العراق لمواصلة نفوذهم فيه و ضمان مصالحهم، حيث أن العراق قد أصبح ساحة صراع مصالح و لحرب مذهبية إقليمية. في حالة الإصرار على إكراه الشعوب في العراق على العيش المشترك بدون أن تربطها مشتركات ثقافية و تأريخية و إجتماعية و إقتصادية، حيث لم تتمكن هذه الشعوب منذ إنشاء الدولة العراقية قبل حوالي 90 عاماً و خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة أن تندمج في بوتقة واحدة تجمعها أهداف و مصالح مشتركة و علاقات المواطنة المتكافئة، سيعيش العراقيون في تحارب و قتال ضد بعضهم البعض بالنيابة عن الحكومات الإقليمية و يقومون بسفك الدماء و تخريب الإقتصاد، حيث ينتشر الفقر و المرض و البطالة. منذ تأسيس الدولة العراقية الى يوم تحرير العراق من قِبل القوات الأمريكية، فأن المكونات العراقية كانت (موحّدة) بالقوة و البطش و الإرهاب، أو بالأحرى كان العرب السُنّة يستحوذون على الحكم و خيرات العراق و الشيعة و الكورد كانوا مُستعبَدين و مضطهَدين على أرض يعيشون عليها منذ ما قبل التأريخ، في حين كان الغرباء الذين إستحوذوا على الحكم في العراق كانوا يعيشون آنئذ في الجزيرة العربية.
إن الصراع الدائر على الساحة العراقية هو صراع مصالح بين كل من الولايات المتحدة و الحكومات السُنّية في المنطقة و خاصة كل من السعودية و (تركيا) و مصر و الأردن و الدول الخليجية الأخرى من جهة و بين الحكومة الإيرانية و حلفائها من جهة أخرى، حيث تلتقي مصالح الأمريكان مع مصالح الحكومات المتحالفة معها في جوانب تختلف من حكومة الى أخرى تبعاً للأجندة المختلفة لتلك الحكومات فيما تخص الحكم في العراق و المعادلات المذهبية و القومية بين المكونات السكانية العراقية.
رغبة الحكومة الأمريكيية في مشاركة حزب البعث في الحكم في العراق، فأنها تعود لأسباب عديدة، أهمها هي مواجهة النظام الإيراني الذي يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة و يهدد الأمن القومي الإسرائيلي من خلال طموحه بالحيازة على السلاح النووي و ذلك من خلال تهميش نفوذ الأحزاب الدينية الشيعية الموالية لإيران أو المتعاطفة معها في العراق و إستقواء العرب السُنّة الذين يتحالفون مع الحكومات السُنّية في المنطقة ضد النظام الإيراني. كما أن الولايات المتحدة بسماحها للبعثيين بالمشاركة في الحكم يُراد منها تحييد أكبر عدد ممكن من البعثيين الذين يحملون السلاح ضد الوجود الأمريكي في العراق و ذلك لمنع تحالفهم و تعاونهم مع الإرهاب الدولي المتمثل بالقاعدة و لتقليل خسائر الأمريكيين في العراق و التمكن من سحب قواتهم من العراق حسب الخطة الموضوعة، و خير مثال على ذلك هو نجاح الأمريكيين بكسب قوات الصحوة الى جانبهم و التي كانت في السابق تحمل السلاح ضدهم. لا يخفى بأن القوات الأمنية للنظام السابق متدربة و تمتلك خبرات جيدة و التي تستطيع خدمة الأهداف الأمريكية، بعكس القوات الأمنية و العسكرية العراقية الحالية التي تفتقد الى الخبرة و المهنية العالية و مقسّمة على نفسها، حيث تتوزع ولاءاتها على أسس طائفية و قومية و حزبية و مناطقية و شخصية و بذلك تكون عاجزة عن حماية المصالح الأمريكية في المنطقة. قد تكون الضغوط التي واجهتها الحكومة الأمريكية من قِبل الحكومات السُنّية في المنطقة، وخاصة الحكومة السعودية و التركية قد لعبت دوراً في رغبة الولايات المتحدة الى إعادة البعثيين الى الساحة السياسية العراقية و إعادة نفوذهم من جديد. لا شك أن عجز القيادات الشيعية و الكوردستانية في السيطرة على الوضع الأمني في العراق بعد تحرير العراق من قبضة البعثيين و فشل هذه القيادات في إرساء نظام ديمقراطي و إنتشار الفساد المالي و الإداري في العهد الجديد و تناحر القوى الحاكمة، قد خيّبت آمال الأمريكيين في الحكام الجدد و إضطرتهم الى البحث عن قوى عراقية أخرى منسجمة فيما بينها و مع الحكومات الإقليمية الحليفة لأمريكا و المعادية للحكومة الإيرانية و البعثيون هم من الفصائل التي تتمتع بهذه المواصفات.
