علي سيريني
لعب الكُرد دورا عظيما و عجيبا في آن، في تغيير تأريخ المنطقة و العالم. وشكّل هذا الدور أحيانا مفارقات تأريخية كبرى لا يملك المرء إزاءها إلا أن يندهش إلى أبعد حدود الإندهاش. بادئ ذي بدء، نجد الدولة الميدية التي أسسها أجداد الكُرد الحاليين قضت على الدولة الآشورية القوية في عام 612 ق.م، لتصبح الدولة الأقوى في المنطقة الممتدة بين اليونان و الهند. هذا الحدث غير وجه التأريخ في ذلك الزمان، ولم تقم للآشوريين بعد ذلك قائمة، ويشير العهد القديم إلى ذلك في أسفار إشعياء وإرميا وناحوم ، أن آشور ستتحطم و لن تقوم لها بعد ذلك قائمة، و أن الميديين هم الذين بعثهم الرب لتحطيمها. لكن هناك فئات معينة من الجوار الكُردي تحاول عمدا -دون جدوى- أن تنفي صلة الكُرد بالميديين، زاعمة أن الميديين فرس أو إيرانيّون (لإبعاد العلاقة الكُردية بهم). وهؤلاء غير منتبهين إلى أن الأدلة التي تثبت الصلة الوثيقة بين الكُرد و الميديين دامغة، تشلّ أي إنكار. و الميدييون قطعا ليسوا فرساُ. فأحد مؤرخي الفرس و هو أحمد لواساني، في كتابه ‘الأخمينييون‘ يؤكد أن الفرس كانوا قبائل رحل يسكنون جنوب دولة ميديا، و كان الحضر منهم يسكن القرى. ويؤكد ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة، أن الفرس تعلموا كل شئ من الميديين، من أصغر إلى أكبر مسألة حضارية. ولم يكن للفرس حينذاك أي شأن، بل كانوا قبائل بدائية تابعة للميديين تعيش على الرعي و الترحل، كما يشرح ذلك المؤرخ الفارسي أحمد لواساني. من الجدير بالذكر أن الميديين هم أول من بدأ بالمراسم و الأتيكيت بين الرعية و الطبقة الحاكمة (مثلا عدم رمي البصاق في الأماكن العامة و بحضور أصحاب الدولة، و تخصيص نوعية اللباس بحسب المناسبة كاللباس الخاص بالأفراح و اللباس الخاص بالعزاء و اللباس الخاص بالدولة …الخ. كما أنهم نوعوا في نوعية الأطعمة و نوعية تقديمها ومناسباتها و أوقاتها).
بعد أن قضى كورش الأخميني على الدولة الميدية، بالتعاون مع الميديين أنفسهم، بسبب ظلم الإمبراطور الميدي هستياك لرعيته (أعدَم و قطع إبن هرباجس [مساعده] إرباً إربا، ثم أجبره أن يأكل لحم إبنه المقتول!)؛ فقام هرباجس يتعاون مع كورش الأخميني (حفيد هستياك من جهة أمه)، للقضاء على هستياك، فكان له ما أراد. حاول الميدييون بعد ذلك إستعادة ملكهم ولكن دون جدوى، حتى أغتيل آخر مُطالبيهم بالعرش قرب أربيل على يدي كورش. ولم تقم لأحفاد الميديين بعد ذلك قائمة، إلى أن قامت الإمبراطورية الساسانية في عام 224 للميلاد، حين دخلت مع الدولة الفارسية الإشكانية في صراع وجود، حسمه الساسانييون بإنتصار حاسم و حطموا الدولة الإشكانية نهائيا، وسموا عاصمتهم ماديان، كتعبير لثأرهم من الفرس الذين سطوا على الحكم الميدي. وهذا يشكل نقطة الوعي لدى الساسانيين تجاه أنفسهم و تأريخهم، وتجاه الآخر المعادي، وكأنهم بإعادة الهوية الميدية يعيدون الأمر إلى مجراه الصحيح و إلى من هو أحق بالحكم (شرعية السلطة). ومن هنا يبدو أنهم عاملوا