الكرد دعاة حرب أم سلام؟ 1/2
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 5126 - #07-04-2016# - 08:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تمهيد
ثقافة الأديان
عرضت الأديان السماوية علاقات الإنسان بجريمة، ورشوة، وحب ملوث بالخداع، وجعلتها محور تناقضات وصراعات فكرية، آمنت بها الأغلبية، رغم تناقضها مع نزعة المجتمعات الحضارية. والرواية، إن كانت إلهية، لها تأويلاتها البشرية، وإن كانت إنسانية، حرفت وطورت، بعدما استسقيت من أساطير الشعوب والحضارات السابقة، لكنها ظلت تعكس جانب الشر في ثقافاته، رغم كل التعديلات والتشذيبات، وتثبت بأنها مخلوقة أكثر هي مولودة مع تكوين الإنسان ذاته.
ففي المفهوم الأول، لا يتقبل العقل البشري، بأن يخلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ومعه مورثات الجريمة، ويقتل نصفه الأخر في أول ظهور له على سطح الأرض، ليصبح العنف، ومنذ بداياته، ركيزة ثقافاته. وفي المفهوم الثاني، تشمئز منه، العقل الباطن لأغلبية البشر، مع ذلك ثبت كتاريخ وأساطير فكرية نسخها رواد الفكر الأول، طورت ورسخت من قبل شريحة عرفت كيف تتحكم بأمور المجتمعات، لتسود وتطغي.
بنيت ثقافات الشعوب، على ركائز وخلفيات متنوعة، منها العوامل الطبيعية، وتأثيرات البيئة، لكن كانت ولا تزال هيمنة الأديان أعمقها وأشملها، فعلى هداها سارت الشعوب، وتبدلت مفاهيم الإنسان وأخلاقياته، وتحت سيطرتها، غيرت المجتمعات من ثقافاتها المتأثرة في معظمها بديانات سابقة، وعلى مر التاريخ، وأخرى تمكنت من التلاؤم، ومزجت بين الموجود والقادم إلى أن شذبت المجتاحة حديثا على مراحل القديمة.
جميعها تشابهت في التكوين الثقافي للإنسان، وحملت في ذاتها مبادئ الشر والسلام معاً، ودمجت بين طرفي الميزان الأخلاقي له، وفي مراحل من تطورها وسيادتها، سيطرت شرائح خلقوا دروب متعرجة في مفاهيمها للهيمنة على الشعوب، وتحكموا بمسيرة السلام والعنف حسب رغباتهم.
نادرا ما تلاءمت الشعوب مع الاجتياحات، وهيمنت عليها الرخاء والاستقرار، معظمها رفضت السلطات المتخفية تحت عباءة الدين، وثارت على مدى قرون متتالية، جابهت العنف المستخدم من قبل مستغلي الأديان، فسادت الحروب، وبالمقابل عبثت الشرائح النازعة، والمتأثرة بمنطق الغزو، بالمجتمعات، نهبوها بقدر ما دمروا ثقافاتها، واستندوا في عبثتهم على تأويلات النصوص الدينية، وفرضوا ثقافاتهم الاجتماعية أكثر مما نشروا مفاهيم الدين، ومعظمها كانت لغايات ذاتية دون الروحانيات، وما ظهرت في الأوطان من المعرفة الدينية، معظمها بنيت على الدراسات والبحوث الذاتية.
والتفسيرات لتلك النصوص تنوعت، حسب ضرورات المرحلة، والخلفيات التاريخية، والثقافات السابقة. ومن المعروف أن روادها وملهميها ركزوا في بدايات النشر والدعوات، على مفاهيم السلام والرحمة كطريقة مثلى ووحيدة لتشذيب المجتمعات التي ظهرت من أحشائها، وبدأوا بخلق ونشر أفكار وعبادات تستند على الطرق السلمية في الدعوة، وعملوا على هداها بتهذيب أو تغيير الثقافات السائدة.
كانت المواجهات قوية وعنيفة، فاضطروا، عند تكون القوة الذاتية، إلى تسييج دعواتهم بمظاهر دفاعية، لحمايتها، ونشرها، فطغى منطق العنف على السلام والهجوم المضاد على الدفاع، لإرضاخ القوى المعادية، فمزجوا القوة مع السلام وبكل أشكالهما، ودعموهما بنصوص مقدسة تتضارب والأولى، لمواجهة رد الفعل العكسي. أستغلها اللاحقون، وسخروا الحقائق التاريخية تلك على هدى تفسيراتهم، كإثباتات مادية لإسناد ما هم قادمون عليه، ففعلوا البشائع، وطغوا بالعنف، وطمس المفاهيم السلمية قدر المستطاع، وعليه نشروا الثقافة الملائمة لطموحاتهم، وشرعوا السيوف لفرض ذاتهم وسلطانهم قبل فرض سلطان الله.
