من أين يأتي التآكل الداخلي كوردياً
محمود عباس
الحوار المتمدن-العدد: 7146 -#26-01-2022# - 08:30
المحور: القضية الكردية
أثبتت تجارب التاريخ، أن تفاقم الخلافات الداخلية من أولى أسباب فشل حركات التحرر، وتلكأ تقدم الشعوب، وذبول الحضارات، وانهيار الإمبراطوريات، والحراك الكوردي ليس باستثناء، إن لم يكن أكثرهم كارثياً في هذا البعد، وما يجري في غربي كوردستان خير مثال، والمؤشرات مرعبة، ندفع ببعضنا إلى مستنقع الصراع تحت منطق الخلافات والنقد.
خلافاتنا الداخلية، تشمل كل شيء، المفاهيم، وأساليب النضال، والسياسة والحزب، والأبعاد الثقافية، ونقيم بعضنا أخلاقيا، ومواقفنا من الأصدقاء والأعداء، فحتى على الحوادث المفجعة، كالأخيرة الجارية في سجن الصناعة بحي غويران مدينة الحسكة، والتي نفذتها أخطر منظمة إرهابية في العالم، والذين يكفرون الكورد، نختلف، بلغ ببعضنا التفكير فيما إذا كنا سنجرمهم أم نجرم بعضنا.
رغم معرفة الأغلبية من الشعب والحراك لهذه الحقيقة، إلا أننا نساهم في ديمومة الوباء، بطريقة أو أخرى، وكل طرف يبرز حججه المقنعة لساحته، فندفع ببعضنا إلى مستنقع الوباء، أي علميا نحن من ننشر الوباء الذي يبثه المتربصون بيننا.
ففي العقد الأخير أثبتنا، أننا دون الإمكانيات المعرفية والسياسية، لإدارة ذاتنا والاحتفاظ بالمكتسبات التي حصلنا عليها، والخلافات الداخلية من أولى أسباب خساراتنا وفشلنا، وإن أستمرينا على هذا النهج، فقادمنا جميعا ودون استثناء تتجه نحو الضياع. جميعنا اصبحنا لقمان الحكيم، الذي لا يخطأ في الحكم، وربما لا ندرك أننا نعدم بعضنا بالأحكام الجائرة، المبنية على الضحالة المعرفية.
رغم ما يقدمه العصر من الخدمات وسهولة التعامل مع الأحداث، والعالم الخارجي، نغلق على ذاتنا الأبواب لنتكالب على بعضنا، ونتناسى أساليب العالم الحضاري في الحوارات، ألا ما ندر، ونحصر بعضنا ضمن جغرافية عالمنا المغلق المليء بالخصام والتنافر، متلذذين بالتفوق على تلويث سمعة الكوردي الآخر.
بعضنا ينتشي عندما يرد على مخالفه، فكريا أو سياسيا، بنبرة التدمير، وكأننا ضمن حلبة لا مساومات ضمنها.
ننفر من أخذ العبر من العالم الحضاري، والارتقاء إلى مداركه، إلا ما تفرضه علينا الإعلام، وكثيرا ما نسهى التركيز على منطق توعية الذات، بقدر ما نسهر على كيفية تدمير الكوردي المخالف.
فهناك حضور دائم في لا شعورنا في كيفية فرض مفاهيمنا، ليست بحوارات منطقية، بل باستبدادية، والمطلق في الرؤية والأحكام، ففي هذه الأجواء ننتقل من النقد إلى التهجم، ومن التهجم إلى إلغاء الأخر وابتذاله، إلى أن نولج حلبات التآكل الداخلي، والذي يطوف به ماضينا، فنبدع وبأوجه جديدة، أبشع من الماضي، تتلاءم والظروف.
ففيما لو تتبعنا الإعلام الكوردي، والمواقع، وصفحات التواصل الاجتماعي، والحوارات والمحاضرات (دون أن نأتي على الأسماء، ولا على أطراف حراكنا، فهي أكثر من معروفة) سنلاحظ مدى التركيز على السلبيات، تحت منطق أنا الصح وليس الأصح، والأغلبية المطلقة تنقب عن حدث أو تصريح أو إشكالية من أحد الأطراف الحزبية أو من سياسي أو مثقف، ليصنعوا منها مادتهم اليومية؛ للتهكم والتهجم والتندر، وبيع الوطنيات.
صفحات تتجمد لأيام وتتعتم الرؤى، وتتجه نحو تكرار القضايا الخلافية السابقة، لضحالة قدرات أصحابها الفكرية والتحليلية تناول مسائل خارجية أو داخلية إيجابية، أو حتى محاولة تصحيح المسارات السلبية، ومن الغرابة أنها الأكثر تداولا وقراءة. وبعكسها نرى أن الحوارات والمساهمات الفكرية، وأصحاب صفحات التواصل الاجتماعي؛ الذين يحاولون الخروج من جدلية التآكل الداخلي وتوعية المجتمع وتصحيح لغة التعامل السياسي والثقافي، تبقى مهمشة أو منسية، وهذا خير مؤشر على الكارثة التي تجتاح مجتمعنا، ومدى تخبط أغلبية حراكنا الثقافي في المواجهة، وهزاله في توعية الشعب وتشذيب مداركه، والأكثر ألما ديمومة الجدلية، وحيث ضخامة الشريحة المساهمة في هذا التدمير الثقافي- السياسي لأمتنا.