الإشكانيين كإمتداد للأخمينيين، واعتبروا أنفسهم ورثة الميديين. و يبدو أن هذا الوعي كان موجودا لدى الأشكانيين أيضا، إذ بعث الملك الإشكاني أردوان برسالة إلى أردشير (أول الملوك الساسانيين) يهدده قائلا “أنت أيها الكُردي، أيها المتربي في خيام الكُرد، من أين لك الحق في أن تدعي التاج الملكي الذي وضعته على رأسك” كما يروي مؤرخون كبار مثل الطبري. وسمى الساسانييون مدنهم بأسماء كُردية، و حياً كُرديا في عاصمتهم، ثم أعادوا إسم ميديا بأن جعلوا إسم عاصمتهم ماديان (الميدييون)، حوّرها العرب إلى مدائن، وهي تقع جنوب شرق بغداد حيث موطن الكُرد الفيليين إلى الوقت الحاضر. ولو كان الساسانييون إمتدادا للفرس، لكان الأحرى إطلاق لقب أخميني على عاصمتهم وليس إسم ميديا. هناك أدلة و معطيات كثيرة، تثبت أن الساسانيين هم كُرد و ليسوا فرسا، ولكن في غياب دولة كُردية تحافظ على تأريخ و تراث الكُرد، قام الآخرون بالسطو على تأريخهم كما سطوا على أرضهم و ثرواتهم. الساسانييون حكموا لأكثر من أربعة قرون، وغيروا العالم القديم قبل الإسلام، وظل تراثهم يؤثر في القرون الجديدة في العهد الإسلامي.
وفي المرحلة الأموية، ظهر القائد الشهير أبو مسلم الخراساني الذي قضى على الدولة الأموية و أسس الدولة العباسية. فإليه يعود هذا الجهد، و لم تقم للأمويين بعد ذلك قائمة إلا في الأندلس، على يد بقيتهم عبدالرحمن الداخل. يقال إن الشعراء هم مؤرخو عصورهم. حين قضى أبو جعفر المنصور على أبو مسلم الخراساني، أنشد شاعر بلاطه أبو دلامة أبياتا في قدح أبو مسلم و نسبه، إحتفالا بمقتله على يد أبو جعفر المنصور:
أبا مجرمٍ أفي دولة المنصور حاولت غدره … إلا إن أهل الغدر أباؤك الكُرد. وهناك إشارات إلى كُردية أبو مسلم الخراساني لدى المؤرخين مثل إبن خلكان وغيره.
رغم صراحة أبو دلامة و وضوحه و تسجيله لهوية أبو مسلم الخراساني، لكن هناك من يريد عبثا إنكار هوية أبو مسلم الكُردية وإضفاء غيمة التضليل على هويته. واللافت أن شاعرا عربيا مشهورا وهو مالك بن ريب كان في خراسان، و كتب قصيدة يرثي فيها نفسه بسبب البعد عن موطنه في بادية العرب، يشير فيها إلى جغرافية كُردية ضمنا و بوضوح (أقول و قد حالت قرى الكُرد بيننا… جزى الله عمراً خير ما كان جازيا). ومن هنا ندرك أهمية الهوية و الجغرافية الكُردية المذكورة في التأريخ، لكنها مبثوثة ومنتشرة في مصادر شتى، نحتاج إلى جهد و مشقة لجمعها. يأتي بعد أبو مسلم الخراساني في الأهمية، قائدٌ كُردي آخر و هو صلاح الدين الأيوبي الذي هزم الأوروبيين في حطين، وأسس الإمبراطورية الأيوبية الكُردية التي دامت 78 عاماً، و تقوم على أنقاضها اليوم 13 دولة إقليمية قومية. طبعا، فإن صلاح الدين أكثر شهرة في كُرديته من أن يُنكر. لكن حتى مع هذا، فهناك فئات كثيرة حاولت و تحاول إنكار كُردية صلاح الدين، و من بين هذه الفئات يأتي حزب البعث العربي الإشتراكي، وعلى الأخص عزت الدوري الذي حاول أن يثبت الأصل العربي لصلاح الدين، و نفي كُرديته علنا. حرر صلاح