بالنسبة الى الحكومات الإقليمية، فأن حكومة آل سعود تحتل جزء من بلاد الشعب الشيعي و أن بترولها يتدفق من ذلك الجزء المحتل، بالإضافة الى مذهبها الوهابي الذي يفرض معتقداته المتخلفة على الآخرين بالإرهاب و العنف. لهذين السببين فأن الحكومة السعودية تشعر بأن عرشها مهدد بمشاركة الشيعة في حكم العراق ولعب دور رئيس في إدارة البلاد. كما أن الحكومة السعودية تقف ضد تطلعات الشعب الكوردستاني في إقليم جنوب كوردستان في الحرية و االمشاركة في حكم العراق لأنها تعتبر جنوب كوردستان أرضاً عربية و أن تحرر كوردستان و إستقلالها أو حتى الحرية النسبية التي يتمتع بها شعب كوردستان ستكون تهديداً لعرش العائلة السعودية، حيث أنها ستؤدي الى تغيير جذري في التوازن السياسي في منطقة الشرق الأوسط. كما أن تقدم العراق و إستقراره سيؤديان الى زيادة هائلة لإنتاج نفطه و سيصبح دولة رئيسة في المنطقة التي ستلعب دوراً هاماً في التوازنات الإقليمية في المنطقة و التي بدورها ستؤثر على الإقتصاد السعودي و الأهمية السعودية االنفطية العالمية على الإقتصاد العالمي. كما أن التعددية السياسية و نظام تداول السلطة تشكلان خطراً على إدامة حكم آل سعود.
من أولويات أهداف الحكومة التركية، بعكس الحكومات العربية السُنيّة، هي حرمان شعب كوردستان من التمتع بنفوذ في العراق و سعيها لإلغاء النظام الفدرالي في العراق ليعود الحكم المباشر لإقليم جنوب كوردستان من قِبل الحكومة العراقية، كما كانت في العهود السابقة. هكذا تعمل الحكومة التركية جاهدةً على محو النفوذ الكوردي في العراق و النظام الفدرالي العراقي الذي يتمتع في ظله شعب كوردستان بحقه في إدارة إقليمه بحُريّة نسبية. حسب التقديرات، تبلغ نفوس الكورد في إقليم شمال كوردستان أكثر من 25 مليون نسمة. لذلك فأن تمتع الكورد في إقليم جنوب كوردستان بحقوقهم سيؤثر سلباً على الحكومة التركية التي تًحرم الكورد في الجزء الذي تحتله من كوردستان من أبسط حقوقهم الإنسانية و السياسية و الإقتصادية و الثقافية و القومية. إحجام النفوذ الشيعي في العراق يحتل المرتبة الثانية من الأهمية بالنسبة للحكومة التركية، حيث أنها تتحالف مع الحكومات العربية السُنيّة في المنطقة لتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة لأسباب مذهبية و تأريخية و سياسية و إقتصادية. المبادرات و التحركات التركية، مثل التظاهر بمعاداة إسرائيل و إرسال السفن المحملة بالمساعدات الى قطاع غزة، ماهي إلا حلقة من حلقات البرنامج الموضوع إسرائيلياً و أمريكياً و أوربياً ل(تركيا) للقيام بتنفيذه للحد من النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، و حصول (تركيا) على نفوذ و شعبية في الأوساط العربية و الإسلامية بشكل عام و الفلسطينية بشكل خاص لإحلال الإسلام التركي المعتدل محل الإسلام الإيراني المتطرف لأدجنة المنظمات الفلسطينية و خاصة حماس و تشجيع تطوير العلاقات التجارية بين (تركيا) و الحكومات العربية. كما أنه من المفيد التنويه بأن (تركيا) عاجزة تماماً عن معاداة إسرائيل، حيث أنها، بدون الدعم السياسي و الإقتصادي و العسكري الإسرائيلي و الأمريكي ستنهار (تركيا) ككيان سياسي و سيتحرر إقليم شمال كوردستان من الإحتلال التركي.
التعددية السياسية و نظام تداول السلطة تشكلان خطراً على النظام المصري و الأردني. صعود النجم الشيعي و الكوردي في العراق سيخلخل العرش الأردني و يؤدي الى تهميش الدور الأردني في المنطقة و الى تدهور إقتصادها الضعيف. كما أن مصر التي تعاني من مشاكل إقتصادية خطيرة، تطمح الى عودة الحكم السُني في العراق لتصدير قواها البشرية الى العراق من جديد و جعل العراق سوقاً رائجة لمنتوجاتها، كما كان الحال في زمن المقبور صدام حسين. هذا النظام الجديد في العراق و تحالفاته الإقليمية و الدولية تؤدي الى إنحسار الدور الذي تلعبه مصر كدولة كبيرة في المنطقة.
الآن لنأتي الى الموضوع الذي نحن بصدده. لنكن واقعيين و موضوعيين في تحليلاتنا و نبتعد عن التمنيات و الرغبات الشخصية و المصالح الشخصية و الحزبية و الطائفية و القومية لنساعد الشعوب العراقية في محنتها و نوقف نزيفها و ننقذها من بؤسها و عوزها و جهلها و نوصلها الى بر الأمان و الحرية و الإزدهار و التقدم و ذلك بإحترام إرادتها في تقرير مصيرها بنفسها، كفاها القتل و الدمار و الخراب و القلق و اللاإستقرار!
