اسطورة الخلق السومرية وجذورها الكوردية
د. #مؤيد عبد الستار#
تذهب الاسطورة السومرية الى ان الانسان خلق من الطين الممزوج مع دم الاله ، اي ان الطين هو المادة التي خلق منها الانسان ، و يتردد في الالواح السومرية حين تتحدث عن الموت وتفسره بانه عودة الطين الى التراب ، وهو ما نجده في الكتاب المقدس – التوراة – والقران الكريم .
ان هذا التصور عن خلق الانسان مشابه لصنع الاواني الفخارية من الطين، فكما كان الانسان القديم يصنع الاشياء من الطين كذلك تصور ان الله يخلق الانسان من الطين مضافا اليه دم الاله .(1)
ان اسم آدم يعني في السومرية الانسان ، ولكنه في الاكدية يعني احمر ويعني الارض ايضا، فهو ادمة وادام والظاهر انه استعير من السومرية ، لان السومريين كانوا يعتقدون ان التراب الاحمر في سهل جبل سهند – جنة عدن / كردستان – هو مادة صنع الانسان .
واذا اخذنا ماجاء في النقوش الكنعانية التي تعود لحضارة العصر البرونزي في مدينة اوغاريت / بلاد الشام ، والتي تعبد الاله – ايل – وهو اسم نجده في اليهودية والاسلام ايضا مثل اسرائيل وعزرائيل . نقرأ في لوح قديم من اوغاريت ان ايل هو اب ادم ، اي ان ايل اب البشر . وهذا يبين لنا ان اسطورة الخلق لها امتداد تاريخي يتجاوز الحدود ، ويعود الى الاصل الذي انتشرت منه من جنة عدن حيث التراب الاحمر الذي جاء منه البشر حسب الاسطورة السومرية التي نشأت عند منابع دجلة والفرات ، عند جبل سهند * – راجع مقالنا جنة عدن – وهو ما يتردد ايضا في اسطورة اتراهسيس التي قدم عنها دراسة متميزة الكاتبان ولفرد لامبرت والان ميلارد عام 1969 م – انظر كتاب ليجند لديفد رول ص 192- 193 (2)
والختم الاكدي الذي يصور الاله شمش يقطع رقبة اله اخر – المنشور مع هذا المقال – ربما من اسطورة اتراهسيس والتي جاء فيها ان الاله يذبح لكي يقدم دم الحياة من اجل خلق الانسان.
وهو ما نجده في ديانات الشرق الاوسط ، التي تذكر ان الانسان من تراب ويعود الى التراب ، او ان الانسان خلق من طين .
وكما جاء في القرآن الكريم وخلقنا الانسان من صلصال كالفخار .
وفي التوراة ،سفر التكوين 3 : 19
(حتى تعود الى الارض
لانك منها اخذت
فانت تراب
والى التراب تعود)
ملحمة اتراهسيس السومرية
وتذهب اسطورة اتراهسيس Atrahasis
الى ان نامو الهة المحيط الاول وأم انكي ، تطلب من ابنها انكي ان يخلق الانسان كي يقوم على خدمة الالهة :
ياولدي انكي انهض من سريرك واعمل بحكمه ،
اخلق – اصنع – خدما من الالهة .
ثم يجمع انكي جميع الصناع المهرة ويقول :
– نعم يا امي ، المخلوق الذي طلبتيه سيخلق .
(يوجه كلامه الى الصناع المهرة العاملين في الطين – الفخار – ) قائلا :
– الاحترام له هذا الذي على صورة الالهة ، اخلطوا قلب الطين الذي فوق المياه
انتم الصناع المهرة ستصنعون الطين
انتم الذين ستخلقون الاعضاء – الاضلاع –
مثل الاله ( نينماه ) الذي سيعلمكم .
ان الهة الولادة ستساعدكم حين تصنعون مخلوقكم
نعم ياامي قرري مصيره
نينماه سيباركه
هذا الذي على صورة الالهة :
الانسان . (3)
في هذه الاسطورة نجد ان الانسان صنع من الطين وانه صنع على هيئة وصورة الالهة ، وهو ماجاء في التوراة ايضا في سفر التكوين 1 : 26 و 27
(وقال الله : لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا ، وليتسلط على سمك البحر ….
