شفان إبراهيم
هيمنت قضيةتعريب الهويّة الكردية في سوريا على مجمل تفكير الطرفين، الأول: أرادها حزب البعث دولة عربية صرفة، فعربت جغرافياتهم وشوهت انتماءهم، وميعت البنية السياسية والثقافية للهويّات القومية، وسعت لزرع العروبة في بنية تفكير الأطفال وعقولهم عبر التلاعب بنفسية وعقلية طلاب المدارس بواسطة منظمات الطلائع وشبيبة الثورة وغيرها، و زادت من الضغط السياسي والأمني والإعلامي على النُخب الشبابية والثقافية والحزبية السياسية الكردية. الثاني: أصر أبناء الشعب الكردي التمسك بهويّتهم والعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق السياسية، ما خلق تأزماً حاداً في تركيبة العلاقة بين الهويّة الكردية والسلطة ثقافياً وسياسياً، قامت في بعض مراحلها بالتعاطي الكردي المُجبر سواء لحماية نفسها أو الاستفادة من التوظيف في مؤسسات الدولة... إلخ.
صراع الهويّة الكردية بدأ من المدارس السورية
الوعي بالهوية الكردية هو أول معطى وصلة للطفل الكردي بالعالم الخارجي عبر ما يحصل في المنزل. ففي اتصاله مع المدرسة، والذي يُشكل أول فضاء خارجي رسمي وغريب وجديد له، يعيش في تلك اللحظة صراع في عقله الباطني بين آخر كلمة سمعها من ذويه /توديع، دعاء/ باللغة الكردية، وأول كلمة يسمعها في المدرسة، كالشعارات أو صياح المدير أو المستخدم للإسراع لداخل المدرسة. وهو ما يعني أن عملية معقدة تبدأ لدى الطفل الكردي خلال علاقته بالوسط الجديد المتمثل بالمدرسة - الروضة. ومع زيادة حدّية التعريب والتوجيه صوب مفاهيم العروبة والطلائع ثم الشبيبة، مقابل اللغة والفن والموسيقى والأخبار الكردية في المنزل، فإن ديناميكية صراع تُمارس فعلها مدى الحياة، وتالياً فإن ثنائية الهويّة لدى الكردي ليست مفهوماً بسيطاً وبديهياً، إنما تكشف أمام التحليل عن ظاهرة معقدة تنشأ نفوراً متضخماً بشعور المظلومية مع كل مرحلة عمرية في المدرسة. فشعور الاغتراب ثم الصراع الذي يتولد لدى التلميذ الكردي، سببه السياسات المتبعة بفرض لغة وتراث وشعارات عربية فحسب. وتطور عبارة أنا أختلف عن الوسط العربي ولدي صفات خاصة، لدى الطالب الكردي في مراحل دراسية لاحقة، خاصة وأن التعبير عن الهويّة يتم عبر تشييد متدرج تبدأ أسسه خلال السنوات الأولى من الحياة.
تعامل مبني على الإكراه لا التخيير لا يعني التخلي عن الهويّة
في مراحل معنية من عمر الشعوب والظروف التي تمر بها، خاصة النُخب وخريجي الجامعات، وربط بالظروف الاقتصادية السيئة، فإن الشجية البشرية تبحث عما يحمي مصالحها، فتبدأ بالبحث عن نفاذ صوب أول محطة يؤمن لها مدخولاً اقتصادياً، لكن ذلك لا يعني التخلي عن الهويّة القومية.