في البداية يجب أن نعترف بأن العراق ككيان سياسي هو كيان مصطنع و أن شعبه هو عبارة عن خليط قومي و مذهبي متنافر و غير متجانس لأسباب تأريخية و ثقافية و إجتماعية و نتيجة تخلف مجتمعاته. تم تأسيس الدولة العراقية منذ حوالى تسعين عاماً، إلا أن المكونات الرئيسة للشعب العراقي من شيعة و سُنّة و كورد لم تستطع التفاعل مع بعضها البعض لإنتاج مزيج سكاني متجانس و فشلت هذه المكونات في خلق هوية و ثقافة جامعة لها و لذلك لم تتمكن من إيجاد أهداف و مصالح مشتركة فيما بينها ليربطها مصير واحد. منذ تكوين الكيان السياسي العراقي، تسلطت فئة واحدة على الحكم و فرضت الوحدة القسرية على بقية الفئات بالقوة و القتل و الإرهاب و حاولت هذه الفئة إذابة المكونات الأخرى في بودقتها، الى جانب إبادة أعداد كبيرة من المكونات العراقية الأخرى و تشريد الملايين منهم الى خارج البلاد و إحتكارها السلطة و إستحواذها على ثروات البلاد.
إن الخلافات المذهبية و القومية ليست حديثة العهد. العداء السُني - الشيعي عمره حوالي ألف و أربعمائة سنة. كما أن العداء العربي - الكوردي بدأ مع تقسيم كوردستان بعد الحرب العالمية الآولى و خلق الكيان السياسي العراقي و السوري من قِبل بريطانيا و فرنسا ليضم هذان الكيانان أجزاء من كوردستان. طيب إذا كانت التفرقة الطائفية ظهرت بعد سقوط النظام البعثي في العراق، كما يدّعي البعض أو ليست هناك تفرقة مذهبية بين السُنّة و الشيعة في العراق، كما يدّعي آخرون، عندئذ نتساءل: لماذ إختار الشعب العراقي ممثليه في البرلمان العراقي على أساس طائفي و قومي، حيث صوّت الشيعة لمرشحي الأحزاب الشيعية و العرب السُنّة لمرشحي الكتل السُنيّة و الكورد للكتل الكوردية؟ هل العلاقات السُنّية و الشيعية جيدة في دول تعيش فيها السُنّة و الشيعة معاً، مثل باكستان، أفغانستان، إيران، السعودية، اليمن، البحرين و لبنان و غيرها من الدول التي تتواجد فيها السُنّة و الشيعة؟ إذن الخلاف السُنّي – الشيعي لا يقتصر على العراق لوحده و إنما هو خلاف شامل بين المذهبين، بدأ مباشرة بعد وفاة النبي محمد و تعمّق أكثر بعد مقتل الإمام علي و تسلّم الحكم من قِبل الأمويين و منذ ذلك الحين و الحرب مستمرة بين الطرفين و وصلت هذه الحرب الى ذروتها عندما أعلن الإمام الحسين ثورته و من ثم مقتله و هذا الحدث الجلل لا يزال يتم إحياء ذكراه من قِبل الطائفة الشيعية في كل أنحاء العالم. إذن التفرقة الطائفية كانت موجودة منذ تأسيس دولة العراق، إلا أن البطش و العنف و الإرهاب الهمجي التي قامت بإستخدامها الحكومات العراقية الشمولية المتعاقبة و التي وصلت الى قمة وحشيتها خلال فترة حكم البعثيين، كمًت أفواه الشيعة و بذلك تم فرض العيش المشترك بين الشيعة و السُنّة ضد إرادة الشيعة. اليوم، بعد زوال القوى التي كانت مسلطة على رقاب الشيعة و بدأت أجواء ديمقراطية تُخيّم على العراق، ظهرت العلاقات الحقيقية بين معتنقي هذين المذهبين. صحيح أن الطائفية و العنصرية مرضان خطيران، إلا أن أكثرية العراقيين يؤمنون بهما، سواء إعترفنا بذلك أم لم نعترف به. إننا علينا كباحثين و مثقفين و كُتّاب أن لا نتهرب من الواقع الذي يفرض نفسه سواء تكلمنا عنه أو تغاضينا عنه أو أنكرناه. الواجب الإنساني و المهني و نداء الضمير يحتّم علينا أن نعترف بالواقع كما هو، بعيداً عن العواطف و الأهواء و الرغبات و التمنيات و المصالح و نحلله بصورة علمية و على ضوء هذا التحليل نحدد الخطوات و الإجراءات الصائبة و التي يجب أن يكون هدفها هو خدمة الإنسان و ذلك عن طريق مساعدته و دعمه لتحقيق حريته و سعادته و رُقيّه و رفاهيته.
هكذا بالنسبة للخلاف العربي – الكوردي، فأن النضال القومي الكوردي لا يقتصر على العراق لوحده، حيث أن الشعب الكوردي مشتت بين عدة كيانات سياسية و وطنه، كوردستان، محتل من قِبل هذه الكيانات السياسية، لذلك فأن نضاله هو في كل من (تركيا) و إيران و سوريا، بالإضافة الى العراق. إنه نضال شعب في سبيل تحرير وطنه و تحقيق حريته و الحفاظ على وجوده و ثقافته و التمتع بخيرات بلاده. لذلك فأنّ القضية الكوردية هي قضية إقليمية و دولية تحتاج الى تحقيق الشعب الكوردستاني لتأسيس كيانه السياسي و وضع نهاية لمأساة هذا الشعب العريق و وضع خاتمة لنزيف الدم الكوردي والعربي و التركي و الفارسي و وقف إهدار ثروات المنطقة و البدء بالعيش المتكافئ لشعوب الشرق الأوسط و إعمار بلدانها و تطويرها و العمل على رفاهية شعوبها بدلاً من ويلات الحروب و الدمار و إراقة دماء بناتها و أبنائها و إزهاق أرواحهم البريئة. لنُصلي و ندعو معاً لتحقيق هذا الهدف الجميل!
