القطار السوري المتوقف
#صلاح بدرالدين#
أصاب الأستاذ – ايمن عبد النور – الإعلامي مدير منبر كلنا شركاء بتشبيه القضية السورية بقطار يجر عربات عديدة ، وسائقه برأس النظام الحاكم ، وهو تشبيه مجازي أقرب الى الفهم والاستيعاب من جانب الأطراف الخارجية ، التي ليس لديها الوقت لتغوص في جزئيات الموضوع السوري الذي صار بسبب تشعباته ، والتدخلات الخارجية فيه عصيا على الفهم حتى من جانب أصحابه السوريين .
واللغة التي يخاطب بها الأمريكيين وهو يعيش ببلادهم ببساطتها ، ومعانيها العميقة تتناسب والمرحلة الراهنة التي تتزامن مع تبوؤ الإدارة الامريكية الجديدة مقاليد السلطة في البلد الأعظم ، وهل هناك من ينكر أن القضية السورية بحد ذاتها هي مجموعة قضايا جوهرية مثار الخلاف والاختلاف ، ومدعاة الصراع والمواجهات بين السوريين من جهة والنظام من الجهة الأخرى منذ اكثر من ستة عقود انتهاء باندلاع الثورة الوطنية ، الى جانب مسائل مازالت قيد الخلاف بين صفوف المعارضين انفسهم ومن ابرزها بين من يسعى الى بدائل إسلامية ، وقومية ، وليبرالية ، ومن لايعترف بحقيقة سوريا المركبة واعتبارها دولة بسيطة ، ومن يقتصر معارضته فقط على تغيير رأس النظام وليس مؤسساته العسكرية والأمنية والاقتصادية ، والحزبية ، والإدارية ، وبين من ينشد سوريا جديدة بنظامها ، ودستورها ، وهيكليتها ، وادارتها ، وحتى تعريفها كدولة ومجتمع .
ليس – بدعة – ان القطار ( القضية السورية ) يجر عربات قد تكون بالعشرات ولكل عربة حمولة من نوع آخر مثل : اسقاط الاستبداد ، الديموقراطية ، التغيير ، الدستور الجديد ، شكل نظام الحكم ، سوريا الجديدة التعددية التشاركية ، حل قضايا القوميات المحرومة والمهمشة ، حل عادل توافقي للقضية الكردية ، حتى ممثلو الأمم المتحدة بشأن سوريا وضعوا ( سلالا ) حول مسائل أساسية مثل وقف اطلاق النار ، واطلاق سراح السجناء ، ووضع دستور جديد ، وإقامة مجلس حكم انتقالي ، وحل القضايا العالقة الاقتصادية ، والسياسية ، وبينها قضايا المكونات القومية والدينية والمذهبية .
قد اختلف مع الأستاذ – عبد النور – في بعض الجزئيات والتوصيفات ، وهذا امر طبيعي اذا كان الهدف التوصل الى الحقيقة السورية ، ولكن ماتضمنت مقالته بصحيفة – الشرق الأوسط – وهي بمثابة نداء الى الإدارة الامريكية الجديدة وبلغة تفهمها ، جاءت بوقتها المناسب ، حتى لو اعتبرنا انها لن تحرك ساكنا ، حيث تشير الدلائل على تباطؤ هذه الإدارة الديمقراطية – الاوبامية في تناول الحالة السورية كما يتمنى السورييون ، ومخاطر من تجاهلها لها لمصلحة التفاهم مع ايران واطراف أخرى بالمنطقة .
هناك من يأخذ على الأستاذ – عبد النور – صراحته في تعريف الحالة السورية ، وكأن المطلوب هو وضع الرؤوس بين الرمال ، أو إخفاء الحقائق عن الخارج ، وكأن الخارج بمؤسساته العلمية والبحثية ، لايعلم شيئا عن تاريخ سوريا ، والرجل لم يدعي انه يمثل السوريين في مقالته – ندائه ، بل ابدى وجهة نظره الشخصية وهو من حقه ، وهناك من – كبر – الموضوع الى درجة ان كاتب المقالة أباح تقسيم سوريا الى فيدراليات ، وكشف الغطاء عن المستور ، ( وهل هذه تهمة ؟! ) أي ان السوريين لاينتمون الى قومية واحدة ، او دين واحد ، او مذهب واحد ، وان هناك من المكونات القومية مثل الكرد من اقصي عن الشراكة ، وحتى عن الحياة السياسية لعقود طويلة ، وطبق بحقه العديد من المشاريع والمخططات العنصرية من بينها تغيير التركيب الديموغرافي لمناطقهم .
