غايات طمس التاريخ الكردي- 1/2
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 5038 - #08-01-2016# - 07:18
المحور: القضية الكردية
لا يحق للكرد على عتبات معاناتهم، مطالبة العدو بالإنصاف، من النادر أن يكون العدو عادلاً. فلم يكن عبثا، عمليات التعتيم الذي قامت به السلطات المستعمرة لكردستان، والتشويه المخطط لتاريخهم، يدركون قدراتهم، وإمكانياتهم، منذ قرون، فرغم جروحهم التي لم تلتئم يوما، وظروفهم القاسية المتضاربة، أظهروا للمستعمرين قوتهم الكامنة، بنضالهم الذي لم يخمد يوما، وهو ما أدى بالأعداء إلى عدم التهاون لحظة في نهش تاريخهم، وهدم ما يستطيعون عليه، وتمهيدهم المسبق للمراحل القادمة، كالجارية، والملائمة لتحريرهم. لقد كان وراء طمسهم للتاريخ الكردي غايات، ساعدتهم على ترسيخ استعمارهم الديمغرافي والجغرافي، وهو أبعد وأعمق من الاستعمار الآني، لذلك وكمخطط استباقي بنوا قوى متنوعة لمواجهة المراحل القابلة لتكوين دولة كردستان المستقلة واستمرارية استعمارها.
خططت السلطات الاستعمارية مسبقا، وكانوا جاهزين لمواجه المرحلة الجارية، مرحلة بروز الكرد على الإعلام العالمي، وظهورهم بميزاتهم الثقافية المغايرة، وخاصة عندما بدأت الدول الكبرى تعترف بأهميتهم، وتتعامل معهم كقومية منفصلة، فسخروا لها طرق ومؤامرات بتكتيكات نوعية مدروسة، اشتركت فيها جميع السلطات، كمخطط عدم التعامل مع الكرد كقومية لهم خصوصياتهم، أو كشعب له ركائزه وماهيته، واتفقوا على تغييب كردستان كجغرافية، من المصادر والوثائق التاريخية، وركزوا على عمليات النهب المسبق لخيراتهم، مع إبقائهم في عوز دائم.
بدلوا عمليات التهميش الكلاسيكي بمخططات عصرية، وانتقلوا من واقع التعتيم إلى التهميش أو المعاداة المباشرة تحت غطاء الوطنية، عندما تأكدوا من بروز الشخصية الكردية في العالم، وانتشرت على الإعلام ركائزهم التاريخية، وتوضحت ماهية كردستان، وعلاقات الكرد بالحضارات القديمة، كالسومرية والميتانية والميدية وغيرهم، وعندما انتبهت السلطات الاستعمارية إلى التناقضات بين شعوبهم المستعمرة لكردستان وشعوب كردستان الأصلية، استخدمت الغطاء الوطني.
لا شك أن الشعوب التي افتقرت إلى المخزون المعرفي، وسادت فيهم الضحالة الفكرية وثقافة العنف، حفزتها، أو الشريحة الطامحة بينهم لإبراز الأنا، إلى السرقة الثقافية من جهة وطمس منابعها من جهة أخرى. والشظف المعيشي، المرفق مع انعدام المفاهيم الحضارية، تدفعهم إلى النهب وتدمير ما لا يتمكنون من نهبه، كالعمران أو الفكر، والثقافة، والمظاهر الحضارية الأخرى. خروج القبائل العربية الجاهلية من الصحراء، وما فعلته بالشعوب المجاورة وحضاراتهم، عكست تلك الظاهرة، الذين كانت غاية غزواتهم، المغطاة بكلمة الجهاد، النهب للخلاص من الفاقة والعوز المعيشي، وهمشت حينها عندهم دوافع الإغناء المعرفي الحضاري، مع عدمية التفكير بالبناء عند الاجتياحات، وبقيت طرق المعيشة مستندة على الغزو، ولم تحفزهم التوسع الجغرافي على الإتيان بجديده لتطوير البنية المؤسساتية أو الهيئات المكونة للدولة أو المنظمة، وطغت عليهم الاقتباس المعرفي أو الطغي على الموجود. وللاحتفاظ بالمنهوب كملكية ذاتية، كان لا بد من التعتيم على ماضي الشعوب المستعمرة، وإزالة الأثار السابقة للحضارات التي دمروها، وهذا ما حصل لشعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كالأمازيغ والسريان والأراميين والكلدانيين والكرد، وغيرهم، المنهوبة تحت راية الإسلام، واستمر على نهجهم فيما بعد الفرس والترك، والسلطات التي حكمت المنطقة منذ بدايات القرن الماضي.
آفة النهب والتدمير موجودة منذ بدأ تكوين الحضارات، ابتليت بها معظم الشعوب، طبقتها القبائل العربية الجاهلية في بدايات الإسلام، غزت الشعوب المجاورة، فمثلما نهبت الغنائم وسبي النساء، وأرضخت الشعوب لإسلامها ولغتها، نهبت حضاراتها، ودمرت ما لم تستطع نهبه، ومن بينها الحضارتين الساسانية أو حضارة الشعوب الأرية، والحضارة البيزنطية-الرومانية، ودمرت تاريخ معظم شعوب المنطقة، ومن بينهم الشعب الكردي، وبشكل ممنهج، وحاولوا تشويه ثقافتهم الدينية الماضية، والحضارية المدنية، استمر على نهجهم سلطات الشعبين الفارسي والتركي، وتحت مفاهيم المذهبين، الشيعي والسني، فعتموا على ماض الكرد وحاضرهم لفترات زمنية طويلة.
تكالبت على هذه المسيرة الإنكارية، معظم السلطات الإسلامية أو القومية، طمسوا المعالم الحضارية للشعب الكردي، جردوه من تاريخه، وخلفياته الثقافية، وحضاراته، إلى أن أصبح العديد من الكرد مشكوكين بماضيهم، وبذاتهم كقومية لها جذورها، علما بأنها الأقدم بكثير من ظهور الشعوب الغازية لكردستان.
ورغم رسوخ الشعب الكردي، وديمومة أسم كردستان والشعب الكردي في المحافل الدولية سابقاً، وحالياً، كأحد أكثر الشعوب تعدادا في المنطقة، وينتشرون على مساحة جغرافية أوسع من جغرافية معظم الشعوب المجاورة، لم تقف عمليات الإنكار والتلاعب بجغرافيتهم وديمغرافيتهم، وقضيتهم، ويستمر الأعداء وبمؤامرات مشتركة على الدحض، وفرض عمليات التعتيم، ومحاولات تغييب قضيتهم عن محافل الدول الكبرى. وما يحفزهم على تكثيف جهودهم تلك، بروز اسم كردستان اليوم ضمن القضايا الاستراتيجية في المنطقة.
لسهولة انتشار المعلومات، برزت جغرافية كردستان، وخرجت من العتمة لتصبح أحد أهم المسائل التي تجرى عليها النقاش في منطقة الشرق الأوسط، كثفت الدراسات حولها، وأعاد الخبراء والمهتمين بالبحث فيها من جوانب كانت غائبة عنهم، واقتنعت الأغلبية بانها مهد أوائل الحضارات في المنطقة، وأن شعوب تلك الحضارات هم أجداد الكرد الأولين، مع أسماء متناوبة ومتنوعة حسب اللغات التي استخدمت في المنطقة، والشعوب التي تتالت بالسيطرة عليها...
يتبع...
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]