نستنتج مما سبق بأن الحديث عن الإخوة الشيعية – السُنّية و العربية – الكوردية ماهو إلا هراء و نفاق أو مجرد مجاملات بائسة أو خطابات سياسية فاشلة لا تمت بصلة للواقع العراقي. الإخوة تعني علاقات متكافئة بين مكونات الشعب، حيث تسود المساواة و العدالة في ظل نظام ديمقراطي. من الجدير بالذكر هو أنه ليست هناك أخوة بين الشعوب و القوميات و حتى بين الأفراد، و إنما تتحكم المصالح في العلاقات بينها، سواءً كانت مصالح مادية أو معنوية أو كليهما، حيث قد تكون كلمة الإخوة مأخوذة من الدين الإسلامي و التي يتم تداولها في المجتمعات الإسلامية الى الوقت الحاضر. من هنا ندرك بأن فرض الوحدة القسرية على هذه المكونات هي جريمة كبرى لأنه يؤدي الى إراقة المزيد من الدماء و إستمرار معاناة الإنسان العراقي و تواصل خراب البلد و إستنزاف و هدر ثرواته الطبيعية و زرع مزيد من التخلف و البؤس و الشقاء و المآسي الإنسانية.
إذا فكرنا بالتخلف الثقافي و الفكري و الإقتصادي و الإجتماعي و الحضاري للمجتمعات العراقية، نستدرك إستحالة العيش المشترك بين السُنّة و الشيعة و الكورد في إطار نظام سياسي واحد أو نظام سياسي مركزي، حيث لا يمكن العيش المشترك بين مجتمعات متخلفة مثل المجتمعات العراقية، حيث لا يزال النظام القبلي و الإقطاعي أو شبه الإقطاعي يحكمها ولا يزال الدين و المذهب يلعبان الدور الرئيس في حياة العراقيين، بما فيها الحياة السياسية و التشريعات و القوانين. ها نحن نعيش في القرن الحادي و العشرين، قرن ثورة المعلومات و الإتصالات، و الشعب العراقي لا تزال الأعراف و التقاليد العشائرية تتحكم فيه و يتم تأسيس التشكيلات المسلحة على أساس عشائري كما هو الحال بالنسبة للالصحوات. الأعراف و التقاليد العشائرية لا تزال سائدة في المجتمع بشكل عام بالإضافة الى التعصب القومي و الديني و المذهبي الذي يتحكم بالعلاقات بين مختلف المكونات العرقية و الدينية و المذهبية. هل يمكن أن يسود مجتمع متخلف متعدد الأطياف، مثل المجتمع العراقي، التآلف و التعاون بين مكوناته التي لها هويات و أهداف و مصالح و ثقافات مختلفة؟
لنترك المجتمعات المتخلفة و ننظر الى المجتمعات المتحضرة الهجينة عرقياً أو مذهبياً، لنرى المشاكل المستمرة التي تعاني منها هذه المجتمعات نتيجة التعدد القومي أو المذهبي فيها. نرى دولاً متقدمة و متحضرة تعاني من المشكلة القومية، على سبيل المثال، يطالب كل من الشعب الباسكي و الكتلاني بالإستقلال عن إسبانيا. في بلجيكا، الخلاف مستمر بشكل متواصل بين سكان القوميتين الرئيسيتين الناطقتين بالهولندية و الفرنسية اللتين تعيشان في إقليمَي فلاندرز و والونيا. إفتقار القوميتين للإنسجام و التفاهم على العيش المشترك بينهما، يجعل الظروف السياسية في بلجيكا غير مستقرة و بشكل مستمر. حزب التحالف الفلمنكي الجديد (N-VA) للسكان الناطقين بالهولندية، الذي هدفه إستقلال فلاندر عن بلجيكا، حصل في الإنتخابات البرلمانية التي أُجريت مؤخراُ في بلجيكا على حوالي 20 بالمائة من أصوات المقترعين (30 مقعد من مجموع 150 مقعد في مجلس العموم البلجيكي) و بذلك يصبح أكبر حزب في البلاد و سيتم تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، مما ستجعل البلد أن تتجه نحو التقسيم. يتكهن بعض المؤرخين و المحللين السياسيين بأن بلجيكا ستنشأ منها دولتان مستقلتان خلال 10 الى 15 سنة القادمة. في بريطانيا، هناك أحزاب أسكتلندية و إيرلندية شمالية و ويلزية تناضل من أجل إستقلال كل من أسكتلندة و إيرلنده الشمالية و ويلز على التوالي. في الوقت الحاضر يقود الحزب القومي الأسكتلندي، الذي يرفع شعار إستقلال أسكتلنده، الحكومة الأسكتلندية برئاسة رئيس الحزب السيد أليكس ساموند. في كندا، هناك حركة مستمرة في إقليم كيوبك، الذي سكانه من الناطقين باللغة الفرنسية، تطالب بالإستقلال. في الولايات المتحدة الأمريكية، هناك أحزاب محلية تعمل من أجل إستقلال الولايات عن الدولة الأمريكية. على سبيل المثال، لا الحصر، حزب إستقلال آلاسكا الذي تم تأسيسه في السبعينيات من القرن المنصرم و الذي يناضل من أجل إجراء إستفتاء لسكان ولاية آلاسكا للإنفصال عن الولايات المتحدة الأمريكية. المرشحة السابقة لنائب رئيس الجمهورية للحزب الجمهوري السيدة ساره بالين، كانت عضوة فعالة في الحزب المذكور خلال التسعينيات من القرن الماضي. في هذه البلدان الديمقراطية المتحضرة توجد أحزاب و حركات تعمل من أجل إستقلال أقاليمهم عن تلك الدول بسبب الإختلاف القومي، بالرغم من الحقوق التي تتمتع بها تلك الشعوب الطامحة في الإستقلال، فكيف يكون الأمر بالنسبة للشعب الكوردي في العراق الذي تعرض للإبادة الجماعية و التعريب و الإلغاء؟
