ضحالة التحليلات الكلاسيكية لثورات الشباب
محمود عباس
الحوار المتمدن-العدد: 3464 - #22-08-2011# - 18:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
تمكن السيد غورباتشوف من إحداث ثورة غير معلنة في أعماق الثورة البلشفية، قلب بها راساً على عقب أنظمة معظم الدول الشيوعية، وأرسى معالم جديدة مغايرة لكل التوقعات البشرية، ظهرت من وراء أفكاره وأعماله دول قومية وديمقراطية، على أنقاض الأنظمة الشيوعية، كما خلق دول جديدة وأرسيت حدود جغرافية مغايرة لرغبات الكثيرين. ظهر من جراء الهدم والبناء تجار السياسة وطغاة من أشكال غريبة، غيرت ألوانها وبسهولة وبدون أي قيم للأعتبارات والأعراف الإنسانية والسياسية والفكرية، كما تحشدت معهم على مصائر بعض الدول، التي ظهرت فجأة، شرائح عديدة من الأنتهازيين والمفسدين، همهم كان النهب والسلب بدون أعتبار للقيم الوطنية أو القومية، والصراع لا يزال جارياً في معظم تلك الدول بين تلك المجموعات والثوريين الحقيقيين الهادفين لبناء الوطن والمواطن بالسوية الحضارية الإنسانية. وللأسف يتناسى الشعب الروسي هذا الثوري، الذين كانوا من مؤيديه وبأكثرية ساحقة، ولا رغبة للأغلبية العظمى منهم بالعودة إلى النظام القديم، لكن التاريخ سيعيد ثورته ثانية إلى الواقع، وسَيُذكَر كمفجر أضخم ثورة سلمية.
وفي الجبهة المقابلة سخرت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية بشكل عملي ونظري، ومنذ حادثة البرجين في نيويورك، وحتى اللحظة، أموال ضخمة، لدعم المنظرين والأكاديميات ومراكز البحوث العالمية، وبعض الأحزاب في العديد من المناطق، لإحداث تغييرات جوهرية في البنية الأساسية للمجتمع والسياسة في أغلب الدول الدكتاتورية وتهديم تلك الأنظمة، التي لم تعد تجلب لهذه الدول سوى المشاكل والعوائق لمصالحها بشكل مباشر، وخطر دائم لداخلها مثلما على أمتداداتها الإقتصادية في الخارج.
حددت الدول الرأسمالية موقفها من الأنظمة الدكتاتورية، الذين كانوا وراء ظهور معظم الحركات الإرهابية والمنظمات الإسلامية الراديكالية والسلفية المعادية لكل عنصر أجنبي، هؤلاء الذين كان منبتهم الطبقات الفقيرة والمسحوقة التي لم تكن تلقى أي دعم من الأنظمة لتوعيتهم أو تحسين أوضاهمع المعيشية أو الثقافية، فكانت البؤر المنتجة لمعادات القوى الرأسمالية العالمية إما من منطق الفكر القومي أو الديني أو الطبقي، وعلى مدى سنوات عديدة تتحرك قوى لتفعيل تغيير في مفاهيم هذه الأنظمة بشكل تتلائم ومراحل العلاقات الإقتصادية الحديثة في العالم، لكن الجمود كان قد خيم على بنية هذه الأنظمة، كسوية للحفاظ على السلطة ثابتة، وعليه تحركت أكاديميات عديدية ومنظمات رأسمالية متنوعة لتغيير الواقع الذي أصبح لا يتلائم ومفاهيم منظومة الحداثة الرأسمالية، وتوسعاتها التي لم تعد تحتاج إلى هذه الأنظمة كقوى محلية تحافظ على مصالح الدول الرأسمالية.
وكانت النقلة النوعية في عالم التكنلوجيا، والتسريع فيه، إحدى الطروحات لإسناد هذه المفاهيم، كنقل للأفكار بين العالم دون مراقبة جوهرية، وعليه أقتصرت المسافات، وصدرت المفاهيم والأفكار بسهولة من عالم إلى الأخر، بدون حواجز أمنية، وكانت أمريكا في مقدمة من صرف الكميات الهائلة من الأموال عليها، ظهرت تفعيل مخططات متنوعة وبدقة لثورة الإنترنيت والتسريع فيه، تداخلت مفاهيم المجتمعات البشرية بين بعضها، وكان التأثير واسعاً وعميقاً على الأفكار وبشكل خاص شريحة الشباب، الشريحة الأكثر أرتباطاً بعالم الإنترنيت.
