مستقبل شعب كوردستان بعد إنهيار إتفاقية (SYKES -PICOT سايكس – پيكو) (5)
د. مهدي كاكه يي
حقائق مُهمّة عن واقع القضية الكوردستانية
من خلال التمعن في الواقع الكوردستاني، يظهر بعض الحقائق المهمة المتعلقة بالقضية الكوردستانية والتي ينبغي أن تُشكّل هذه الحقائق ركائز أساسية للإستراتيجية الكوردستانية. تُحدد هذه الحقائق الخيارات الكوردستانية الهادفة الى تحقيق حرية شعب كوردستان وتحرير وطنه. لذلك ينبغي أن تؤخَذ هذه الحقائق بنظر الإعتبار عندما يتم البحث عن حل القضية الكوردستانية وإختيار الشعار الذي ستتبنّاه القيادة الكوردستانية لمثل هذا الحل ولوضع إستراتيجية متكاملة وناجحة للنضال الكوردستاني.
الحقيقة الأولى: إن كوردستان بلد مُغتصَب من قِبل عدة دول ولذلك فهي مجزأة، كل جزء يتبع سياسياً وثقافياً ولغوياً وإقتصادياً وإجتماعياً للدولة المُغتصِبة له و التي تنهب أيضاً الثروات الطبيعية الهائلة لكوردستان. نتيجة واقع التجزئة ومؤامرات الدول المُغتصِبة لكوردستان والإفتقار الى قيادة وطنية كوردستانية محنّكة، أصبح النضال الكوردستاني مجزأً ومشتتاً، حيث أن كل جزء من أجزاء كوردستان يناضل بمعزل عن الأجزاء الأخرى، بل أن الأقاليم الكوردستانية في أحايين كثيرة تُخاصِم وتحارب بعضها البعض بدلاً من توحيد نضالها ضد مُغتصِبي كوردستان.
كما أن كل جزء مُغتصَب من كوردستان قام بتأسيس تنظيمات سياسية خاصة به، بدلاً من تنظيمات سياسية موحدة تضم كافة أجزاء كوردستان وبذلك يقرّ القادة السياسيون الكوردستانيون عملياً بتجزئة كوردستان والإعتراف بالواقع الكوردستاني الحالي وبحدود الدول المُغتصِبة لكوردستان التي رسمتها الدول الإستعمارية وعمل هؤلاء القادة ولا يزالون يعملون على تجزئة النضال الكوردستاني وتفريق وإضعاف شعب كوردستان.
الحقيقة الثانية: إن الخطورة الكبرى التي يواجهها شعب كوردستان تكمن في أن إستعمار كوردستان هو إستعمارٌ إستيطاني، حيث تدّعي الدول المُغتصِبة لكوردستان بأن شعب كوردستان هو أجزاء من الشعب التركي والشعب العراقي والشعب السوري والشعب الإيراني وأن كوردستان هي جزء لا يتجزأ من أراضي هذه الدول المُغتصِبة لكوردستان. أي بكلامٍ آخر فأن الدول المُغتصِبة لكوردستان تعتبر كوردستان مُلكاً لها وبذلك تُجرّد شعب كوردستان من هويته وتُلغي وجود كوردستان كوطن للكوردستانيين وتنهب ثرواتها.
هذا الإستعمار الإستيطاني يُشكّل خطراً جدّياً على وجود الشعب الكوردستاني كشعبٍ مستقل له حضارته وثقافته وتأريخه العريق. لِكي يدوم إستمرار الإستعمار الإستيطاني لكوردستان، يعمل المحتلون على إزالة آثار وجود الشعب الكوردستاني، حيث عملت الدول المُغتصِبة لكوردستان ولا تزال تعمل على تعريب وتتريك وتفريس كوردستان وشعبها، حيث قامت بتشريد ملايين الكوردستانيين من أماكن سكناهم في كوردستان وترحيلهم قسراً الى المناطق العربية والتركية والفارسية في كل من (العراق وسوريا) وتركيا وإيران على التوالي وتم إحلال العرب والترك والفرس محلهم وتم إغتصاب ممتلكاتهم. كما تم تغيير عشرات الآلاف من الأسماء الكوردية للشوارع والأماكن والقرى والمناطق والمدن الكوردستانية لإلغاء الوجود الكوردي في وطنه وعلى أرضه التأريخية. نتيجة هذه السياسة الإستعمارية الإستيطانية، تم تتريك وتعريب وتفريس الملايين من الكورد وتقلصت وإنكمشت مساحة كوردستان.
