قدسية النار في الديانات الكوردية القديمة و إنعكاسها في الديانات السماوية الأخرى (2 - 4)
محمد مندلاوي
عرضنا في الحلقة الأولى خصوصية النار و أهميتها في حياة الشعب الكوردي، كعنصر هام، رافقتهم و ساعدتهم في مراحل حياتهم عبر العصور الغابرة. لذلك قدسها الكورد و أصبحت جزءً مهماً من دياناتهم، كما في الديانات الإزدية و الزرادشتية. تبجيلاً لمكانتها، أعطى الكورد النار أسماء عديدة، و التي أشرنا إليها في الحلقة الأولى. نوضح في هذه الحلقة أهمية النار وقداستها عند بعض الشعوب و الأديان، التي يتهمون الكورد ظلماً بأنهم عبدة النار، رغم أنّ قدسية النار مذكورة في كتبهم وعقائدهم و أنها آية من آيات الله. إنكار أصحاب الديانات المذكورة لقدسية النار عندهم متأتٍ من محاولتهم للإنسلاخ عن معتقداتهم القديمة التي يعتبرونها معتقدات كافرة. كما أنهم يحاولون إلغاء حقيقة أن الكورد قبل غيرهم خاضوا غمار البحث و الإكتشاف. هذه الشعوب لم يكتفوا بإنكار الدور الكوردي التأريخي، بل قاموا بسرقة إكتشافاتهم و الإستحواذ على تراثهم و إبداعاتهم. لا تزال النار مقددسة عند الكورد، حيث أنّ الكوردي يتوجّه وجهه شطر النار خلال أداء فرائضه الدينية. الآخرون تراهم يقدسون النار بشكل خجول و و دون الإقرار بذلك.
مكانة النار في الديانة اليهودية
جاء في الكتاب المقدس، العهد القديم، التكوين 1، ثم أمر الله: ( لتكن أنوار في جَلَد السماء لتفرق بين النهار و الليل، فتكون علاماتٍ لتحديد أزمنةٍ وأيامٍ وسنين وتكون أيضاً أنواراً في جَلَد السماءِ لتُضيءَ الأَرضَ). هكذا كان. وخلق اللهُ نورَينِ عظيمينِ، النور الأَكبر ليُشرقَ في النهار، والنورَ الأصغرَ ليُضيءَ في الليل، كما خلق النجوم أيضاً وجعلها اللهُ في جَلَد السماء لتُضيء الأرض، لتتحكمَ بالنهارِ و بالليلِ و لتُفرقَ بين النورِ والظلامِ. رأى اللهُ ذلك فاستحسنهُ. جاء مساءَُ ثمّ أَعقبه صباحُ فكانَ اليوم الرابع. لقدسية النارعندهم، تحرم الديانة اليهودية بعد غروب شمس السبت أي عمل أو أيقاد للنار. الشموع السبعة التي تُشاهَد في المناسبات اليهودية هي شعار دولة إسرائيل. يقول جورج حبيب في كتابه (اليزيدية بقايا دين قديم) (الطبعة الأولى ص 46) أنّ (الياس) هو (إيل)، وهو إسم عُرف عند العديد من الشعوب السامية القديمة، على أن إسمه يذكرنا بالنبي العبري (إيليا) وكانت آخرته إنه صعد إلى السماء بجسده دون وفاة في عربة من نار. كانت من واجبات الكهنة القيام بالذبائح اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية. عدا ذلك فإنهم كانوا يخدمون في الاحتفالات والتطهير ويعتنون بالآنية المقدسة والنار المقدسة والمنارة الذهبية وأثاث المقدس. كانوا يطلقون الصوت في الأبواق المقدسة ويحملون تابوت العهد ويقضون في دعاوي الغيرة ويقدرون المال للافتداء وينظرون في شأن البرص ويفسرون الناموس للشعب، ويقومون باستشارة الله بواسطة الاوريم والتميم (خر 28: 30 وعز 2: 63 وعد 16: 40 و 18: 5 و 2 أخبار 15: 3 وار 18: 18 وحز 7: 26 ومي 3: 11). جاء في القرآن الكريم سورة النمل آية 7 (إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون). كانت منارة خيمة الاجتماع عند اليهود مصنوعة من الذهب الخالص النقي. وضع الرب تصميمها وأمر بها موسى. كانت ضخمة الحجم، يبلغ ارتفاعها ستة اقدام و مكوّنة من قاعدة و ساق و ست شُعَب، وتزينها كاسات و عجز و ازهار وملاقط و منافض، كلها من الذهب. المنارة كانت تحمل سبعة اسرجة، سراجاً فوق كل شعبة، وسراجاً فوق كل نهاية ساق. اما الزيت المستعمل للاضاءة فكان نقياً جداً. كانت الاسرجة تُضاء في المساء وتُطفأ عند الصباح (خر 25: 31و 37: 17 و لا 24: 4 و عد 8: 2). صنع سليمان عشر منائر من ذهب وضعها في هيكل الرب الذي شيده في القدس، وقد حُملت فيما بعد الى بابل مع باقي المحتويات المسبية (1مل 7: 49 و 2 اخبار: 7 و ار 52: 19).