الدين القدس في معركة حطين الشهيرة، حيث هزم الجيوش الأوروبية، وكان قبل ذلك قد أزال الحكم الفاطمي من مصر. ثم بعد ذلك يأتي في الأهمية، على مستوى إقامة الدولة و التمدد، الشيخ صفي الدين الأردبيلي، وهو فقيه شافعي و عالم وشاعر ومتصوف كُردي من شرق كُردستان (كُردستان إيران). فقد تحول حفيده خواجه علي الصفوي إلى المذهب الجعفري الإثني عشري. و تحول حفيد خواجه علي إلى أول حاكم للإمبراطورية الصفوية، ألا و هو إسماعيل شاه الصفوي. والمفارقة العجيبة جدا هو أن صلاح الدين الكُردي حوّل مصر إلى دولة سنيّة، و قضى على الحكم العبيدي الشيعي فيها، بينما حوّل إسماعيل شاه (الصفوي الكُردي) إيران من بلاد سنيّة إلى مملكة شيعية إثني عشرية، دامت 235 عاما (من عام 1501 إلى 1736). في غياب مؤسسات تأريخية كُردية ومراكز دراسات، تطمس تلك الفئات التي ذكرناها هوية الدولة الصفوية، وتحاول بطريقة جنونية و مضحكة إيجاد أصول من أهل بيت النبوة للشيخ الكُردي صفي الدين الأردبيلي، لنزع صفته الكُردية، وأحيانا تقوم بتشويه هويته الكُردية لأن أبناءه و أحفاده تزوجوا من نساء تركمانيات. وأحيانا أخرى يذكرون أن “الشيخ صفي الدين من أردبيل وأن هذه المدينة يسكنها الفرس و العرب و الكرد و التركمان”، كمحاولة لإخفاء هويته القومية. وهذه محاولة مكشوفة لتشويه هويته القومية كما هي في الواقع.
من المفارقات العجيبة، نرى أردوان الأشكاني الفارسي يستنكر على أردشير الساساني الكُردي التاج الملكي، لأنه كُردي. وبنفس النبرة هدد السلطان سليم الأول العثماني منافسه الكُردي إسماعيل شاه الصفوي، أنه لا يحق له إدعاء المُلك، وبعث مع رسالته إلى إسماعيل شاه مسبحة و سجادة وكشكولاً، مذكراً إياه بأصله الصوفي، أي بجده الأكبر الكُردي الشيخ صفي الدين الأردبيلي الشافعي. والأغرب، أن مسعود بارزاني الذي أعلن الإستفتاء على إستقلال كُردستان في عام 2017، هدده الرئيس التركي أردوغان (إسمه مطابق لإسم الملك الأشكاني أردوان) بأنه لا مجال لإقامة دولة كُردية، وأن مسعود بارزاني يفتقر إلى إمكانية ذلك ومن المفارقات الأخرى الغريبة، أن قادة جيش إسماعيل شاه الصفوي نصحوه أن يبادر بالهجوم على الجيش العثماني من الخلف قبل تمركز دفاعاته، لتعطيل مفعولية المدافع و الأسلحة النارية، نظرا لتفوق الجيش العثماني في العدد و العدة، لكن إسماعيل شاه رفض ذلك و اعتبره مخالفا لقيم الفروسية و الشجاعة و النبل. هذا ما تكرر مع الزعيم الكُردي ملا مصطفى بارزاني، كما يروي الكاتب العراقي المشهور هادي العلوي، حيث أقترِح على بارزاني قصف القصر الجمهوري في بغداد عبر الزوارق في نهر دجلة، لكن بارزاني رفض هذا المقترح بشدة، واعتبره منافيا لقيم الرجولة و الشجاعة والنبل. و على نفس المنوال، ذهب الزعيم الكُردي الإيراني عبدالرحمن قاسملو، أن قواته لا تقوم بإعمال إرهابية، كقتل المدنيين وخطفهم و خطف الطائرات أو تفجير الأماكن العامة، في سبيل القضية الكُردية كما تقوم بذلك منظمات ثورية في الأماكن الأخرى في العالم.