الحقيقة الثالثة: قامت الدول المُغتصِبة لكوردستان، بترسيخ الفكر القومي العنصري الإستعلائي في نفوس شعوبها وتلقينها بمعلومات كاذبة مشوّهة عن الشعب الكوردي وأصله وتأريخه وحضارته ضمن مخطط مبرمج لخلق عداءٍ قومي بين شعب كوردستان من جهة والشعوب التركية والفارسية والعربية من جهة أخرى لكسب شعوبها الى جانبها للمساهمة في إنجاح مخططاتها العنصرية بِمحو شعب كوردستان كشعب وتتريك وتفريس وتعريب كوردستان لسرقتها ونهب ثرواتها.
هذا المخطط العنصري لغسل أدمغة الشعوب التركية والفارسية والعربية تمّ ويتم عن طريق وسائل الإعلام ومناهج التعليم وعن طريق زج هذه الشعوب في حروب كارثية وتجويعها وتجهيلها ونشر الأمية في صفوفها لتسهيل عملية غسل أدمغتها وإنقيادها الى القبول والإيمان بالفكر العنصري وخلق مواقف عنصرية وعدائية تجاه حق الشعب الكوردستاني في الحرية والإستقلال كأي شعب آخر من شعوب العالم.
حكومات الدول المُغتصِبة لكوردستان نجحت الى حد كبير في إقناع شعوبها بأن كوردستان هي أرض تركية (القسم المُغتصَب من قِبل تركيا) وعربية (القسم المُغتصَب من قِبل العراق وسوريا) وإيرانية (القسم المُغتصَب من قِبل إيران). هذا النجاح لحكومات الدول المُغتصِبة لكوردستان، خلق شرخاً كبيراً في العلاقة بين شعب كوردستان من جهة والشعوب التركية والفارسية والعربية من جهة ثانية والذي عمل على جعل تمتع كوردستان بإستقلالها من الأمور الصعبة من خلال الحوار والتفاهم والإتفاق و في نفس الوقت قاد الى جعل النضال الكوردستاني أكثر صعوبةً.
لو أُعطيت الشعوب التركية والفارسية والعربية فرصةً جيدة لتكون واعية ومُدرِكةً لمصالحها، لَكانت هذه الشعوب تتحالف مع شعب كوردستان لتحريره من الإحتلال وتحرير هذه الشعوب نفسها من حكوماتها الدكتاتورية والعنصرية لتحقيق الحرية والعيش الكريم لنفسها ولشعب كوردستان ولَقامت ببناء أنظمة ديمقراطية في بلدانها، تنعم بالحرية والسلم والأمان والإزدهار. إن مصالح شعب كوردستان تلتقي مع مصالح شعوب الدول المُغتصِبة لكوردستان للقضاء على الأفكار الشمولية والعنصرية المتخلفة وبناء دول ديموقراطية تعمل حثيثاً للإلتحاق بالدول المتقدمة المتحضرة والمساهمة في خدمة الإنسانية وتعمير وتطوير كوكبنا الأرضي، إلا أن تخلف شعوب الدول المُغتصِبة لكوردستان هو عائق أمام توحيد صفوفها مع شعب كوردستان لتحرير نفسها من براثن الدكتاتورية والشمولية والعنصرية من جهة وتحقيق إستقلال كوردستان من جهة أخرى.
الحقيقة الرابعة: إن الدول المُغتصِبة لكوردستان يتم حكمها من قِبل حكومات شمولية عنصرية متخلفة، حاولت و تحاول إلغاء وجود الشعب الكوردي وإلغاء هويته ولغته وتأريخه وثقافته وتراثه. إن هذه الحكومات العنصرية تستخدم العنف وكل الوسائل الأخرى للقضاء على شعب كوردستان وإعاقة نضاله من أجل التحرر وإستقلال بلاده، بما فيها القيام بالإبادة الجماعية وإستخدام الأسلحة الكيميائية وفرض الحصار الإقتصادي وإتباع سياسة الأرض المحروقة وهدم عشرات الآلاف من القرى والمدن الكوردستانية وتشريد سكانها وحرق غابات كوردستان وتدمير بيئتها والعمل على إلغاء الهوية واللغة الكوردية والتأريخ الكوردي العريق ومحو وإزالة هوية وثقافة وتراث شعب كوردستان.