بالنسبة الى مشاكل الإختلاف المذهبي في المجتمعات المتقدمة، يمكن أخذ إيرلنده الشمالية كمثال، حيث أن نزيف الدم حتى الوقت الحاضر مستمر بين الكاثوليك و البروتستانت و أن المجتمعَين الكاثوليكي و البروتستانتي مغلقان عن بعضهما البعض و أن حاجزاً مذهبياً يفصل بينهما. كما يُعتقد بأن أحد أسباب إغتيال الرئيس الأمريكي جون كندي هو إنتماؤه الى المذهب الكاثوليكي، حيث أنه، منذ تأسيس أمريكا فأن كافة رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية هم من البروتستانت. إذا كان العامل المذهبي لا يزال يلعب دوره في المجتمعات الغربية المتحضرة، فكيف تكون العلاقة بين الشيعة و السُنّة في مجتمع متخلف مثل المجتمع العراقي، حيث أن الخلاف بين أصحاب هذين المذهبين يمتد الى حوالي 1400 عاماً، يتحكّم السُنّة العرب خلال معظم هذه الفترة بحياة الشيعة و يبيدوهم و ينهبوا خيرات بلدهم ؟!
إن التعصب الطائفي و الديني و القومي في المجتمعات العراقية لها جذور تأريخية و ناتجة عن تراكمات إنعدام علاقات متكافئة بين مختلف المكونات الطائفية و الدينية و القومية و التي بدورها حالت دون تحقيق مجتمع موحد ذي ثقافة جامعة و هوية واحدة و مصالح مشتركة و مصير مشترك. هذه التراكمات الثقافية و التربوية و الفكرية خلقت الشخصية المستقلة لكل طائفة و دين و قومية، و تغيّر هذه الشخصيات يحتاج الى فترة تمتد لأجيال عديدة. لنضرب مثلاً على ذلك هو أن هناك أشخاص أكاديميين و أساتذة جامعات عراقيين هاجروا الى البلدان الغربية و أصبحوا يعيشون في المجتمعات الغربية المتمدنة لفترة طويلة، و بالرغم من تحصيلهم الدراسي العالي و عيشهم ضمن نظام غربي متحضر لسنوات عديدة، إلا أنهم لم يستطيعوا التخلص من التراكمات العنصرية و الطائفية الكامنة في عقولهم و نفوسهم، حيث أن تنقية النفس من التعصب المكتسب ليست بعملية بسيطة و سهلة لأن هذا التعصب متجذر في الإنسان. التعليم و العيش في كنف مجتمعات متقدمة قد يساعدان المرء في تطور فكره و وعيه بحيث ينتقل من المرحلة الإنسانية البدائية المبنية على التعصب و الكراهية الى حيث آفاق الإنسانية المتمثلة بمبدأ المساواة و الإيمان بحق الإنسان في العيش و الحرية، إلا أن عامل التعليم و الإحتكاك بالمجتمعات المتمدنة ليسا شرطَين لتحقيق تحول الإنسان من إنسان بدائي الى إنسان متحضر. لهذا السبب نرى أشخاصاً متعلمين، يحملون شهادات عالية و يعيشون في مجتمعات غربية، لا تزال تراكمات البداوة و العصبية و القبلية باقية فيهم و تتحكم بفكرهم. هناك مَن يدّعي ب(عروبة الموصل و بغداد، بل العراق كله) لاغياً القوميات الأخرى، و خاصة الكورد الذين يُخبرنا التأريخ بأنهم سكنوا في بلاد ما بين النهرين منذ ما قبل التأريخ و أنهم بنوا مدينة بغداد الحالية، التي تدل إسمها الكوردي على ذلك، قبل أن يقوم أبو جعفر المنصور بإعادة بنائها بآلاف السنين. هنا لا يسمح الوقت للحديث عن هذا الموضوع، إلا أنني سبق لي أن تطرقتُ الى هذا الموضوع في بعض المقالات المنشورة لي التي يمكن الإطلاع عليها. كما أن مجموعة متعلمة تعيش في الغرب وجّهت رسالة الى الحكومة العراقية تتضمن مقترحات تطالب الحكومة بتبنيها و الأخذ بها و كل تلك المقترحات هي عبارة عن مطالبات بتكبيل الشعب الكوردستاني و إستعباده من جديد. إنهم تلاميذ ساطع الحصري و ميشيل عفلق و جمال عبد الناصر. رغم أن البشرية تعيش في القرن الحادي و العشرين، حيث عصر الإنترنت و الفضائيات و الموبايل و ثورة القيم و المفاهيم و إنعتاق الفكر البشري، لا يزال هؤلاء يحملون الفكر العروبي العنصري البدائي المتخلف الذي يعيش خارج العصر. إن الأفكار العنصرية ستختفي كلياً في المستقبل المنظور لأنها تناقض المبادئ الإنسانية و قيم التمدن و التحضر التي يتصف بها العصرالذي نعيشه الآن. من جانب آخر، هناك مثقفون آخرون، من أمثال الأساتذة الأفاضل الدكتور كاظم حبيب و الدكتور منذر الفضل و غيرهما، يدافعون عن الشعب الكوردي المضطهد ضد هجمات العروبيين العنصريين، منطلقين من مبادئهم الإنسانية النبيلة و الذين يعتز بهم الشعب الكوردي و يُقدّر مواقفهم الإنسانية العادلة.