أعداء الكُرد، لم يتورعوا في إستخدام شتى الحيل للقضاء عليهم. فالسلطان العثماني محمود الثاني اغتال الأمير الكُردي محمد باشا الرواندزي غدرا، بعد عودة الأمير من إسطمبول، إذ نصب له محمود الثاني كمينا في طرابزون في عام 1836 تمكن فيه من قتل الأمير الكُردي. وفي وقت كان الكُرد مستعدين للتفاوض مع الحكومة في العراق، أقدم حزب البعث الحاكم على محاولة إغتيال ملا مصطفى بارزاني بشتى الطرق، ومنها، تفخيخ رجال الدين الذين بعثهم النظام البعثي كوفد مفاوض مع بارزاني. ومن جهة إيران، طلب النظام الإيراني من قاسملو الدخول معه في مفاوضات. لكن النظام كان قد نصب له فخا في فيينا، واغتالوه غدرا في أول أيام عيد الأضحى في 13 تموز 1989، جنبا إلى جنب مع وسيط المفاوضات، المفكر الإسلامي الكُردي فاضل رسول. وهذه الأمثلة الثلاث، ليست سوى وشل من بحر الغدر و الخيانة الذي تعرض له الكُرد من أنظمة الجوار أو دول الطوق الرباعي حولهم.
حين سقط الحكم الصفوي في إيران على يد الأفغان، ثم تلت فترات من الفوضى و التشرذم و الضياع لعقد و نصف، خرج من بين الأنقاض كريم خان زند الكُردي و بنى إيران من جديد، و أسس في الأثناء حكم السلالة الزندية الكُردية الذي دام فترة 44 عاما (1750-1794)، شهدت فيها إيران إزدهارا كبيرا و تقدما عظيما. انتصر الزندييون، بقيادة محمد خان الزند على العثمانيين، و وضعوا حدا لهم لم يقدروا على تجاوزه في مناطق كركوك. هناك أيضا طمس متعمد، لإخفاء الهوية الكُردية للزنديين و دولتهم العظيمة التي أحيت إيران من رماد. الزندييون هم كُرد فيلييون.
قبل ذلك وفي أوج الصراع العثماني الصفوي، برز العالم والفيلسوف والشاعر الكُردي إدريس البدليسي الذي كان أبرز قائد عسكري للجيوش العثمانية. يعود فضل الإنتصار في معركة تشالديران عام 1514 إلى إدريس البدليسي، حيث استطاع أن يستميل جلّ القبائل و الأمارات الكُردية إلى جانب العثمانيين، وبذلك ضمن السلطان سليم الأول إنتصاره الساحق على الشاه إسماعيل الصفوي. و لولا إدريس البدليسي و وقوف الكُرد إلى جانب الدولة العثمانية، لما كان بمقدور العثمانيين الإنتصار في تشالديران. ولو وقف الكُرد و إدريس البدليسي إلى جانب الصفويين، لكان الإنتصار دون شك من نصيب الصفويين ولأمسى سليم الأول في ذمة التأريخ، نظرا لوجود عدد كبير من الكُرد في هذه المعركة التي حدثت في مناطقهم، في وقت كانوا هم القوة الضاربة. و المفارقة، أن إدريس البدليسي كان وزيرا و مستشارا وحاملا للختم السلطاني لدى إسماعيل شاه الصفوي. لكن المؤسف أن قلة الحكمة و التخبط من قبل الشاه إسماعيل الكُردي الصفوي (بسبب حدث سنه و المغرضين من حوله من القزلباش)، تسببا في خسارة البدليسي، وبالتالي خسارة معظم القوات الكُردية التابعة للأمراء و الزعماء الأكراد، وفي النتيجة حدثت الكارثة الكبرى للصفويين في تشالديران. وحيث استطاع إسماعيل شاه الهروب بسرعة بعد الخسارة الفادحة، وكان عمره حينها 27 عاما، عاد إلى عاصمته تبريز الخاوية على عروشها منكسرا مهموما، وقد وقعت زوجته (أو زوجتيه حسب روايات معينة) في أسر السلطان سليم الأول الذي دخل تبريز ونهبها. ولم يقدر إسماعيل شاه على تجاوز هزيمته و إنكساره، فعاقر الخمر حتى مات وله من العمر 37 عاما، مخلفا إبنه طهماسب ذو عشرة أعوام. كان إدريس البدليسي الوزير و المستشار الأكثر نفوذا لدى السلطان سليم الأول، و ألّف كتبا عدة، حوالي عشرة كتب، منها ما هو خاص بالسلطان العثماني و تأريخ الدولة ومنها ما هو شعر و فلسفة و طب (مثلا، هشت بهشت في تأريخ الدولة العثمانية).