لست هنا بمدافع عن جميع مواقف الغرب من أوروبيين وامريكان ، ولكنني أقول أن لأعمال – المستشرقين – وتقارير مراكز الأبحاث والدراسات في بلدان أوروبا وامريكا وروسيا ، أفضال كبيرة على شعوب الشرق ، لقد عرضوا في مؤلفاتهم الحقائق بخصوص الشعوب ،والاقوام ، والاعراق الكبيرة والصغيرة ، السائدة ، والمهمشة ، وكانت دراسات غالبيتهم تتسم بالعلمية والموضوعية ، من دون انحياز الى هذا الجانب أو ذاك ، في حين ان معظم مثقفي القوميات السائدة في الشرق الأوسط ، يميلون الى مواقف الطبقات والفئات الحاكمة ، والاذعان للنزعات الأحادية الشمولية ، التي تنفي الاخر القومي والديني والمذهبي المختلف وجودا وحقوقا ، بل ويغضون الطرف عن الازمات ومسببيها إرضاء لاولياء النعمة .
نعم نجد الان بين المثقفين السوريين وخصوصا من الوطنيين الليبراليين ، من يرى بعد الزلزال الحاصل ، وجوب البدء بمرحلة جديدة غير تقليدية في إعادة بناء سوريا الجديدة ، بتعريفها ، ونظامها السياسي ، وشكلها ، ومضمونها ، ودستورها وكافة مناحي حياة مكوناتها وصولا الى ابرام العقد الاجتماعي السياسي الجديد للعيش المشترك في اطار التنوع والمشاركة بالقرار ، ونجد بالمقابل من فئات مثقفة أخرى الدعوة الى العودة الى سوريا القديمة باحاديتها الثقافية ،بإضافة بعض الرتوش المموهة مثل تعبيرات المواطنة الكاملة أو ماشابه ذلك وعلى الأغلب سيستمر هذالتجاذب لحين إزالة الاستبداد .
تراث الاستشراق الغربي وثقافة الأنظمة الأحادية في المشرق
وعلى سبيل المثال منذ سيطرة حزب البعث على مقاليد السلطة في البلاد ، تم تكليف – المكتب الثقافي بالقيادة القومية – بالاشراف على اصدار كتب التربية والتعليم في المدارس والمعاهد والجامعات ، ووضع المناهج الدراسية ، وصياغة تاريخ سوريا من جديد من خلال كوادر وكفاءات حزبية مؤدلجة ، ومنع المطابع من اصدار أي كتاب من دون اذن الأجهزة الأمنية التي بدورها تراجع المكتب الثقافي ، وقد أدى كل ذلك الى جمود الحالة الثقافية ، وتربية الأجيال بتاريخ مشوه لاصلة لها بحقيقة الشعب السوري ومكوناته الوطنية الاصيلة ، وأمام ذلك تحولت نتاج المستشرقين ، ومراكز البحث الغربية ، والسوفيتية – سابقا – الى المصدر الموثوق حتى بشأن تاريخ بلادنا ، وعناصرها القومية والدينية المتنوعة .
مثال آخر فقد منع مكتب الثقافة في القيادة القومية من خلال تعليمات الى أجهزة الامن ، والسلطات الإدارية التنفيذية الى منع استخدام كلمة – الكردي – في أي مجال كان ، ومنع تسمية الولادات بالاسماء الكردية ، ومنع التكلم باللغة الكردية في الدوائر الحكومية ، والتكتم على كل مايشير الى الكرد في المتاحف ، وقد روى لي الصديق د أسعد عبد الرحمن القيادي الفلسطيني خلال فترة ادارته لمؤسسة شومان في العاصمة الأردنية عمان ان المؤسسة قامت بطبع كتاب حول صلاح الدين الايوبي من ثلاثة أجزاء وبعد انجاز الجزئين الأول والثالث امتنع – المكتب الثقافي بالقيادة القومية – منح المؤسسة الجزء الناقص وصادر مخطوطته بحجة صيانة الامن القومي .
كما اعتقد أن التجربة المريرة الطويلة في الحروب والمواجهات الدموية بين الاقوام والمذاهب لشعوب أوروبا التي دامت قرونا قد علمتهم دروسا ثمينة في مجال الاعتراف بالاخر وجودا وحقوقا ، ونعمة العيش المشترك بسلام ووئام بين المختلفين قوميا ولغويا وثقافيا ، دفعت مفكريهم وباحثيهم ، ومستشرقيهم ، الى كتابة التاريخ بموضوعية ، وتسمية الأسماء بمسمياتها ، ومنح مسألة الاختلاف القومي والديني والمذهبي حقها ، واتباع المنهجية العلمية الموضوعية في سير أحداث التاريخ ، انطلاقا من تسليط الضوء على الانتماءات تلك ، وإعادة أسباب الصراع في الشرق أو الجزء الأكبر منها الى اضطهاد الاقوام السائدة للاضعف منها ، والحملات الدموية واعمال الإبادة ، والغزوات ذات الطابع الديني والقومي التي تزخر بها تاريخ المنطقة شاهدة على ذلك .
الى متى سيظل القطار السوري المثقل بالعربات متوقفا ؟[1]