أتحدث عن المتعلمين العراقيين العرب الذين يحملون شهادات علمية عالية و المفروض أن يكونوا من المُربّين للأجيال القادمة و ينشرون الأفكار و القيم الإنسانية و يساهمون في تطوير مجتمعاتهم و توعيتهم لمواكبة العصر و المشاركة في بناء الحضارات البشرية بدلاً من أن يكونوا من حاملي الفكر العنصري المتخلف الذي يتناقض مع سمو الإنسان و رُقيّه و لذلك فأن مثل هذه الأفكار عاجزة عن مواصلة الحياة، فهي في طريقها الى الزوال. إنهم يعانون من المتراكمات الفكرية و الثقافية المتخلفة التي لا تزال كامنة في عقولهم و نفوسهم و لم يتمكنوا من التخلص منها. أتحدث عن هؤلاء المتعلمين لكي نتعرف على المستوى الفكري و الثقافي المتخلف للناس البسطاء من العراقيين و الذين لا يزالون يسكنون في العراق، حيث لم تتح لهم فرصة التعليم العالي و الإحتكاك بالمجتمعات المتحضرة من خلال الإقامة في الدول المتقدمة. إن هؤلاء تعرضوا لعمليات غسل دماغ لفترة طويلة و تم حقنهم بأفكار طائفية و عنصرية متخلفة و تم تلقينهم بأفكار تُمجّد العنف و الكراهية و تؤمن بالشمولية و إلغاء الآخر. إذن كيف يستطيع هؤلاء الناس الذين يختلفون في القومية و المذهب أن يعيشوا في وئام و سلام معاً؟
قد يظن البعض بأن مواقفي و تعاملي مع القضايا تتصف بالإزدواجية، و سبق أن إتهمني البعض بالعنصرية في مقالات باهتة لهم. إنني أقف ضد العنصرية العروبية، بل كل أشكال و أنواع العنصرية، و أدافع عن حقوق و حرية كل الشعوب المضطهَدة و منها الشعب الكوردي، الذي يكاد يكون جميع كتاباتي حوله. الشعب الكوردي شعب مضطهَد و مظلوم و بلاده محتلة و مجزأة و أنا كفرد منتمي لهذا الشعب، يناديني الواجب الوطني و الإنساني بأن أخدم شعبي و أساعده، إلا أنني أكتب بموضوعية و أتبّع المنهج العلمي و لا أدع العاطفة القومية و الإنحياز القومي تسودان في كتاباتي. أدافع عن حقوق العرب و التركمان و الآثوريين و الكلدان و الأرمن في كوردستان بنفس القوة التي أدافع عن الكورد. على سبيل المثال، فيما لو تحاول حكومة كوردستان تكريد القوميات الأخرى أو لو تقوم بإحتلال أراضي عربية و غير عربية، حينئذ سأقف بكل قوة ضد تلك الإجراءات العنصرية أو العدوانية. أقف مع شعبي حينما يكون على حق و أقف ضده حينما يكون على باطل. هذا هو الفرق بين الدفاع عن شعب مظلوم و الدفاع عن شعب ظالم و معتدٍ. العروبيون العنصريون يعملون على إلغاء الشعوب الأخرى و يقومون بتزوير و إلغاء تأريخ تلك الشعوب و يناصرون العرب سواء كانوا ظالمين أو مظلومين. إن مبادئي لا تسمح لي أبداً أن أكون مثلهم.
إنّ من الأهمية أن نذكر بأن من سوء حظ العراقيين، أنهم ليسوا فقط من الشعوب المتخلفة، و إنما يُشكّلون شعباً غير سوّي، مريضاً نفسياًّ بسبب حكمهم من قِبل أنظمة شمولية رهيبة منذ تأسيس الكيان السياسي العراقي، و خاصة بعد إنقلاب 14 تموز 1958، حيث أصبحوا يعيشون في معمعة الحروب و الإنقلابات العسكرية و الإعدامات العلنية و السرية و يتعرضون لإرهاب الحكومات المتعاقبة و للإعتقالات و القتل الجماعي و الجوع، مما خلق أجيالاً عراقية مريضة، تعاني من مختلف الأمراص النفسية نتيجة مشاركتهم في الحروب و تعرضهم للإرهاب و الرعب و الفقر و الجوع و القلق الدائم على مصيرهم و مصير أسرهم و أقاربهم و أصدقائهم و معارفهم. هذه مسألة مهمة أخرى تحتاج الى دراسات و بحوث نفسية – إجتماعية لمعرفة مدى الخراب الذي تعرض له المجتمع العراقي و القيم التي إختفت في حياة العراقيين و القيم الجديدة التي حلت محلها. إن هذا الأمر قد يكون له علاقة إيجابية مع قيم العنف و القتل و الفساد الإداري و المالي و الكراهية و الإستبداد بالرأي و عدم قبول الآخر التي يتحلى بها المجتمعات العراقية بشكل عام.