فخلق الله الانسان على صورته ، على صورة الله خلق البشر ، ذكرا وانثى خلقهم . وباركهم الله ….)
وجاء في التوراة ايضا ان الانسان خلق ليفلح الارض ويقوم على خدمة جنة عدن ، ومعروف ان الاله السومري انكي اله الحكمة والمياه هونفسه الاله المسؤول عن خلق الانسان.(4)
ونلاحظ ان اسم الاله نينماه ، يتكون من كلمتين تستخدمان في الكردية والفارسية في الوقت الحاضر ، فان كلمة نين ، ننه ، ننكه ، نانه تعني في الكردية الام الكبيرة ، او الجدة الكبيرة المحترمة ، ومازالت مستخدمة في العراق وفارس وحتى مصر ، اما كلمة ( ماه ) فتعني القمر في الكردية والفارسية ومازالت مستخدمة في الوقت الحاضر ، فيكون معنى نين ماه ، او ننه ماه ، او نانه ماه ، بمعنى الاله القمر العظيم ، او الالهة القمر العظيمة ، وهنا نلاحظ ان نينماه ربما هو المشار اليه بالهة الولادة ، ومعروف ان الاله القمر كان اكبر الهة الشرق الاوسط ، ونجد رسومه على المعابد وتماثيله في الاختام والالواح السومرية بكثرة ، وانتقلت عبادة الاله القمر الى اغلب شعوب الشرق الاوسط ، فهل كان الاله القمر الهة انثى !!
اسطورة انميركار السومرية
حسبما جاء في اسطورة انميركار ، ان الانسان في قديم الزمان كان يعيش في وادي البن Alpine في جبال زاغروس ، فتعلم وفهم وانتقل من حياة الصيد الى حياة الزراعة والاسرة ، وبدأ صناعة الادوات البسيطة من الصخور البركانية ، واخذ يدجن الحيوانات مثل الماعز والكلب والحمار.
بين تلك الجبال البركانية بدأت الجنة بالظهور ، وفي فهم الانسان القديم ان الله خلقه في هذه الجنة ، ونلاحظ في التوراة ان الالهة – آلهة السماء والارض – يهبطون من عليائهم ليتحدثوا مع الانسان – الذي خلقوه – وهذه الاحاديث او الاتصالات تأخذ اشكالا مختلفة .
ان جبال زاغروس كانت منطقة براكين ونيران وزلازل ، يكثر فيها البرق والرعد والرياح والعواصف
فالاله يتكلم بصوت الرعد الذي يهز الارض ، ومن هذه المنطقة في جبال زاغروس انتقل الانسان الى العصر الحجري الحديث ثم اتجه نحو الشرق والى الجنوب من خلال الممرات الجبلية ، واستطاع خلال ذلك أن ينتقل الى العصر البرونزي اذ عرف استخدام النحاس وتصنيعه .(5)
ومن أجل تتبع رحلتهم الى الجنوب ومن ثم الى وسط وجنوب العراق لا بأس من عرض مسيرتهم ،
فان مجموعة من البشر قد تكون بضع مئات كانت تعيش على ضفاف بحيرة اورمية ، في تلك المنطقة حيث تشرق الشمس على الوادي من جهة الشرق ، فهي حسب الاسطورة – ارض شروق الشمس – فتنير قمة الجبل الشاهق الذي يشرف على السهل ، وفي السهل يسكن الانسان في دلتا نهر يشق الوادي ويصب في البحيرة ، هذا المكان كان يسمى المكان المسيج بالجبال – الستائر – ومنه الاسم الكردي / الفارسي برده Pardeh والتي تعني الستارة ، وحين تبنى الاغريق المسيحية ، نقلوا هذا الاسم الى براديس Paradise وهو تحوير للتسمية الكردية / الفارسية للمنطقة المسورة بالجبال ، اي المسورة بالستائر ، والتي تعرف باسمها برده ميدان Pardeh Meidan فالبشر الاوائل الذين سكنوا تلك المناطق لم يطلقوا عليها جنة عدن وانما اسم ادن Aden والتي تشكل الجنة – البستان – الجزء الشرقي منها فقط (لاحظ اسم ادنة في تركيا ايضا ). وكان الاسم القديم الذي اطلقه السومريون على واديهم هو دلمون – تلمون – بمعنى ارض الحياة وهو المكان الذي يعتقد السومريون انه مكان آلهتهم ، فهو بيت الاله انكي ، وبيت الهة الجبال ( نين هور ساغ ) . وهي ام جميع الاحياء وتجلت في اسماء مختلفة مثل حواء ، ايفا ، انانا ، عشتار ، عشتروت ، اسيس … الخ
اما الجهة الشمالية للوادي ، جنة عدن ، فترتفع الى ممر جبلي يؤدي الى سهل زراعي خصيب عرف في التوراة باسم ارض نود ، وان الحدود الشمالية للوادي يحدها جبل تغطي قمته الثلوج يبلغ ارتفاعه 3000 متر فوق سطح البحر . (6) وهناك حاليا مدينة معروفة اسمها نوغده .