تمت تسمية المنارة نسبةً إلى النار التي توقد فيها للإضاءة. هذه التسمية مأخوذة من عنصر النار التي تنعكس ضياؤها على الأشياء التي حولها، حينئذٍ يسمى نور، حيث أن النور مكتسب من جسم آخر، كما هو الحال في نور القمر الذي ما هو إلا إنعكاس لضوء الشمس على القمر.
وضع زربابل في هيكله منارة واحدة فقط، ثم وضعها (هيرودس) في هيكله الى أن سلبها (تيطس) الروماني و أمر أن تُحمل أمامه في مواكبه التي كان يقيمها في روما، ثم وضعها في هيكل السلم في تلك المدينة. في سنة 455، نُقلت المنارة الى قرطجنة، حتى سنة 533، حيث استرجعها (بليساريوس) وحملها الى القسطنطينية ومنها الى القدس حيث وضعت في كنيستها المسيحية، وضاعت المنارة بعد ذلك الحين. حمل ابراهيم النار حين صعد الجبل ليذبح ابنه (خر 22 :6). كانت النار من أهم ضرورات حياة الانسان (سي 39 :26)، فهي تُستعمل لطبخ الأكل (خر 12 :8-9)، وللتدفئة (إش 44 :16؛ أع 28 :2)، والانارة (يه 13 :13). النار عامل تدمير. كانت النار تُستعمل لتدمير كل ما يحمل مرضًا أو نجاسة (لا 13 :52، 55)، بل لإزالة الإنسان الذي اقترف ذنبًا جنسيًا خطيرًا (لا 20 :14؛ 21 :9)، وتدمير الأوثان (تث 7 :5؛ 12 :3). كانت النار سلاح حرب يتوخّى تدمير الاعداء (عد 31 :10؛ يش 6 :24). (ج). كانت النار ضروريّة من أجل نار الذبائح وفي خدمة الهيكل. لهذا، يجب المحافظة على نار مذبح المحرقات (لا 6 :5-6). في وقت السبي، أخفيت نار الهيكل (2مك 1 :19). إن عبارة ذبيحة مقدّمة بالنار خاصة بالتقليد الكهنوتي. قد حكمت التوراة حكما قاسيًا (لا 18 :21؛ تث 12 :31) على ذبح الاشخاص عامة و الاولاد خاصة بالنار (2مل 16 :3؛ 17 :17). 2) لاهوت النار. (أ) نار الظهورات (تيوفانيا، ظهور الله). في النار يُظهر الله مجدَه وعظمته (تث 5 :24؛ عب 12 :29). كانت النار تحيط بالربّ حين ظهر لموسى (خر 3 :2؛ 19 :18). خلال الليل، كان عمود من النار يقود شعب اسرائيل عبر بريّة سيناء (خر 13 :21؛ 14 :24). سمع (حزقيال) نداء الله الذي ظهر له في وسط النار (1 :4، 27-28). أما في حوريب، فالله ليس في النار (1مل 19 :12)، مع أنه تجلّى لإيليا على جبل الكرمل، مرسلاً النار على الذبيحة (1مل 18 :38). الروح القدس حلّ على الرسل بألسنة من نار (أع 2 :3). (ب) النار وسيلة تطهير أو عقاب. يصوَّر غضبُ الله مرارًا بشكل نار (مز 79 :5؛ 89 :47؛ إر 4 :4؛ صف 1 :18). فالنار تطهّر، تنقّي، تدمِّر ما هو نجس. لهذا، فالنار هي أداة عقاب الله ودينونته (مز 50 :3؛ 83 :15؛ إش 26 :11؛ مر 9 :49؛ يع 5 :3؛ رؤ 8 :8-9). النار هي إحدى العلامات التي تعلن مسبقًا مجيء الرب (يوء 3 :3). سوف تتمّ دينونة الله