لكن ما لم يتوقعه دول منظومة الحداثة الرأسمالية ظهور هذه الموجات الهائلة وبهذا الزخم من التوسع وسرعة الإنتشار والتأثير، مثلها بالضبط، لم يتوقع السيد غرباتشوف أثناء طروحاته وعملية إعادة بناء البنية الأساسية للدول الشيوعية، والتي أدت إلى إسقاط النظام من أساسه، وتهدمت الدولة السوفيتية ومعها جميع الدول التابعة لها وبتلك السرعة الغير متوقعة.
روح ثورات العصر هذه لا تزال غير واضحة لأغلب المحللين وخبراء الثورات، خاصة لأولئك الذين لايزالون يبحثون فيها بنفس النموذج النقدي الكلاسيكي القديم للثورات في التاريخ، متناسين العلاقة الجدلية العميقة بينها وبين ثورة الإنترنيت وسرعة الإتصالات، حيث الزمن والمكان قد أنعدما بشكل عملي تقريباً بين المجتمعات وبشكل رئيس بين جيل الأنترنيت الحقيقي.
والأغرب، لدى السيد غرباتشوف والذين كانوا معه في بيريسترويكته إعادة البناء ولدى دول منظومة الحداثة الرأسمالية بكل منظماتها وأكاديمياتها، أنهم لم يدمجوا في حساباتهم، عمق تأثير تلك الأفكار والثورة الإنترنيتية على أنها ستخلق ثورات خارج مجالات توقعاتهم، وستنقلب عليهم هذه الأفكار، وتنخر في مفاهيمهم وخططهم بشكل مباشر، وكان الذي حصل في الدول الشيوعية ومجتمعاتها ومفاهيمهم، والتي أنقلبت راساً على عقب، وكان التدمير التام لثقافة رسخت بين الشعوب وعلى مدى أكثر من سبعة عقود، مثلهم الآن، نرى هذا الأنتقال السريع من الشرق إلى عمق الإدارة السياسية لدول منظومة الحداثة الرأسمالية، وعلى مستويات عالية، ونحن نرى الإضطرابات في العديد من هذه الدول، إن لم تكن موجات شبابية في ساحات مدنها، فإنها في أروقة أكادميات السياسة ومراكزها، ومن الواضح جداً ما يحدث في الكونغرس الأمريكي، بين الجمهوريين والديمقراطيين، والتغييرات الفكرية الجذرية لدى العديد منهم، يلاحظ هذا في العديد من مواقف السيد براك أوباما نفسه، ولا يخفى مواقف كل من ساركوزي ورؤساء وزراء ألمانيا وإيطاليا واسبانيا وبريطانيا، وحتى في الجوار، فقد أجتاحت هذه الثورة العمق الإسرائيلي.
إننا على قناعة بأن هذه الثورات تحمل في طياتها عنفوان لإسقاط الأنظمة الشمولية وإعادة بناء ثقافة جديدة بكل مجالاتها وبنوعية مغايرة لكل متعارف عليه، تحمل المفاهيم الملائمة لوضع الحل الأمثل للمشاكل السياسية المستعصية في الشرقين الأوسط والأدنى وبشكل عادل ومنطقي تناسب جميع الأطراف ومن ضمنها القضية الكردية في بعض الدول، والقضية الفلسطينية الإسرائيلية، وسيكون ذلك بعد غياب تام لثقافة الأنظمة الدكتاتورية، وبعد ظهور ثقافة بنيانها التعامل الإنساني والحضاري وتقبل الآخر كما يرغب الآخر. لذلك علينا أن نكون وقود هذه الثورات، لا أن نكون على أطرافها ونتمسك بالجمود الفكري ومسايرة العمر الزمني.
الذين يقفون في طريقها، هم أصحاب الفكر الكلاسيكي في مفاهيم وتؤيل مدارك الثورات، أو أصحاب المصالح الأنانية، أو من الجماعات التي تشارك السلطات الطاغية في نهبها وسلبها لهذه الأوطان، وكل من ينتقد هذه الثورات الشبابية، وفي واقعنا الحالي وأخصها الثورة الشبابية في سوريا من منطلق: عدد تنسيقياتها أو ظهور عدد من الحركات وبأسماء مختلفة، وغياب الشخصيات القوية في الواجهة، أو غياب منظمة موحدة تمثلهم؟! هذه الأسئلة الشكوكية، ملغومة، تثبت على قصر رؤية شبه عدمية في فهم الثورة وخلفياتها وأبعادها.