ان الجبل المذكور الذي تغطي قمته الثلوج كان محط أنظار الانسان القديم في كردستان ، فلم تكن الوسائل المتاحة له حينذاك تمكنه من الصعود الى قمة الجبل المغطاة بالثلوج صيفا وشتاء ، فكان يظن انها متصلة بالسماء ، لتماهي لون الغيوم مع الثلوج ، وظل الانسان القديم يظن ان هذا الجبل الذي يتصل بالسماء هو مكان جلوس الاله ، او موطن الاله ، لذلك كان يتجه اليه متضرعا رافعا راسه ويديه اليه طالبا منه الرحمة حين تبرق السماء وترعد , ومن آيات ذلك انه حين انتقل من موطنه الاول ونزح الى الجنوب والشرق والغرب أخذ يعيد تشكيل ذلك الجبل الابيض حسب امكاناته المعمارية ، فولدت المعابد المشابهة للجبل واشهرها الزقورة ومن اقدم الزقورات واشهرها تلك الشاخصة حتى اليوم في ايلام – في جوغة زنبيل –** وجنوب العراق – اور – والمشيدة على شكل جبل .
واشهر بناء قديم على شاكلة الجبل هو ايوان كسرى، ايوان خسرو – طاق كسرى – في المدينة التاريخية طيسفون قديما وحاليا المدائن او سلمان باك ، ويذكر المؤرخون ان ايوان كسرى كان ابيض اللون ويسمى القصر الابيض، لانه كان مكسوا بالجص الابيض ، وكسرى هو الملك كي خسرو الذي تحول اسمه في العربية الى كسرى ، واسمه الحقيقي في السجلات كي خسرو وكي في السومرية تعني سيد الارض او المالك ، ولازالت مستخدمة في الكردية بنفس المعنى حتى الوقت الحاضر ومن اشهر تلك الاسماء ايضا كي قباد ، وسيد القرية او كبير القرية في الكردية مازال يسمى كي خدا ، اي رب القرية او رب الارض .
وهناك ايضا المسجد الشهير تاج محل الذي شيد على غرار جبل زاغروس في كردستان فهو ابيض اللون ايضا وكذلك كانت المعابد الشهيرة تشيد كالجبل الشاهق المغطى بالثلوج . جبل سهند .
ملاحظة : في محاولة لتحليل اسم انميركار الذي ورد في الاسطورة المعروفة باسمه والتي تحدثنا عنها
اود ان ابين ان انميركار في السومرية تقابل الصياد ، حسب ديفد رول ، ص 206 ، وان نمرو هو الصياد العظيم او الصياد الكبير، و استنادا الى قائمة الملوك التي عثر عليها في نيبور ونشرت من قبل ارنو بويبل Arno Poebel عام 1914 م يقدم فيها الاسم التالي:
En-me-er-ru-kar
لذلك يجب تصحيح اسم انميركار الى انمير رو كار ، واستنادا الى ذلك سيكون الاسم
ان مير رو الصياد وهو الذي تحول الى نمرو الصياد والذي اصبح فيما بعد نمرود الصياد في الكتاب المقدس
( ليجند ، ديفد رول ص 206 )
ان كلمة كار السومرية تدل في الاساس على العمل ، اي عمل ، وهي مازالت تستخدم في الكوردية والفارسية بمعنى العمل ، وحين تضاف لها لواحق او سوابق تصبح لها معان جديدة فاذا اضفنا لها كري في اولها تصبح كري كار بمعنى عامل ، واذا اضفنا لها كم تصبح كم كار اي قليل الانتاج ، واذا اضفنا لاحقة لها مثل وان تصبح كاروان بمعنى قافلة ، واذا اضفنا اليها آسته تصبح كاراسته اي الواح خشبية للبناء او مواد اساسية لعمل ما ، والكثير من المعاني الاخرى التي يمكن الرجوع اليها في القاموس الكردي والفارسي تحت مادة كار .