الحقيقة الخامسة: إن شعوب الدول المُغتصِبة لكوردستان هي شعوب متخلفة نتيجة أسباب عديدة ولذلك فهي غير مؤهلةٍ لبناء أنظمة حُكمٍ ديمقراطية وقبول التعددية والرأي المختلف والإعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، بما فيها تحرر شعب كوردستان. قد
يستغرق تأهيل هذه الشعوب وتطورها أجيالاً عديدة. لذلك ينبغي على الكوردستانيين أن يعرفوا هذه الحقيقة وعلى ضوئها يجب أن يُحددوا أهدافهم ويضعوا إستراتيجياتهم ووسائل نضالهم.
كمثالٍ، لِنأخذ النظام الفيدرالي في بلجيكا والتي هي دولة متطورة. لقد إجتاز المجتمع البلجيكي المراحل الإقطاعية والعشائرية ويعيش في المرحلة الرأسمالية وله نظام علماني، لا يتدخل الدين في شئوون الدولة والحكم وأنها عضوة في الإتحاد الأوروبي. بلجيكا مملكة صغيرة تقع في شمال غرب أوروبا وتبلغ نفوسها حوالي عشرة ملايين نسمة ومساحتها 33990 (89.8% منها يابسة و10.2% مياه). البلجيكيون يتألفون من الشعب الفلمنكي (Flanders)، الناطقون باللغة الهولندية ويُشكّلون 58% من سكان بلجيكا ويعيشون في شمال البلاد، ومن الشعب الوَلوني الناطق باللغة الفرنسية والذي يعيش في جنوب البلاد في مقاطعة (Wallonia)، ويُشكّلون 32% من مجموع سكان بلجيكا. هناك أيضاً مجموعة سكانية صغيرة ناطقة باللغة الألمانية تعيش في بلجيكا. الشعوب البلجيكية تُدين بالمذهب الكاثوليكي. الدستور البلجيكي ينص على حق الحكومات الفيدرالية في نقض قرارات الحكومة المركزية. قال الجنرال ديگول مرة الفلمنكيون البلجيكيون يجعلون حياة الوَلونيين مزعجة لدرجة أنّ الوَلونيين يرمون أنفسهم في أحضاننا. قد يحدث هذا ما قاله الجنرال ديگول ويختار الشعب الوَلوني الإنفصال عن بلجيكا و الإنضمام الى فرنسا، حيث تمر الحكومة البلجيكية بإستمرار بأزمات سياسية حادة بسبب الخلاف المستمر بين الناطقين بالهولندية والفرنسية وصعوبة عيشهم معاً ضمن دولة واحدة. يُظهِر إستفتاء أجرته صحيفة (La Voix du Nord) الفرنسية و(Le Soir) البلجيكية، أنّ 49% من الوَلونيين يؤيدون إنضمام مقاطعتهم الى فرنسا، بينما يؤيد 60% من الفرنسيين هذا الإنضمام.
هكذا نرى أن الشعب البلجيكي المتحضر الذي يتقدم شعوب منطقة الشرق الأوسط بمئات السنين في التطور الإجتماعي والسياسي والإقتصادي والفكري، لا تستطيع القومية الفلمنكية و الوَلونية العيش معاً في دولة فيدرالية وكلتا القوميتين تشتركان في المذهب الكاثولوكي وتختلفان في اللغة فقط. إذن كيف تستطيع الشعوب المتخلفة في منطقة الشرق الأوسط أن تعيش في كيانات سياسية موحدة؟!
الحقيقة السادسة: تتعاون و تُنسّق الدول المُغتصِبة لكوردستان فيما بينها للوقوف بوجه تطلعات شعب كوردستان ومنعه من أن يتحرر من الإستعمار الإستيطاني والإحتلال والعبودية. رغم الخلافات السياسية والثقافية والمذهبية والإقتصادية والتأريخية القائمة بين الدول المُغتصِبة لكوردستان، فأنها تتعاون معاً للإستمرار في إستعباد شعب كوردستان والإستمرار في إغتصاب بلاده ونهب ثروات كوردستان.