وظهرت خلال عقود الظلم التي لحقت بالهوية القومية للكرد، مع زيادة في ضرورة العمل، صورة نمطية حول الاندماج الهويّاتي وكأنها رغبة عفوية لالتحام الهويّات القومية بالهويّة العربية. لكن الحقيقة أن الوضع السياسي والثقافي للهويات القومية، لم تتكيف مع الهويّة العربية لسوريا بشكل عفوي أو طوعي، إنما فرضت عليهم عبر التربية والتعليم والمناهج وسائل الإعلام والأنشطة الثقافية ضمن المدارس والجامعات وحتّى الدوائر الحكومية؛ بهدف نفي تلك الهويّات الفرعية سياسياً وثقافياً وإنهاء الوجود الهويّاتي لتلك الجماعات وقطع أي علاقة بين حاضرهم وماضيهم التاريخي، والوصول إلى لحظة تمييع مستقبل تلك الهويّات. وأثبتت السيرورة التاريخية لممارسات وقرارات السلطة السورية وتراكم العسف السياسي والاقتصادي والثقافي والأمني التي أنتجت تظاهرات /2011/، أن صراع الهويّات داخل الدول المركبة، ينفي أيّ صلة بين الديمقراطية والتعريب ومحق الآخر المختلف، وخلو أي مصلحة للسوريين وسوريا كدولة ومستقبل العيش المشترك، من محو الهويّات الفرعية وأنشطتها الثقافية ومنع تدريس لغتها القومية.
الهويّات الخاصة: أرق القوميات وتشكيك بالتوقيت
ومع أن التغيرات البنيوية التي طرأت على المجتمع والفكر السياسي السوري خلال العقد الأخير، أعادت تحريك المياه الراكدة حول جدل الهويات وصراعها، وتطوير تعريفها دستورياً وإمكانية البحث في تعريف الهويّة السورية الجامعة وعلاقتها مع باقي الهويّات ضمن الدولة. لكنها اصطدمت بأدبيات بعض الأطراف السياسية للمعارضة السورية التي طرحت إشكالية قِدم أو حداثة طرح قضية الهويّات الخاصة في سوريا، إن كانت موجودة أساساً قبل 2011، متهمة الهويّات القومية الكردية على وجه الخصوص باستغلال الأزمة السورية لتمرير أجنداتها السياسية، وتسعى لتمزيق الجغرافيا السورية، منطلقين من فكرة لماذا لم تطالب الهويّات الخاصة بحقوقها بالسّوية ذاتها وبشكل متواصل عبر تاريخ سوريا؟ مع ذلك والإجابة عليها سهل جداً: فمن الطبيعي أن تخبو أو تتراجع الأنشطة المعبرة عن تلك الهويّات في فترات زمنية معينة، وتسترح أحياناً لشعورها بخطر يداهم بنية وجودها ويمكن أن تُفنيها أو تُلحق بها ضرراً جماً على صعيد التواجد التاريخي في مناطقهم، أو إيصال الأذية بمستقبل الطلاب والطبقات الكادحة أو العاملين على سبيل المثال. لكن صُلب الطرح الهويّاتي ليس جديداً أو يُطرح للمرة الأولى، حيث سلسلة المواجهات والتعبير بمختلف الأساليب عن الهوية القومية الكردية في سوريا، كالأنشطة القومية والإصرار والتمسك بالأغاني والتراث والفلكلور والأعياد والأسماء القومية وتعلم اللغة القومية سراً والتحدث بها علانية، والاحتفال بعيد النوروز الكردي والأكيتو الآشوري، كأعياد قومية خاصة، والمقاومات والعمل الحزبي وإبداء المواقف من مجمل السياسات المتبعة في سوريا منذ حُقبة الستينات، لم تكن سوى مقاومة سياسية - شعبية في وجه آلة الإنكار والتعريب للهويّات القومية.