بالنار (إش 66 :16؛ حز 38 :22؛ ملا 3 :19) التي تمتحن نوعيّة أعمال البشر (1كور 3 :15). هناك من يرى علاقة بين الشعلة والسرافيم، والجامع بين الاثنين هو النار (س ر ف، أحرق) التي تدلّ على حضور الله. في العبرية س ر ف ي م. اسم أعطاه إش 6 :2، 6 لكائنات علويّة تشبه البشر، لها ثلاثة أزواج من الاجنحة وهي تقف فوق عرش الله في هاكل الهيكل. تفسير اسمهم : الحارقون. الشمس: في العبريّة : ش م ش. في اليونانيّة : هيليوس. الشمس إله لدى عبّاد الأوثان، لكن التوراة تعتبرها سراجًا في النهار، تعتبرها النيّر الأكبر تجاه النيّر الأصغر الذي هو القمر. في عدد كبير جدًّا من الحضارات القديمة، نعمت الشمس بعبادة واسعة جدًّا. ففي الشرق الأوسط، كثُرت العبادات الشمسيّة : الالاهة ش ف ش في أوغاريت ولدى العرب في الجنوب (( كان عند العرب قبل الإسلام إسم علم يسمون به، كعبد شمس)) . كانت الشمس إلهًا عند البابليّين (شمش) وعند الحثيّين وعند المصريّين. في وادي النيل، سيطر اللاهوت الشمسيّ لدى كهنة رع في أون (هليوبوليس)، على اللاهوت اللاحق، ولاسيّمَا لاهوت أمون. معظم الآلهة المصريّة ارتبطوا آجلاً أو عاجلاً بالإل?ه رع. والإله الصقر المحامي عن الملكيّة الفرعونيّة، حورس (ح ر)، كان هو نفسه من جوهر الشمس. وعرفت فلسطين هي أيضاً عبادات الشمس. وما يشهد على ذلك أسماء الأمكنة : بي شمش. عين شمش الذي هو حرس (جبل الشمس)، وحرس يقابل شمش وإن لم تكن مستعملة مثلها). وهناك أسماء علم مثل شمشون. نجد بعض العبارات الليتورجيّة في المدائح (مز 19). كما نجد كلام أي 31 :26-27 الذي يقول إنّه لم يرسل قبلة تدلّ على عبادته لكوكب النهار. مع أن التوراة تجعل من الشمس خليقة الله (تك 1 :14). و أن الشريعة اليهوديّة حرّمت كلّ عبادة للكواكب (تث 4 :19؛ 17 :3-4)، إلاّ أنّ تجربة عبادة الشمس قد تأثّرت بالأشوريّين، فوجدت لها مناخًا مؤاتيًا في بلاط بعض ملوك يهوذا (2مل :16؛ 21 :3-4). حاول (يوشيّا) ولكن عبثًا، أن يضع حدًّا لهذه العبادة (2مل 23 :6، 11)، فدمّر تماثيل الأفراس (الفرس هي حيوان مكرّس للشمس) التي نُصبت في الهيكل. حاول بعض الشرّاح أن يربطوا بين مونوتاويّة (عبادة الإل?ه الواحد) الفرعون امنحوتف الرابع (اخناتون، القرن الرابع عشر) المستندة إلى الشمس، ومونوتاويّة موسى، حيث أنّ ديانة أتون (القرص الشمسيّ) ليست شكلاً من أشكال المونوتاويّة، بل هي موقف جذريّ وعقلانيّ تجاه بعض نواحي اللاهوت الشمسيّ، بل ظاهراتيّة متسامية حيث يبدو الإله منظورًا بشكل مباشر، ردًّا على لاهوت كهنة أمون الذين شدّدوا على ديانة باطنيّة لا يصل إليها إلاّ عدد قليل من الناس. نعود إلى الكتاب