ندرك بأنها ثورة شباب أنبثقت بدون تخطيط مسبق، محركهم الفعلي الثورة الإنترنيتية والمفاهيم التي تثار هناك بين جيل الشباب، فهم ليسوا بحزب أو منظمة، لذلك نجدهم مجموعات عديدة فهم تنسيقيات تنتمي إلى مدن بل وربما إلى حارات ضمن المدينة الواحدة، ليس هناك صراع على المراكز بل الصراع على من سيكون الأكثر فعالية، وما يوحدهم، أعلى سمواً من كل توحيد كلاسيكي يمكن أن يحلم به أحزاب المعارضة أو الشخصيات ذات المفاهيم الراديكالية الدوغماتية في التحليل والتؤيل للثورات، توحدهم هدفين أساسيين أسقاط النظام و الحرية وفي الحقيقة، الهدف الثاني يندمج بشكل فعلي في الأول، لقد تجاوزوا الأحزاب الكلاسيكية وقادتها الذين لا يزالون يجوبون ماوراء العقل الباطن لديهم ولا يخرجون من إطار أسقاط السلطة أو الأستيلاء عليها، بما معناه، رغبتهم سلطة وقيادات، لكن هذا ما تجاوزته ثورة الشباب منذ أيامها الأولى وعند الشعار الأول الذي حدد بإسقاط النظام، وليست أسقاط السلطة وحدها، وعلينا أن نعود إلى المجموعات الحزبية ومثقفيها أو قادتها والتأكيد على أن أي تؤيل لهذه الثورة من خلال المفاهيم الكلاسيكية الجامدة، والتي لا تتمكن من الخروج من إطار التأويلات التاريخية التي كانت تحوم حول حركة ونضال الأحزاب الكلاسيكية، تعتبر متخلفة عن ركب المسيرة الشبابية ومفاهيمهم.
على المحلل الثقافي أو السياسي أن يدرك حقيقة شبه مطلقة، وهي بأن هذه الثورة لا تمت إلى بنية الثورات القديمة، ولا تنتمي إلى الأحزاب الكلاسيكية، ونقدهم لشبابها على أنهم تنسيقيات متناثرة ومتنافرة كمفهوم التشتت عند الأحزاب، يعتبر مفهوم وتؤيل خاطئ وسيكون الأستنتاج خاطئ، وعلى الأغلب هذه التحاليل الجامدة المستقاة من الماضي الكلاسيكي يعد سبباً في عدم إستطاعة حدوث تداخل تام بين تنسيقيات الشباب والأحزاب، وهو السبب الذي يؤدي بالأحزاب إلى محاولات السيطرة على القيادة من مفهوم بأن الشباب لا يملكون الخبرة النضالية في السياسية لذلك ينجرفون إلى أخطاء، وهي في الحقيقة أخطاء بالنسبة للأحزاب السياسية، لكنها بالنسبة للثورة تعتبر أصوب طريق، وسيؤدي إلى الهدف الواحد الأوحد أسقاط النظام .
كل من لايؤمن بهذه الجدلية التاريخية الجارية والقادمة– رغم وجود شواذ لكل النظريات – سوف يكون بشكل أو آخر في الجانب المناهض للثورة، وبشكل عملي سيجد نفسه في النهاية بين صفوف المجموعات التي ترفض التغيير الكلي، أي عملياً سيكون إلى جانب السلطات الطاغية أو محاورين على عطاءات السلطة الشحيحة للحفاظ على وجوده أو في صفوفها واقفاً صامتاً بدون فعالية لما يحدث، وبالتأكيد هذا ما لا نريده لأحزابنا السياسية الكردية والعربية في سوريا، بل نريدها أن تكون صاحبة القرار الجريء السريع الثوري ولا تمنع شبابها على مساندة الثورة بشكل جدي، وعليها أن تحزم موقفها من السلطة، ورغم الحذر من القادم من بعض الكتل السياسية من المعارضة العربية السورية والتي لا تقبل الآخر كما يريده الاخر وهنا لا نملك القدرة على نقد الحركة السياسية الكردية في موقفها من السلطة على بنية مواقف المعارضة السورية العربية من القضية الكردية إلا أن التغيير القادم أي كان سويته، ستجلب مرحلة أفضل وأعلى سوية بكثير من الطغيان الحاضر، رغم أننا لا ننفي في بقاء بل وظهور سلبيات قديمة وحديثة.
رغم طغيان ذهنية الفكر الحر والكلمة الحرة ومفاهيم الثورة على الجمود، في القادم من الزمن، إلا أنه وبالتأكيد سيكون هناك سلب لهذه الثورة من قبل مجموعات أو أحزاب انتهازية، منهم قد يستخدم الإسلام كسياسة للطغي من نوع جديد، أو ظهور العروبية بإسلوب آخر، لكنها فترة مرحلية والثورة بمفاهيمها ستنجح، والقادم حتى بعد سقوط النظام سيكون أفضل من النظام الحالي.
