خرافة الدولة الوطنية في الشرق الأوسط 1/2
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 5134 - #16-04-2016# - 20:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
سلسلة معقدة وطويلة من الشعارات والأطروحات، سايرت عملية تشكيل مفهوم الدولة الحديثة الدولة الوطنية بحدود جغرافية لا تنتمي إلى أية أسس ديمغرافية أو تاريخية، أو قومية أو مذهبية، حاول العرب المتسلطون على الحكم بعد الاستقلال، تشكيلها وأسنادها على خلفية ما تركه الاستعمار الكلاسيكي من تقسيمات للمنطقة، للهيمنة على النسيج المعقد والمتعدد الألوان والأشكال، بعد التعتيم على الإشكاليات المتناقضة ضمن المجتمعات التي حكمتهم الدول المستعمرة، ودمجتهم تحت صيغ واهية، ليحصلوا على غاياتهم.
هذه الظاهرة كانت نتيجة مراحل زمنية سريعة، بدأتها الثورة العربية الكبرى، والتي حاول قادتها أحياء القومية على حساب البعد الإسلامي، أو تسخير الإسلام السياسي لغاياتهم القومية، ولم يتخلفوا في طلب المساعدة من الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا للتحرر من الخلافة العثمانية الإسلامية كما كان يقال! لكنهم وفي فترة قصيرة، أخفوا الطموحات القومية بغطاء الوطنية، المطروحة نظريا والعامل عليها بشكل فعلي المستعمرين البريطاني والفرنسي في المنطقة، لأن التعامل على السوية الوطنية لاءمت مصالحها الاقتصادية، وسهلت لهم عمليات الهيمنة. أدرك زعماء الحركة القومية العربية هذه المعضلة، وانتبهوا إلى أنه بإمكان بريطانيا وفرنسا، تشكيل دول وجغرافيات مستقلة للشعوب والطوائف غير العربية في المنطقة، وإعطاء أصحاب الأرض الحقيقيين حقوقهم القومية، لذلك حاولوا تدارك هذه المعضلة، فقاموا بالالتفاف حولها، وتضليل الشعوب والطوائف غير السنية، والمسيحيين، ونشروا الشعارات الداعية للمفاهيم الوطنية، ولبسوا عباءتها، مخفيين تحتها التعصب القومي، وركزوا على مشاريع بناء الدول على الأسس الوطنية، فقد وجدوها أسهل الطرق في استغلال الشعوب، والسيطرة على جغرافياتهم، ونهب خيراتهم، وتحريفهم عن مطالبهم القومية. لم تدم هذه الخدعة، بعد الجلاء، حتى كشر قادة الأحزاب العربية القومية وغير القومية عن حقيقتها، وبرزت غاياتها القومية على السطح، ولم تساعدهم كل الشعارات الوطنية، إخفاء التعصب والانزياح القومي العربي، وتبينت أساليب تسخيرهم الإسلام السياسي للعروبة، وكل ذلك دون التخلي عن الشعارات والدعوات المضللة حول البعد الوطني لبناء الدول، كسوريا ومصر والعراق، ودول شمال أفريقيا، لتمرير أجنداتهم بين الشعوب الأخرى.
علماً أن الشرائح العربية المتسلطة على الحكم، أدركت بأن تكوين الوطن، الجغرافي العشوائي، المتكون من القوميات والمذاهب والطوائف، المتنافرة بين بعضها إلى حد القطيعة والعداء، تحتاج إلى صدق نية وإخلاص في التعامل، والتفاني من أجل الجميع معاً، وهو ما غاب عن جميع الذين نادوا بالوطنية دون القومية ورضخوا لحكم الدول القومية العربية فعلا والوطنية شكلاً، وبرؤساء عرب كانوا خاليين من جميع الصفات الوطنية. وللعلم فإن إسرائيل، تعتبر الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط المبنية على المفاهيم الوطنية، والركائز الديمقراطية الصادقة، وهي من أحد ركائز قدرتها على مواجهة الدول العربية والإسلامية الغارقة في الاستبداد والفساد.