المقدّس. فالله ثبّت الشمس في الفلك لتحدّد النهار وتشرف عليه (مز :16؛ إر 31 :35؛ 2صم 23 :4؛ حك 16 :28؛ تك 15 :12). الشمس هي سرّ الحياة (تث 33 :14 ] كما في النص الأصلي[؛ ملا 3 :20)، و الحرارة (خر 16 :21؛ سي 43 :21) التي تنمو بتقدّم النهار (نح 7 :3) و تحرق أكثر من النار (سي 43 :4). الشمس بقدرتها (قض 5 :31؛ سي 43 :3-4) تبدّد الضباب (حك 2 :4). و لكن قد تحمل الدمار للبشر وللطبيعة (إش 1 :5-6؛ يون 4 :8؛ مت 13 :6 وز؛ سي 43 :2-4. الجفاف وقلّة المطر). هذه الحرارة المخيفة التي تحملها الشمس، تشهد على قدرة الله (سي :5) الذي يستطيع إذا شاء أن يقطع مسيرتها المنظّمة (مز 19 :5؛ 7؛ أي 9 :7). في نظر جا 1 :5، انتظام هذا الكوكب الذي يُشرف على الكون كلّه، هو صورة عن رتابة في الكون تعود يومًا بعد يوم وتتكرّر فعلاً بعد فعل. وكان للنجوم سلطان على الوثنيين، وعلى عباد الاصنام من اليهود، ممن وجدوا فيها مظاهر غريبة تستحق العبادة نفسها بدل عبادة خالقها وصانعها وهكذا اصبحت النجوم معيودات للكثيرين (تث4:19 و 2 مل 17: 16) و بُنيت لها المعابد والمذابح و قُدمت التقدمات (2 مل 21: 5 و 23: 5) وكان عباد النجوم يؤمنون أنها تدير الكون والبشر أنفسهم (أي 38: 31). كان عباد الكواكب يعتقدون بأنها تنبؤهم بالمستقبل.
يقول الدكتور رشيد الخيون: إن الشيخ محمد جواد مغنية يقترب من الصواب عندما قال في الصابئين: قوم يقرون بالله و بالميعاد و ببعض الأنبياء، ولكنهم يهتدون بتأثير النجوم في الخير و الشر، و الصحة والمرض، وعلى خلاف مَنْ اشتق تسمية الصابئة من صبأ العبرانية أي غطس و توضأ، وجد مغنية أن التسمية مشتقة من صبأت النجوم أي طلعت، و يعدهم بأقدم الأديان في التاريخ. (أقدم الأديان، فيه شيء من المغالات) و يضيف الدكتور رشيد الخيون، يبدو لي أن مغنية اطلع على سلسلة المقالات التي حبرها الأب أنستاس الكرملي في مجلة المشرق في سنة 1900- 1901، وذهب إلى اشتقاق تسميتهم من الضوء.
قداسة النار عند معتنقي الديانة اليهودية يُشير إليها الرب الذي يأمر اليهود أن يستريحوا في هذا اليوم، حيث جاء في الوصايا العشر أما اليوم السابع فتجعله سبتاً للرب إلهك فلا تقم فيه بأي عمل. ومن الأعمال التي يمتنعون القيام بها يوم السبت هو تحريم إيقاد النار. وجاء في الكتاب المقدس أنه عندما تاه شعب الرب في البرية كانوا يتبعون سحاباً في النهار و في الليل يتحول السحاب إلى النار فيتبعونه كدليل لهم في الصحراء. نراهم اليوم يضعون الشموع السبعة أمامهم أو خلفهم في كل المناسبات كرمز ديني و كشعار لهم كما تكلمنا بشيء من التفصيل عن بعض التقاليد الدينية لهم فيما يتعلق بقدسية بالنار.
[1]