ماذا فعل المربع الأمني بالعامل والمستثمر الكردي-الجزء الأول
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 4782 - #20-04-2015# - 00:32
المحور: القضية الكردية
ملاحظة: هذه الحلقات بحوث فرعية للسلسة التي تصدر تحت عنوان (ماذا فعل المربع الأمني بغربي كردستان؟)
من طبيعة الإنسان، القدرة على التأقلم مع الظروف الطارئة له، ويتلاءم معها، ليستمر في البقاء، إن كانت تلك: بيئية كالتغييرات المناخية أو عضوية كالأمراض المزمنة وبتر الأعضاء أو فقدانها، أو ذات مصدر بشري كالحروب والاستغلال القهري والعيش في ظل الاحتلال وغيرها، بشكل، يكاد لا يلاحظ عليه، وما يبدو كأنه يهنأ بالرخاء والعيش الرغيد. فتتحول المعاناة والظلم والقهر إلى أمور متحملة لديه نفسيا وجسديا. هذا لا يعني أنه لا يطمح أو يسعى إلى العيش في واقع رخاء حقيقي. والكرد من ضمن الشعوب الأكثر اضطراراً على التأقلم مع المعاناة وقساوة الأوضاع، فيتلاءم معها سياسيا واقتصاديا.
المجتمع الكردي في جنوب غربي كردستان، مر بمراحل عصيبة، لا تقل عن أجواء الحروب، مع ذلك تأقلم معها، للحفاظ على الذات، ولم تثنيه تلك عن الصراع مع الفاعل، والاستمرار في البقاء. والنهل، بقدر المسموح والمتوفر، من الانعكاسات الحضارية. تلقى وبمقدرة خارقة القوانين الاستثنائية والضغوطات الاقتصادية والسياسية المفروضة عليه من قبل السلطات العروبية المتتالية، بدءا من الناصرية مرورا بالبعث إلى بشار الأسد ومرسومه الجمهوري ذي الرقم 49 في 10/9/208م، والذي استهدف القضاء على الوجود الكردي في المنطقة، ضمن تنفيذ البنود الواردة في مخطط محمد طلب هلال. ورغم البرامج العنصرية المتواصلة بحق الكرد، تمكنوا من الصمود أمامها، وإبطاء مخطط التغيير في البنية الديمغرافية والاقتصادية للشعب الكردي إلى حد ما.
إلى جانب السلبيات التي كانت هي غاية تلك السلطات لتؤدي إلى تفاقم العوز والحاجة اليومية والمعاناة الكلية للشعب، والمرافقة مع الصراع السياسي-القومي، ظهر صمود الشعب الكردي الخلاق حيالها، ففاجأت توقعات السلطات العروبية مبرزة شريحة نوعية من الطبقة العاملة الماهرة، والقادرة على العمل في أجواء مثل تلك، لتشمل كل المجالات الاقتصادية الحيوية، تحديدا البنية التحتية. وبالمقابل ظهرت شريحة مستثمرة كردية وطنية متمكنة، توسعت وبقدرة متكاملة على ضخ سيولة مالية ملبية لمستلزمات تطوير المنطقة والبناء في عدة قطاعات اقتصادية. كما وانتقلت شريحة واسعة من الفلاحين والإقطاعيين الذين جردوا من ممتلكاتهم، إلى العيش في المدينة، امتلكوا وبفترة زمنية لم تتجاوز جيلين خبرة الاستثمار الرأسمالي واكتساب نهج الشريحة العمالية الماهرة. ولم يشذ عن هذا المثقفون وأصحاب المهن المتعددة. هذه الشرائح مجتمعة تمكنت من تشكيل تجمع مكتفٍ بذاته، لتعمل على تطوير المنطقة ونقلها من مجتمع زراعي معتمد على الداخل السوري إلى منطقة شبه صناعية بالغة بدايات مرحلة الاكتفاء والتكامل الذاتي.
تراكمت السيولة النقدية للممول الكردي الوطني في السوق المحلية إلى حد الاكتفاء وإمكانية تحريك الشارع التجاري، ومن خلاله الشعب الذي ران عليه نوع من الكسل والتلاؤم مع العوز. بدأ ينهض وبنشاط، فظهر تراجعا سريعا في البطالة المفروضة عليه من سلطة الأسدين، وتزايد الطلب على اليد العاملة ومن جميع المستويات، توسعت الحركة العمرانية في المدينة، وفي القرية. بدأت بوادر التوجه نحو استخدام الآلة بشكل واسع، وكادت تقضي على العوز والفقر اللذين خلقتهما السلطات السورية العروبية.