لا شك أن نزعة الانتماء إلى الوطن، حالة مثالية تندرج ضمن النتاجات النهائية للثقافة الحضارية، والمفاهيم الوطنية، مجردة من القومية والطائفية، والمفهوم أو المطلب من أحد أرقى المراحل التي تبلغه ثقافة الشعوب، الطامحة لتكوين الوطن المشترك. وإذا كانت الغاية نزيهة، وثقافة المطالبين بها نقية، وكان الطموح جديا خاليا من النفاق، فسيكون من السهل القضاء على التناحرات العرقية أو المذهبية، وخلق المساواة بين الشعوب ضمن جغرافية سياسية واحدة. ومن الأسباب الرئيسة في عدم بلوغها، في دول منطقة الشرق الأوسط، لأن الشروط الضرورية لإنجاح المسيرة لم تكن موجودة في السلطات الحاكمة وشعوبها، وخليت فيهم حب الانتماء الصادق إلى الوطن المطروح، ولم يمتلكوا الشروط الدنيا من الوعي الثقافي الحضاري، والفكر الحر المؤمن بالنسبية، وحقوق الأخر، وغيرها من المفاهيم الإنسانية. وللأسف جميع السلطات وشريحة واسعة من شعوبها، وخاصة المهيمنة، أو التابعة للسلطات، والتي عملت بشكل حثيث على تلقينهم أفكارها ومفاهيمها الشاذة والموبوءة، افتقرت وتفتقر إلى تلك الشروط المذكورة، فكانت النتيجة انهيار المفهوم المطروح، والكوارث الناتجة عنها. وعبثت تلك المجموعات المتخرجة من أحضان تلك الأنظمة، بالشعوب وبالمنطقة، وهم من الكثرة بحيث يمكن إيجادهم على المواقع الإلكترونية، وفي الإعلام، وضمن المعارضة، بل وفي معظم الأماكن التي يمكن الاشتراك في التدمير الخلقي والثقافي للمجتمع، ومهماتهم تمتد من تشويه تاريخ الشعوب الأخرى كالشعب الكردي والأمازيغ والقبط، إلى المواجهة السياسية والمسلحة.
وتحت مفاهيم التمدن والتقدم من جهة، والاشتراكية من جهة أخرى، والمفهوم المتشكل حديثا الوطنية والمدموج مع السابقة لاحقاً وبأساليب مزيفة، ظهرت موجة فكرية بين الأحزاب السياسية في الشرق الأوسط، وتقدمتهم الأحزاب القومية، كالبعث والناصرية والمشابهة لهما، وإلى حد ما أتبعتهم الأحزاب الدينية كالإخوان المسلمين، لتشكيل دول، سميت بالعصرية أحيانا، والوطنية أحيانا أخرى، لغاية السيطرة من جهة، والتغطية على نزعتهم القومية والمذهبية من جهة أخرى، وعملوا من تحت خيمتها على ترسيخ ثقافة السيادة، وهيمنة العرق والطائفة المنتمية إليها، والحاضرة في ذاكرتهم الاستبدادية، فلم تكن تنفصل كلمتي العروبة أو العربية عن معظم المصطلحات الفكرية التي تعرض أسم سوريا أو العراق أو مصر كدول أو جغرافيات وطنية. وبذاك المنطق شوهوا المفاهيم الوطنية ومعانيها، والغاية منها إخراجها من سياقها الحقيقي بأساليب خبيثة، لتخدم مصالحهم القومية، والتي كان من الممكن أن تنجح لولا طغي العنصرية، والاستبداد، وبالعكس خلقوا الأحقاد بين الشعوب التي احتضنتها تلك الجغرافيات، إلى الدرجة التي يمكن تسميتها بالأوطان الفاشلة والوهمية.
المذنب الأول والأخير، في هذه الفشل الذريع لتكوين الدولة الوطنية والدمار الخلقي والثقافي لمجتمعاتنا، هي الأنظمة التي سيطرت على دول المنطقة، كسلطة البعث والأسدين، والسلطات المتعاقبة على العراق، ومثلها في تركيا الكمالية وإيران الماضية والحاضرة، والشرائح الكثيرة والمتعددة الاختصاصات المتخرجة من مراكزهم التثقيفية. فكل ما فعلوه، من وراء خيمة الوطن، كانت تسخر لاحتكار السلطة، ونهب خيرات تلك الجغرافيات، ومحاصصتها مع تلك الشرائح، والذين يساندونهم بانتهازية، ومن بعدهم شعوبها دون الأخرين...
التتمة في الحلقة القادمة.
[1]