التناقض بين متطلبات الحراك الكوردي ووعي الشعب وطموحاته، بين مناهجه وما كان يبثه من المفاهيم حول قادم كوردستان، والتي كانت نابعة من الضحالة المعرفية، السياسية والثقافية، والواقع الاقتصادي المزري، وسطوة الأنظمة المحتلة لكوردستان، خلقت ومع مرور الزمن، نوع من عدم الثقة ما بين المجتمع والأحزاب، وهو ما دفع به إلى تضخيم الذات، فبدأ يحاور بعضه أكثر مما يواجه الأنظمة، وتقدم ذاتها إلى الشعب على سوية قوة ذات سيادة شبه دولية، في الوقت الذي كان يواجه المربعات الأمنية كأحزاب هزيلة بمطالب بسيطة تلاءمت وسطوة الأنظمة، وقد كان هو المنطق المطلوب في ظل سلطات استبدادية تنفي الوجود الكوردي، بل العتب على تصعيدهم للتآكل الداخلي.
الجدليتين، التبعية والتآكل الداخلي، سهلت للمربعات الأمنية على تشتيت حراكنا السياسي-الحزبي، ليس فقط تنظيميا، بل على سوية المطالب والمفاهيم، فأصبح مع مرور الزمن، يواجه بعضه البعض أكثر من مواجهته للأنظمة، وتسارع سقوطه في مستنقع التنافس على الشرعية والأرضية الجماهيرية، ولم يكتفي بذاته، بل أدرج المجتمع، والأطراف الأخرى من الحراك، انزلق إليه الثقافي من بدايات تبلوره. وبقدر ما أبدع أطرافه في الانتقاص من البعض تراجع مكانتهم ونضالهم ضد النظام، وهو ما أدى إلى انعدام حضورهم شبه المطلق على ساحة القوى العالمية، باستثناء حالات تم استخدامهم كأدوات لمصالحهم.
ومن الغرابة، ظهور جدلية عصرية، تدمج بين توسع المدارك والتراكم المعرفي وبين التآكل الداخلي، ففي هذه المرحلة والتي حصل فيه الشعب الكوردي على بعض المكاسب، أصبحت اطراف الصراع، تبدع في بنية الخلافات، والقدرة على إقناع المجتمع، خاصة بعد إقحامهم جزء واسع من الحراك الثقافي. ففي السابق كان التسابق على من يملك البنية الجماهيرية، أما اليوم فتدرج المناهج الفكرية، وأفضلية العلاقات الإقليمية، والدولية، رغم ضحالتهم في هذا الجانب، وأولية الاعتماد على الذات أو المراهنة على المساعدات الدولية. فيتم إضعاف الذات أمام الأعداء، تسبقها سيطرة الذهنية السلبية والمبنية على أنه ليس من المهم نجاحي بقدر ما يهم القضاء على الطرف الكوردي الآخر، والمؤدية في النهاية إلى غرقنا في مستنقع الاقتتال الداخلي.
لم تمنع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (1514) لعام 1960م والتي تنص على منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، خلال دورتها الخامسة، أنظمة الدول الأربع المحتلة لكوردستان من الاستمرار في مسيرة إنكارهم حق الشعب الكوردي ليس في الاستقلال فقط، بل وطرح قضيتهم على المحافل الدولية أو على الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتسليط المربعات الأمنية على أمتنا في الداخل، وتهميشنا، مع ذلك نستمر في تتبع تلك الأنظمة بإرادتنا، بعدما كانوا يفرضون إملاءاتهم علينا، علما أنها اليوم أكثر من الماضي، دول تابعة، إرادتها مسلوبة، فنتناسها لنجعل من ذاتنا حلقة مهمشة أو أدوات نستخدم ضمن صراعاتهم الإقليمية، لنعيش كارثتين، كارثة التآكل الداخلي، وخدمة القوى المحتلة.
كنا نفعلها سابقاً من ضحالة المعرفة وبدون إرادة، واليوم عن قناعة وتخطيط، أي أن تأكلنا الداخلي وتيهنا كان مصدره في الماضي الأنظمة الشمولية الاستبدادية، واليوم نحن كحراك كوردي كوردستاني مذنبون أمام أمتنا وشارعنا الكوردي، نسهل للمتربصين بنا إنجاح مخططاتهم وتغييب قضيتنا من على المنصات الدولية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
[1]