هكذا نرى أنّ القضية القومية لا تزال تلعب دوراً كبيراً في دول ديمقراطية متقدمة ومتطورة، حيث أنه من المتوقع أن تنال شعوبٍ كثيرة في الدول الغربية المتقدمة التي تعيش ضمن كيانات سياسية مشتركة، حريتها وإستقلال بلدانها. القوميون الأسكتلنديون يناضلون من أجل إستقلال بلدهم عن بريطانيا وينظمون إستفتاء بعد آخر لتحقيق هذا الهدف. الشعب الكتالوني و الباسك في إسپانيا يعملان بدورهما من أجل إستقلال بلدَيهما عن إسپانيا. في بلجيكا، شعب الفلامان (الفلامنج) الناطق باللغة الهولندية و شعب الوالون (الوالس) الناطق باللغة الفرنسية، لا ينسجمان معاً في العيش المشترك في بلجيكا ومن المحتمل جداً أن يستقل هذان الشعبان في المستقبل المنظور ويؤسسان دولتَين مستقلتَين على أنقاض مملكة بلجيكا الحالية. شعب كيوبك الناطق بالفرنسية يناضل من أجل الإستقلال عن بقية سكان كندا الناطقين باللغة الإنكليزية. إذا كانت الدول الغربية الديمقراطية التي قد تسبق الشعوب المتأخرة، مثل الشعوب التركية والفارسية والعربية، في التقدم والتطور بمئات السنين، لا تستطيع حل التعدد الإثني في بلدانها فكيف يستطيع شعب كوردستان العيش مع الشعوب المتأخرة للدول المُغتصِبة لكوردستان ضمن كياناتها السياسية الحالية؟!!
الحقيقة السابعة: القضية الكوردستانية غير معنية بجزء مُعيّن من كوردستان وعلاقة ذلك الجزء بِحكومة الدولة المُغتصِبة لكوردستان، بمعزل عن الأجزاء الأخرى، وبكلام آخر فأن القضية الكوردستانية هي قضية واحدة لشعب واحد، مُغتصَب وطنه من قِبل عدة دول، لذلك لا يمكن حل القضية الكوردستانية بتجزئة هذه القضية الى عدة قضايا مستقلة وكل قضية تكون مرتبطة بإحدى الدول المُغتصِبة لكوردستان بحيث يتم عزل الأقاليم الكوردستانية عن بعضها البعض، بل أن القضية هي قضية شعب كوردستان بأسره وحل القضية الكوردستانية يتم فقط على نطاق كوردستان بأكملها لأن القضية الكوردستانية هي قضية الكوردستانيين جميعاً ولا يمكن حلها ضمن نطاق كل دولة مُغتصِبة لجزء من كوردستان بمعزل عن الأجزاء الأخرى.
مما سبق، يتوصل المرء الى إستنتاجَين مُهمّين، الأول هو إستحالة تمتع الشعب الكوردستاني بحقوقه في المستقبل المنظور والبعيد في ظل الدول المُغتصِبة لكوردستان، حيث لا تعترف حكومات وشعوب الدول المُغتصِبة لكوردستان بحق تقرير المصير لشعب كوردستان.
إن التطور الإجتماعي للمجتمعات البشرية عبارة عن عملية بطيئة جداً، لذلك فأن تطور شعوب البلدان المحتلة لكوردستان يستغرق أجيالاً عديدة، عندئذٍ قد يرتفع المستوى الفكري ووعي هذه الشعوب بحيث تتبنى النظام الديمقراطي وتتفاعل مع المفاهيم والأفكار الإنسانية المعاصرة و تعترف بحق شعب كوردستان في تقرير مصيره والتعبير عن إرادته.
الإستنتاج الثاني هو أنه لا يمكن حل القضية الكوردستانية في كل جزء مُغتصَب من كوردستان بمعزل عن الأجزاء الأخرى، حيث أن تجزئة القضية الكوردستانية تعني تجزئة كوردستان وتشتت شعبها ونضاله.
الحقائق السالفة الذكر تؤكد على إستحالة بناء أنظمة سياسية ديمقراطية في الدول المُغتصِبة لكوردستان خلال المستقبل المنظور والبعيد، بحيث تعترف شعوب الدول المُغتصِبة لكوردستان بحق الشعب الكوردستاني في تقرير مصيره بنفسه وأن يكون ندّاً متكافئاً لهذه الشعوب.
[1]