اما اسم الالهة نين هور ساغ ، فارى انه من الكلمات السومرية التي مازالت مستخدمة حتى اليوم في الكوردية والفارسية بنفس المعنى ، فحسب الاسطورة السومرية ان نين هور ساغ هي محظية الجبل او الهة الجبل او ملكة الجبل .
نجد ان كلمة نين تعني الام الكبير او الام العظيمة ، وهي مازالت مستخدمة في الكوردية والفارسية بصيغتها ، فيقال نانه للجدة او الام الكبيرة ، وكلمة هور مازالت مستخدمة في الكوردية والفارسية بمعنى غيوم ، وهي التي كان الانسان السومري يعتقد انها وراس الجبل متداخلتان ، لانه لم يكن يرى قمة الجبل الشاهقة التي تختفي بين الغيوم . اما كلمة ساغ السومرية والتي تعني الراس او الجبل فما زالت مستخدمة في الكوردية والفارسية بصيغة شاخ يعني قمة الجبل او الجبل نفسه ، وكذلك كلمة سه ر بمعنى رأس ايضا ، ومن الواضح ان سه ر وساغ متماثلتان بسبب تغير نطق حرف الراء احيانا الى حرف الغين .
فيكون معنى الاسم السومري نين هور ساغ هو الام العظيمة لجبل الغيوم ، اي الهة الجبل الشامخ ، او الهة الجبل المقدس . او الهة الجبل العظيم . فجميع هذه الصفات هي معان للاسم السومري ، استنادا الى اللغة الكوردية / الفارسية .
………………..
إضافات ومراجع:
* جبل سهند ، جبل بركاني يقع شمال غرب ايران ، على مسافة 60 كم شرق بحيرة اورميا ، جبل شاهق الارتفاع ، يبلغ ارتفاع قمته 3707 مترا فوق سطح البحر ، ويعد اعلى جبل في سلسلة الجبال الواقعة في منطقة اذربيجان.
**جوغا زنبيل (وفي الكوردية والفارسية جغازنبيل) معبد تاريخي قديم يقع حوالي 45 كم جنوب مدينة سوسة عاصمة عيلام – ايلام – وقد شيد هذا المجمع الديني حوالي 1250 قبل الميلاد من قبل الملك اونتاش نابيرشا من اجل عبادة الاله انشوشيناك ، وفي هذه الزقوة يوجد قصر الملك والعديد من المعابد الصغيرة والمقبرة الملكية التي تحوي خمسة قبور ملكية وتعد زقورة جوغا زنبيل احسن نموذج موجود في العالم لهذا النوع من البناء – الزقورة -.
(1) ينظر دافيد رول في كتابه ليجند ص 139 .
David Rohl , Legend, London 1998
(2) ينظر كتاب الالهة لجيرمي بلاك ص 57
Jeremy Black and Anthony Green,
Gods, Demons and Symbols of Ancient Mesopotamia, London 1992 .
(3) ديفد رول في كتابه اعلاه ص 194
(4) ديفد رول في كتابه اعلاه ص 195
(5) ديفد رول في كتابه اعلاه ص 434
( 6) ديفد رول في كتابه اعلاه ص 436
مجموعة من الصور ذات علاقة بالمقال
1- صورة جبل سهند في الشتاء / ايران
2- صورة ايوان كسرى / بغداد
3- صورة تاج محل / الهند
4- احدى قمم جبل سهند / ايران
5- زقورة اور بعد تجديدها / جنوب العراق
6- زقورة جوغازنبيل في ايلام ، كوردستان ايران
[1]