توسعت مدارك المستثمر الكردي، قوميا واقتصاديا، واندمج مع الطبقة العاملة الكردية، بالشعور الوطني، فكان يتعايش سابقا مع العوز، ويتلمسه، ومع ذلك لم ينزعا عنه العاطفة القومية الوطنية، رغم توسعه في الاستثمار بغية زيادة الثروة ظلت مشاعره القومية متوقدة. وفي التاريخ أمثلة عديدة على دور المستثمر الوطني في إسناد الشعب وإخراجه من محنه. وتنبهت السلطات السورية لهذا الدور الكردي الواضح، فعمدت إلى القضاء عليه وعلى الحركة العمرانية. ولولا تنبه السلطات إلى ذاك لظهر تحرك سياسي كردي في دروب غير التي تعودوا عليها. وما المراسيم الجمهورية المتتالية والسريعة التنفيذ، ومعظمها مرتبطة بالاقتصاد، والرأسمال الوطني، سوى دليل أكيد على مخاوف السلطة من دور هذا التجمع الوطني. لتبرير إجراءاتها هذه أضفت عليها الشمولية، إلا أنها في عمقها خصت المنطقة الكردية، وبالتحديد المستثمر الكردي والطبقة العاملة الكردية الماهرة، ولم تكتفِ بالشمولية تلك، بل تجاوزت فيما بعد إلى مراسيم وقرارات استثنائية خصت الحراك الكردي في صميمه، والشريحة المثقفة، والأحزاب السياسية المعروفة دروبها؛ لأن هذا النهوض المفاجئ كانت شاملة لامست جميع زوايا الوسط الكردي.
المرسوم الجمهوري رقم (49) كان أحد أقسى المراسيم التي قضت بشكل كبير على الحركة العمرانية وتلكأ الاستثمارَ الكردي الوطني، وخسارته، عادت بنتائج كارثية على المجتمع الكردي. تلتها مرحلتان سريعتان على الشعب الكردي في جنوب غربي كردستان: الأولى مرحلة الصدمة، ارتفاع نسبة البطالة بشكل غريب وفي فترة قصيرة جدا؛ حيث كانت في بداية تكون ذاتها وإنهاء فترة العوز والحرمان. وكان النهوض ما زال في بدايات التفكير والتشرب بمفهوم الادخار للمراحل القادمة، وعليه كانت الصدمة جسيمة وتأثير الثقل عليه ماديا وفكريا كبيرا. حامت الحيرة في الشارع الكردي عامة، توقف العمران، وازدادت الخلافات الاجتماعية من جميع النواحي بسبب البطالة والعوز المادي بعد النهوض القصير، وكان المخرج الوحيد هو الهجرة كأفضل الحلول المستنتجة، فحصلت حركة نزوح شبه جماعية من المنطقة، ولم يجد بداً منها، بل لم يكن من خيار آخر أو أفضل منه. بذلك أعادت سلطة الأسد الكرد إلى المربع الأول. هاجرت أعداد غفيرة من الشعب الكردي مناطقها، أدّى إلى تغيير في التوازن الديمغرافي للمنطقة. وغضت المراكز الأمنية للسلطة عيونها عن هذا النزوح الجماعي وسهلت لهم طرق الخروج من المنطقة، وحرّكتهم باتجاهين: هجرة إلى الخارج أوربا وإقليم كردستان الفيدرالي، وأخرى كثيفة إلى مدن الداخل السوري. تشكلت حينها مخيمات على أطراف المدن الكبرى، مع مراقبة السلطة الدائمة لكل حركاتها وتحركها. وغض الطرف عن ظاهرة التواجد الجديد لهذه التجمعات العشوائية حول العاصمة وحلب واللاذقية وغيرها. وهناك اُضطروا إلى العمل ليس كعمال مهرة، بل كأجراء ومعظمهم في قطاع الخدمات، وبأدنى الأجور، ليستمروا في عوز دائم، وألا يتمكنوا من العودة إلى مناطقهم أو مساعدة ذويهم ممن بقوا في أرضهم.
خسر المستثمر الكردي في هذا الواقع ما ادَخره، وكذلك قوته المادية...
يتبع...
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
MAMOKURDA@GMAIL.COM
[1]