وعلى خلفية هذه التناقضات والتضاربات البنيوية، ظهرت مفاهيم جدلية عديدة بين الواقع والروحانيات، ونستنتج منها بأنه: لو عاش السيد المسيح لعقود أخرى وانتشرت ديانته في أجواء السلطة الرومانية وهيمنة ملوك اليهود التابعين لهم، لانحرفت مفاهيمه من السلام والمحبة إلى استخدام العنف، كأفضل الطرق للبقاء ومواجهة الأعداء ونشر الدين. وبالعكس، لو تمكنت أفخاذ قبيلة القريش من قتل محمد(صلى) عندما أتبعوه في رحلة الهجرة، لظل الإسلام كالحد الديانات الباطنية، مغلقة، ضمن منطقة جغرافية ديمغرافية ضيقة، أو لانتشرت كديانة تبشيرية خالية من العنف، ولما وجد الخلفاء من بعده، أي مسند نصي، أو فعل تاريخي، يحفزهم على أسسها استخدام العنف والغزو والسبي وغيرها لنشره.
يظهر هذا التنوع والتناقض بكل تجلياته، ودون تفسير نقي لمألاتها وأسباب ظهورها، أو للخلفيات التاريخية التي دفعت بملهميها الاستناد إليها في بداية التكوين، في المسيرة والأعمال التي قام به اللاحقون، والثقافة الاجتماعية التي نشروها، ونزعاتهم الشريرة، وخلقهم الحروب المتتالية. ومنهم الشريحة الذين حرفوا في الديانة المسيحية، والذين استخدموا الإسلام سياسة لا دين، والسيادة الإلهية حجة، والنص القرآني العنفي مرجعاً، وسبقهم شرائح مماثلة ضمن الأديان الغابرة، الذين نشروا العنف في أصقاع الأرض، مغيبين قدر الإمكان المفاهيم الجانحة إلى السلام والرحمة، والتي تعرف الأديان ذاتها به.
ما فعله المتسلطون على الأديان
عندما يتعرض النقاد إلى البحث ودراسة الثقافات، ويدرجون الأديان كأحد المؤثرات الرئيسة، لا يكتفون بالتفسيرات المباشرة للنصوص، بل يبسطون تأويلاتهم الذاتية أو الجمعية لبلوغ غاية ما، وكثيرا ما تشتد حدة الخلافات، بشكل خاص، عند عرض المفاهيم والتاريخ، ويخلطونها دون التمسك المطلق في الإشكاليات الأولى للظهور.
المتسلقون على الدين كانوا وراء ظهور التناقضات العميقة بين النظرية والتطبيق، وأن الأغلبية حاولوا الدمج بين مفاهيمها وثقافة المجتمعات الظاهرة منها وفيها أو سادت عليها، فسببوا في ظهور المعضلات الكبرى أثناء المسيرة، المؤدي إلى تضاربها مع تكوين البنية الحضارية الفكرية، والجدلية هذه، عميقة بحد ذاتها، فقد كانوا يطمحون إلى السيطرة والاستبداد، لذا فبعضهم بنوا إمبراطوريات دموية، دون حضارات، وكثيرا ما تمكن المتسلطون من التعتيم على هذا الانحراف الثقافي، مستخدمين أبشع الأساليب، أريقت في دروبها، وتسخيرها لنزعاتهم الشخصية، دماء غزيرة، تحت حجج متعددة، منها واهمها، على أنها تعكس رغبات الألهة، وترسخ إرادته، ونشروا في شعابها ثقافة موبوءة، خدمتهم دون الدين وثقافة السلام، ولهذا ظلت ثقافة الأديان غير خلاقة وقادرة على تكوين الحضارات، ولم ترقى ثقافاتها إلى سوية الثقافات الحضارية.
الاستثناءات قليلة، لكن معظمهم مذنبون بما حل بالبشر من الكوارث، ولا يقل عنهم تدميرا للبشرية وثقافاتها، قادة الإيديولوجيات الشمولية، فبقدر ما أعاقوا بناء الركائز الحضارية، خلقوا الكوارث البشرية، والمآسي الإنسانية، ومن الغريب أن معظم التجليات الحضارية والتطورات الإنسانية تظهر بعد الكوارث التي سببها الطغاة والدكتاتوريون، وكأن جدلية التطور البشري متلازمة مع الصراعات الدموية.
فمعظم الثقافات، نتجت من خلف حركة رواد، أفراداً قادوا التاريخ الروحي أو المادي، لهذا فتعامل المجتمعات تعكس علاقات الإنسان الفردية، والاختلافات متشابهة في كليته، ورغم أنها ليست حالة مطلقة، لكنها سائدة، فنزعة العنف والسلام، هي ذاتها ما بين سيكولوجية الفرد والمسيطرة على المجتمع.
ولا شك أن جميع الأديان، اصطدمت في بداياتها، أو تناقضت وثقافة الأمم والمجتمعات، التي تعرضت لاجتياحات الشعوب التي ظهرت من أحضانها الأديان، إلى درجة أن بعض مفكري الشعوب المجتاحة، تعمقوا في التأويلات لتتناسب وثقافتهم الأصلية والمفاهيم والعادات التي ظهرت مع الغزاة، وبعضهم تلاعبوا أو تعمقوا في التأويلات لتفسير النصوص المفروضة عليهم بقدسية إلهية، ليتمكنوا من العيش مع القادم الفكري. ...
يتبع...
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]