قد يقول البعض: طيب، الآن إنتهى الحكم الدكتاتوري في العراق و لنبني هذا البلد من جديد و على أسس المساواة و المواطنة. يجب أن ندرك بأنّ المسألة ليست بهذه البساطة و السطحية، حيث أنها لا تتعلق بزوال نظام سياسي معيّن و حلول نظام آخر محله. المسألة أعمق من ذلك بكثير. إن دمقرطة الشعوب و التحولات الإجتماعية و الفكرية و الثقافية و الإقتصادية و السياسية للمجتمعات تحتاج الى فترة طويلة تمتد لأجيال عديدة. الشعب العراقي الذي عاش منذ تكوين كيانه السياسي، بل قبل ذلك بكثير، عاشت مجتمعاته في ظل حكومات شمولية عنفية همجية و طغت على حياتها الحروب و القتل و الإرهاب و الرعب و الإضطهاد و الفقر و الجهل و المرض و التناحر الطائفي و القومي، لا يستطيع أن يصبح شعباً متجانساً منسجماً في ليلة و ضحاها. إن تحقيق مستلزمات و شروط الديمقرطية و المجتمع المدني يحتاج الى وقت طويل و تتضمن تطورات إجتماعية و فكرية و ثقافية و إقتصادية و سياسية معقدة لا يمكن التنبؤ بتحديد مساراتها ومدى إمكانيات نجاحها، التي تعتمد على الظروف الذاتية للمجتمعات العراقية و تطورات الظروف الإقليمية و العالمية.
إنه لَأمر جيد أن أعداداً لا بأس بها من الأكاديميين و المثقفين و الكُتاّب بدأوا يتوصلون الى حقيقة الواقع العراقي و أخذوا يبتعدون عن الكتابات العاطفية و السطحية و الذاتية، و مع ذلك فأن أعداداً قليلة منهم يتجرؤون على طرح حلول موضوعية و واقعية للمشكلة العراقية رغم توصلهم الى واقع المجتمعات العراقية و العوامل و الظروف التي تتحكم بالعلاقات بين هذه المجتمعات. لقد سبق لي أن نشرتُ حلقتين بعنوان (الكونفيدرالية هي النظام الوحيد القادر على صيانة إستمرارية العيش المشترك بين مكونات الشعب العراقي) و اللذين يمكن الإطلاع عليهما في الرابطَين الموجودَين في نهاية هذا المقال نظراَ لعلاقة مضمونهما مع الموضوع الذي نحن بصدده الآن.
من المهم أيضاً الإشارة الى أن الإصرار على فرض الوحدة القسرية بين المكونات العراقية سيؤدي الى نتائج كارثية على المدى القريب و البعيد. على المدى القريب، عند مغادرة القوات الأمريكية العراق، سيدخل البلد في حرب أهلية طاحنة و مدمرة بين العرب السُنة و الشيعة و الكورد، بتدخل إقليمي. عندما تبدأ الحرب الأهلية سيتشتت الجيش العراقي و القوات الأمنية الأخرى و تتشكل منها قوات على أسس طائفية و قومية، و بذلك تكون هناك قوات سُنية و شيعية و كوردية و يصبح الوضع في العراق شبيهاً بالوضع الحالي للصومال، إلا أن ضراوة المعارك ستكون أكبر بكثير من تلك الموجودة في الصومال. عند مغادرة القوات الأمريكية العراق، قد تتفق الحكومة الأمريكية و الحكومات الأوربية مع كل من الحكومة التركية و المصرية لتتدخلا عسكرياً في العراق و بأموال البترول الخليجي، و خاصة واردات بترول آل سعود و تحت مظلة الأمم المتحدة و بدعوة من ممثلي العرب السُنة المشاركين في الحكومة العراقية لإيجاد تبرير قانوني لمثل هذا التدخل. في هذه الحالة ستحتل (تركيا) إقليم جنوب كوردستان و بضمنها الموصل و كركوك، بل ستعتبره جزءً من (تركيا) و بذلك تحتل ولاية الموصل العثمانية التي تدعي (تركيا) لحد الآن بعائديتها لها و ستستولي على آبار نفط كركوك لتقوية إقتصادها الضعيف. لا أعتقد بأن القوات التركية ستواجه مقاومة كبيرة من القوات الكوردستانية في حالة محاولتها إحتلال الإقليم، حيث أن حكومة الإقليم لم تعمل على تحقيق مستلزمات الأمن القومي الكوردستاني و غير مؤهلة لتكون قادرة على المقاومة و تحقيق النصر. كما أن القوات المصرية ستقوم بإحتلال وسط و جنوب العراق. قد تتدخل إيران عسكرياً بعد التدخل التركي – المصري الذي سيشكل تهديداً خطيراً لأمنها القومي و بذلك ستشتعل المنطقة بأسرها. على المدى البعيد، فيما لو أن سيناريو التدخل العسكري التركي – المصري لم يحدث، فأن الشعب العراقي سيواجه حرباً أهلية مدمرة و لفترة طويلة الى أن تنتهي هذه الحرب بتسلط العرب السُنة في العراق على الحكم و عودة الحكم الدكتاتوري الشمولي من جديد، و بدعم إقليمي سُني و غربي (أمريكا و دول الإتحاد الأوربي)، حيث تكاد تكون فرصة الشيعة في العراق معدومة للإنفراد بالحكم لأن الولايات المتحدة الأمريكية و الدول الأوربية الغربية لا تسمح مطلقاً للشيعة بالتفرد في حكم العراق و التحالف مع الحكومة الإيرانية لتصبح واردات البترول في المنطقة بأجمعها تحت السيطرة الإيرانية و سيصبح توريد البترول من المنطقة للدول الغربية غير مأمون في هذه الحالة. فيما لو لم يتمكن السُنة من السيطرة على الحكم، فستظهر ولادة ثلاث دول جديدة من العراق الحالي، دولة سُنية و أخرى شيعية و ثالثة كوردستانية. في هذه الحالة فأنه سيكون من المرجح جداُ أن تحاول (تركيا) إحتلال كوردستان (ولاية الموصل العثمانية)، فيما لو لم تعارضها الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل و الدول الأوربية.