مخاوف أبناء الهويّات الخاصة: تطور للحراك الشعبي وإصرار نُخبوي لمفهوم المواطنة
وبالرغم من إعادة تدويل مشروع الهويات وقضية المواطنة بالتزامن مع تطور الحراك الشعبي-السياسي السوري، لكن المشكلة الحالية لا تتعلق بإعادة تفعيل قضية الهويّة/أو الهويّات السورية، بمقدار طريقة تلقفها وشرحها من قبل النُخب السياسية. وإذا كانت المراسيم والقرارات الحكومية هي التي أوصلت حالة الهويّة السورية لوضعها الراهن، فإنه على النخب أن تطرح مشروعاً سورياً يُطمئن أصحاب الهويّات وكل السوريين لمستقبل بلادنا، عوضاً عن الخوض في مخاطر الهويّات الفرعية. والمؤسف أنه بعد عقد كامل من الدماء والحرب والضرر البليغ الذي أصاب ما لا يقل عن /10/ ملايين سوري، ومع حالة الفقر المدقع الذي يعيشه غالبية السوريين والمخاوف من تمزيق الجغرافيا السورية بشكل تجعل من حالات أمر الواقع الحالي حدوداً جيوسياسية منفصلة عن بعضها البعض، ما تزال الآراء والتوجهات تذهب باتجاه تعميق أهمية وعظمة هويّة أحادية لسوريا الغد عبر قضية المواطنة والعدالة على أنها خير مستقبل للبلاد، مع الإبقاء على تسمية الجمهورية العربية السورية علماً أن المواطنة الحقوقية الرصينة هي القائمة على علاقة المواطن/ الفرد بالدولة، وتركيبة العلاقة هنا قائمة على تواصل المواطنين مع العروبة وتالياً تحويلهم إلى أتباع لجماعة ثقافية تستحوذ على الأولوية والأهمية والبنود الدستورية، وما يخلفه من سؤدد سياسي واجتماعي كبيرين، وهي كتحصيل حاصل جملة أفكار وتوجهات مجبولة بالنزعة الإلغائية والتدميرية بشكل أو بآخر لكل سورية والسوريين.
وإن رغبت جميع الأطراف السياسية بطرح مفهوم جديد للهُويَّة السورية بشكلٍ مقنع وشامل لكل مكونات سوريا، رُبما توجب على النُخب بجميع قومياتهم أن يقتنعوا أن البنيان العميق للهويّات السياسية وخصوصياتها الثقافية، بعيدة جداً أن تكون متشابهة لحد تمثيل إحداها للأخرى دون مراعاة الخصوصيات. فالجامع بين الهويّات المتعددة في سوريا هو نمط العيش والإنتاج وعلاقات المحيط الاجتماعي والسياسي، والمواقف السياسية والدستورية التي تُتخذ تجاه الهويّات الفرعية في مجتمع ذي مرجعيات ثقافية-سياسية معقدة من حيث التعددية والكثرة فيها.
هويّة عربية مُتضررة أيضاً
وللأمانة التاريخية، فإن الممارسات السياسية للحفاظ على الهويّة، لم تكن من نصيب الكرد وباقي الهويّات القومية وحدهم، بل إن الهويّة العربية نفسها ما كانت مستريحة خارج إطار تحريكها للتعريب وقمع الآخر. فالأحزاب السورية العربية المعارضة، هي الأخرى كانت تنشط في سبيل هويّتها، سواء السياسية أو السورية العامة، وما قضاء أعضاء وقيادات تلك الأحزاب، لعقود في المعتقلات إلا دليل على ذلك. إضافة للاعتقاد المغلوط حول مواقف الهويّات الفرعية تجاه الأكثرية، إذ ليس المطلوب خنق الهويّة العامة لمصلحة القوميات، أو الطلب من الهويّات الفرعية التنازل عن حقوقها لصالح الأكثرية، وليس الاستقرار السياسي بغلبة إحداها على الأخرى، إنما الأصح الاتفاق على هويّة سورية جامعة لا تفضيل فيها للغلبة السياسية على غيرها.