في عهد الشاه الصفوي طهماسب، ظهر القائد و العالم و المؤرخ شرفخان البدليسي الذي منحه طهماسب لقب أمير الأمراء. كان طهماسب سلطانا حكيما و ذكيا. لكن المؤسف هو وجود حاشية من القبائل القزلباشية التي كان يحركها الحسد و الغيرة تجاه الأمراء الكُرد، بسبب ما كانوا يتمتعون به من مزايا كانت تلك القبائل تفتقدها، بل لم تكن في الأساس سوى كتل عسكرية في مرافق الخدمات الشاهية الصفوية الكُردية التي حاولوا دوما لوي عنقها لصالحهم. و لكن بسبب كثرة أعدادها، و تزوج سلاطين الصفويين من نسائهم، تكاثر نفوذ القبائل القزلباشية، و كان هذا سببا كبيرا لسقوط الدولة الصفوية وخرابها. في عهده حدثت ثورات و قلاقل كثيرة في منطقة كيلان بإيران، و لم يستطع طهماسب و قواده السيطرة على الوضع، ولكن شرفخان استطاع على رأس 450 مقاتل كُردي أن يهزم السلطان هاشم الذي كان يقود حوالي 18 ألف مقاتل، فاستتب له الوضع ونشر العدل بين أهالي كيلان، وهو ما نال إعجاب طهماسب الذي شكر شرفخان كثيرا وكرّمه أيما تكريم. في إثر ذلك منح طهماسب لقب أمير الأمراء لشرفخان. إخلاص شرفخان للشاه طهماسب رفع من قدره، بحيث دب الحسد و الغيرة في نفوس القزلباش. لكن بعد موت طهماسب، و تولي إسماعيل ميرزا السلطنة الصفوية، تغيرت الأمور رأسا على عقب، حيث قامت فئات من القزلباش بإثارة إسماعيل ميرزا ضد شرفخان، وفي إثر ذلك تم إبعاده إلى منطقة شبه نائية. ويروي شرفخان أن إسماعيل، بسبب تعاطيه للأفيون في السجن لمدة طويلة، كان قد أمسى سريع التقلب في مزاجه، حيث قام بقتل البعض و بسجن بعض آخر، في ظروف موبوئة بالخوف و الإضطراب و الفساد بين أمراء و قواد الصفويين من القزلباش. وهذا ما أدى إلى عودة شرفخان إلى السلطنة العثمانية، حيث منحه السلطان مراد الثالث لقب أمير على بدليس و ما جاورها، مع مكانة عظيمة لدى السلطان العثماني حيث أصبح قائد القوات العثمانية ضد الصفويين.
من الممكن أن نذكر شخصيات كُردية ساهمت و غيرت الكثير من العالم القديم و الجديد ومنها زردشت، الإمبراطور الميدي كيخسرو، وعلماء كبار مثل إبن صلاح الشهرزوري، الحافظ العراقي، الدينوري، الماوردي، إبن خلكان، أبناء الأثير، أبي الفداء، المخترع العالم الجزري، زرياب، إبن تيمية، الشيخ أحمد الكوراني (أستاذ محمد الفاتح العثماني)، مولانا خالد النقشبندي، سعيد نورسي (بديع الزمان)، الشيخ سراج الدين عثمان النقشبندي، محمد كُرد علي، العلامة فؤاد سزكين، جلال الصالحي (عالم كُردي أمريكي أول مخترع للسيارة الكهربائية، وله إختراعات أخرى كثيرة، لكن الأمريكيين وخصوصا أصحاب شركة جنرال موتورز سرقوا براءة الإختراع منه و سجلوا إختراعاته بأسماء أمريكيين. يستطيع القارئ الرجوع إلى المصادر أسفل المقال )، وكذلك المئات من العلماء و الشخصيات الأخرى من الذين لعبوا أدوارا عظيمة في تغيير تأريخ المنطقة و العالم. ويروي المستشرق الهولندي، مارتن فان بروينسن، أن علماء الكُرد أوصلوا الإسلام إلى أندنوسيا وما جاورها من البلدان عن طريق طلابهم في مكة و المدينة المنورة. وهذا بعض تأثير الشعب الكُردي في تأريخ المنطقة و العالم، منذ غابر الأزمان و إلى اليوم.