مما تقدم نرى أنّ من مصلحة مكونات العراق الأساسية التي هي الشعوب الكوردية و الشيعية و السُنية أن تُتاح لها فرصة لتقرير مصيرها بنفسها في إستفتاءات تُشرف عليها منظمة الأمم المتحدة لتختار مصيرها بنفسها، و إلا فأن الإصرار على وحدة العراق شعباً و أرضاً بشكل قسري، سيعمل على إستمرار نزيف الدم في العراق و إزهاق المزيد من الأرواح و إستنزاف المزيد من ثرواته. الوحدة القسرية لا أمل لها في العيش و الإستمرار و لنأخذ الدروس و العبر من الشعوب الأخرى، مثل الشعب الهندي و الباكستاني و البنغالي (كانت الهند و باكستان و بنغلادش دولة واحدة في السابق) و الشعبين الإسباني و البرتغالي اللذين كانا يعيشان ضمن دولة واحدة و دولة يوغسلافيا السابقة و غيرها و من تجاربنا الذاتية الملطخة بدماء ملايين الضحايا الذين فقدوا حياتهم في حروب و معارك و خلافات مذهبية و قومية. إنّ العيش المشترك لمجاميع سكانية، تتألف من مجاميع قومية و مذهبية و ثقافية متباينة، كما يحصل في العراق، يعتمد نجاحه على النضج الفكري و الثقافي و الإجتماعي و السياسي لمكوناتها و إشتراكها في الأهداف و تلاقيها في المصالح. الشعوب الكوردية و الشيعية و السُنية هي وحدها يحق لها أن تقرر مصيرها، فيما لو تقبل بالعيش المشترك الحالي أو إختيار نظاماً كونفيدرالياً يجمعها معاً أو الإستقلال، حيث يؤسس كل شعب كيانه السياسي المستقل. أنا أعتبر الإستقلال هو أفضل الخيارات و أنجحها، إلا أن هذه الشعوب هي وحدها لها الحق في تحديد مستقبلها. نظراً للظروف الإقليمية و الدولية في الوقت الراهن، قد يكون تأسيس كيان سياسي كونفيدرالي يجمع هذه الشعوب هو خيار مناسب، على الأقل في الوقت الحاضر. إن النظام الفيدرالي لا يصلح بتاتاً كنظام حكم سياسي في العراق، حيث أنه ما هو إلا نظاماً لتوزيع الصلاحيات الإدارية و أسلوباً لتقليل البيرقراطية و أن جميع القوميات و الطوائف ستبقى تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية في بغداد التي تحتكر السيطرة على القوات المسلحة و المال و الإقتصاد و العلاقات الخارجية (للإطلاع على النظام الفيدرالي و الكونفدرالي، توجد معلومات مفصلة على الرابطين الموجودين في نهاية هذا المقال).
يمكن تأمين نجاح إستقلال الشعوب في العراق أو تطبيق النظام الكونفيدرالي عن طريق نشر قوات تابعة للأمم المتحدة على حدود الدول الثلاث الجديدة أو حدود الأقاليم الكونفيدرالية و يمكن أن تصبح القوات الأمريكية المتواجدة في العراق حالياً جزء من القوات الدولية. يجب أن لا يتم السماح للحكومات الإقليمية و العربية و الإسلامية بالمساهمة في هذه القوات لأنها ستكون قوات منحازة و تقوم بإفشال التجربة و خلق حرب أهلية، بل يجب أن تقتصر على قوات أمريكية و أوربية و من بلدان أخرى محايدة. إن هذا الإقتراح هو لصالح الشعوب في العراق و لصالح الدول الغربية و الأهم هو لصالح كافة شعوب المنطقة، حيث ستستقر الآوضاع في العراق و يشعر المواطن فيه بإنسانيته و يجد هويته و يتمتع بحريته و يحتفظ بخصوصيته و يطور نفسه و بلده و يبدأ بالبناء و الإستثمارات الكبيرة فيه و يتم تأمين تدفق البترول الى الغرب و مساهمة شركات دولها في البناء و التطور. قد يحدث بعض المشاكل و يندلع بعض الحروب بين الشعوب العراقية في بداية تطبيق هذا المشروع، حيث أنه تجربة جديدة و غير مألوفة لهم و بسبب التدخل الإقليمي في شؤونهم، إلا أن الأوضاع ستستقر بعد فترة قصيرة و سينعمون بالأمن و الإستقرار و الحرية و الرفاهية.
ولادة هذا المشروع و نجاحه تتطلب
[1]