علينا أن ندرك بأن إقامة أي مؤتمر لتنسيقيات الشباب يعني من الناحية العملية إدخالهم في إطار مغلق من بنود مناهج وإملاءات متنوعة من جميع الأطراف، بل سيكون السجن المحاط بنفس المفاهيم التي تحيط بالأحزاب السياسية، فهم أصحاب ثورة ميزتها العظمى والإيجابية، مرونتها وعفويتها المبنية على ثورة الإنترنيت التي لا قيود تجمدها، وسوف لن يكون هناك تجمع موحد لهؤلاء الشباب وهذا عامل قوة وليس عامل ضعف، وإذا أردنا أن نفهم هذه الحقيقة علينا تؤيلها من خارج المفاهيم الكلاسيكية للأحزاب، والذي يقود الشباب سوف لن يكون بإنتخاب أو تعيين، يظهرون عادة من خلفية أعمالهم وخدماتهم، يطفي الفرد منهم بطفرة بنفس سوية الطفرة التي ظهرت فيها هذه الثورات، لا نجد ظهور فرد بمفرده، بل أشخاص ينبعثون من بين الشباب وفي مناطق متفرقة، لأمتلاكهم القدرات القيادية، وقد شاهدنا غياب العديد منهم بعد فترة قصيرة، وذلك بسبب خمود القدرات، لذلك يتراجعون من ذاتهم وبدون قرارات حزبية أو مؤتمرات أو كونفرانسات استثنائية! كما تعودنا عليه في حال محاولة إزالة قيادي ما، الناشط القوى يتملك الصدارة إلى أن يكون قادراً على أن يكون الأفضل، وقد شاهدنا هذه في الثورات السابقة، ونراها الآن في الثورة السورية، وفي ساحات المدن الكردية الآن، وهذه هي واحدة من أهم الخصائص التي تجعل هذه الثورات مستمرة وبثبات وعزيمة على إسقاط النظام، ظهر بعض الشخصيات الإنتهازية والمدفوعين من قبل أحزاب المعارضة، وسيظهر آخرون بين الشباب، وكان هناك جماعات أندسوا ليوجهوا الثورة في إتجاهات مغايرة، دعموا من قبل السلطات وفي الثورة السورية ظهرت أسماء من هذه الشاكلة، لكن روح الثورة تفرز هؤلاء عادة وبسهولة ونادراً ما يستمرون، لذلك فكل من ينادي بمؤتمرات شبابية لتجميعهم أو أختيار قيادات، عملياً يخرجون الثورة من عفويتها إلى شبه جمود، وعلى الأغلب القادة المنتخبون أو المعنيون في هكذا مؤتمرات سيسخرون إما من قبل الأحزاب المعارضة وسيجبرون على خدمة أجندات هذه الأحزاب، وسيدخلون تحت أملاءات عديدة وتحت ضغوط متنوعة الأنواع، أو ستلاحقهم السلطة بأساليب متنوعة لتغيير مسار الثورة.
شهداء على ثورات عفوية روحها غريزة الشباب المتحركة الثائرة على كل جمود، إنها ثورة الشباب ومن الشباب، تعيد بناء مجتمع بكليته، سيخلق عالم جديد حديث، يحمل روح الشباب المندفع إلى الأمام بدون قيود. البطء في الحركة والتغيير من سمات تقدم العمر الغير قابل على التجديد السريع كقادة الأحزاب السورية الكردية والعربية. الحضارات لم تظهر ولا تظهر بدون السرعة في الهدم والبناء.
بعض من أطراف المعارضة السورية العربية والكردية أكتفت أو ربما تشبعت من طروحات السلطة النظرية، والتي منت بها عليهم تحت شعار الإصلاحات، فمالت هذه الأطراف بشكل ما إلى جانب التحاور والمسيرة على المنهج الذي تطرحه السلطة في تهدئة الشارع. لكن شباب الثورة، جزموا هذه المواقف وتجاوزوا إطار المحاورة والإصلاحات، وذلك منذ سقوط الكوكبة الأولى من الشهداء، ولا موقف ثان مغاير لشعار إسقاط النظام والذي هو الهدف الأول قبل البدء ببناء جديد مع ثقافة جديدة، وكل من لا يمتثل لهذا المبدء يعتبر خارج مسيرة الثورة، كما وإن التباطئ في حزم المواقف لا تعود على أصحابها سوى بالأهمال، وربما السقوط مع النظام نفسه.
[1]