ولكن المشترك الكبير في نظرة الآخرين إليهم من الأقوام المجاورة، هو محاولة طمس هويتهم و بصماتهم، لذلك يلجأون دوما إلى صناعة هويات أخرى غير كُردية للشخصيات و الدول الكُردية المهمة في التأريخ. بل و وصل بهم التلاعب بالهوية الكُردية حداً، وضعوا الشبهات و الشكوك حتى على إسم و عنوان الكُرد و جذور الشعب الكُردي و وجوده كقوم، له لغته و ثقافته و هويته المميزة. وما يحرك هؤلاء المشوّهين، هو الحسد و الغيرة، والرغبة العارمة في ضرب إعتزاز أجيال الكُرد بمجدهم و تأريخهم، وبالتالي جعلهم مجاميع بشرية منكسرة ذليلة تنقاد لمحتليها. فالأتراك العنصرييون الذين عجزوا عن الإتيان بمثل بديع الزمان سعيدي نورسي، نسبوه إلى أهل بيت النبوة لسلخ كُرديته منه، وهذا الإنتساب ينفيه نورسي في رسائله (رسالة محاكمات). و الأنكى، حذفوا كل كتاباته التي تحدث فيها عن الشعب الكُردي و كُردستان، و وضعوا مكانها مصطلحات أخرى كالشرق و شعبنا في الشرق، وهي مصطلحات لم يستعملها نورسي البتة. وهذا ما فعله الفرس مع الشيخ صفي الدين الكُردي جد الصفويين حيث نسبوه إلى أهل البيت، علما أن الإنتساب إلى أهل البيت قبل 1400 سنة لا ينفي بالضرورة هوية الشخص القومية، لأن هويات الناس الراهنة لا تحددها عشرات القرون التي مضت لأن الناس يختلطون و ينصهرون في ثقافات أخرى. أما زرياب، فقد نسبه عرب متعصبون إلى أصول أفريقية، لتضليل هويته الحقيقية، و هو إبن موصل الكُردية تأريخيا. لكن المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها (شمس الإسلام تسطع على الغرب: تُرجم الكتاب بعنوان شمس العرب تسطع على الغرب!) تشير إلى هوية زرياب الكُردية، لأنها غير معنية بمحاربة الهوية الكُردية وأثبتت لزرياب هويته الحقيقية دون تزييف، كما أن كُتاباً عرباً منصفين أقروا بكُرديتة أيضا. كان لزرياب تأثير كبير جدا في الأندلس وعبرها في أوروبا، على مستوى الأتيكيت، الفنون ومنها الموسيقى، الموضة و الملابس (الملابس وفق المناسبة)، الطبخ و الأتيكيتات الأخرى التي هي دون شك تراث ميدي تبلور عبر الزمان في كُردستان، وانتقل إلى المناطق المجاورة و الأبعد.
هناك علماء كُرد قديما وحديثا، ساهموا ولعبوا أدوارا مهمة في تأريخ المنطقة. ومن أبرز هؤلاء في العصر الحديث هو الشيخ كفتارو و الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (يذكرهم بعض العرب كعلماء سوريين من أصل كُردي لتضعيف هويتهم القومية)، و أحمد مفتي زاده و كوجر بيركار (عالم الرياضيات) الخ، وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم.
إن الروح القومية الفارسية و التركية (والعربية بدرجة أقل)، مسكونة بالخوف و القلق من الوجود الكُردي. فالوجود الكُردي، بحد ذاته، يشكل تهديدا مبطنا لهذه الروح. إن طمس الحقائق حول التأريخ الكُردي و أمجاده، يأتي وفق برنامج و تخطيط محكمين، لضرب الروح القومية للشعب الكُردي، وضرب عنفوان و همة أجياله التي استطاعت عبر وجودها المسكون بقوة فولاذية، ليس أن تصمد فحسب أمام المشقات و العذاب و الصعاب، بل و أن تشق طريقها نحو الإنجاز و المجد، ليس لنفسها فقط و في حدود جغرافيتها، بل إن دورها و بصماتها في تغيير تأريخ المنطقة و العالم واضحة. فكثير من القادة الكبار، و المبدعين في شتى العلوم و الفنون، في جغرافيات الجوار، هم أناس قدمتهم جبال و سهول كُردستان على مر العصور.[1]