الثقافة واللغة الأم معول لتنشئة الهويّة السورية الجامعة عوضاً عن خنق الهويات الفرعية
أول مراحل نفي شعور الاندماج المجتمعي للكرد عن سوريا، روحاً وانتماءً، والإبقاء عليه جثة هامدة لا حراك لها، كانت وما تزال عبر دمج الصلة بين التشييد الهويّاتي لسوريا وفلسفة التعريب لغةً وثقافةً. فالهويات الثقافية في تواصلها العادل مع نظيراتها، إنما تؤسس لوسط ومحيط اجتماعي فاعل وجديد، وهذه الهوية الثقافية السورية الجامعة تلعب الدور الرئيس في تشكيل أنماط إنتاج السلوك البشري، والحرمان من اللغة والثقافة والأنشطة الخاصة بالهوية الكردية يؤسس للحرمان من الحياة الاجتماعية، بل يؤسس لعجز وشرخ في الانتماء الوطني؛ لأن إحياء القوميات لثقافتها يمنح بعداً إنسانياً ورافعة أساسية للهوية الجمعية نفسها.
فالهويّة متأصلة في الشخصية البشرية ومكون أساسي لها، ويتطوران ضمن المجتمع الذي تقضي النسبة الأكبر من وقتها، ضمنها. وعلى سبيل المثال تتصدر اللغة الأم وأنشطتها صدارة الرافعة السياسية للهويّة، وتلعب دور المدماك الرئيس في تقريب الأفراد الناطقين بها من بعضهم البعض، ومع الآخر المختلف لغوياً بشكل عفوي ضمن المجتمعات المركبة، وتلعب تلك اللغة أساس تشكيل الانطباعات والتراكمات النفسية للهويّة وانتمائها، لنجد اليوم وبعد نصف قرن على الإلغاء، وعقدٍ على المأساة السورية، من يرغب ويسعى لجعل قضية اللغة من بين المنح والهِبات والمزايا التي تُمنح للقوميات في سوريا. لنتصور أن اللغات الكردية – الآشورية - التركمانية بين البازارات السياسية للحكومة والمعارضة السورية، فكيف للمكونات أن يعيشوا نشوة الانتماء للوطن السوري؛ إن كانت المضامين الثقافية واللغوية الخاصة بالهويّات الفرعية، تخضع للمزاج والسياسات المجحفة بحقهم. علماً أن قضية التعددية الثقافية واللغوية تنشأ وتكبر ضمن ذوات ونفوس الجماعات القومية بشكل متزايد دوماً، ويلعب واقع حالهم دوراً ريادياً في تلك التنشئة سلباً أو إيجاباً، لكنها ليست محور المطلب الهويّاتي القومي لسوريا المستقبل، إنما جزء منها؟
لنتفق أن الأعوام الغابرة التي مضت، لا يتوجب البحث فيها من زاوية تكرار حقيقة المظلوميات دون تقديم البديل، فالكل ظلم في سوريا، بما فيهم العرب وهويّتهم، التي لم تنل قسطاً من الراحة والاشتغال عليها خارج تسييسها من قبل مختلف الحكومات السورية؛ لحصار باقي الهويّات. وهي بذلك -الهويّة العربية- أيضاً عانت من تصدعات وشروخات بين تسخيرها للجم أي تطلعات خارج إنائها، وبين رغبتها في الاقتران بالحضارة وما يُمكنها أن تنتج، ففشلت مهمتها في خلق الهويّة الجامعة لكل السوريين دون تفرد أو تمييز إحداها على الأخرى. تلك العقود انقضت وتركت أثراً بالغ السوء في نفسية وخطاب وتربية الأجيال السورية التي راحت تكبر على وقع إنكار ومحق باقي الهويّات. دعونا نتفق أن غالبية الشرائح السورية في تظاهراتها وحراكها، يجب أن تأمل بنقلة نوعية جديدة وتشكيل حالةً من الوعي تزامناً مع إفرازات الربيع العربي، وقطعاً مع حالة الحطام التي عاشوها، على أمل الشروع في مشروع التطور الطبيعي للتعددية السياسية في سوريا، لكنها لم تنجح إلى اللحظة في إيجاد مخرج لحالة الصراع الهويّاتي السياسي والاقتصادي والترميزي والثقافي واللغوي.[1]