الأمة الديمقراطية طمسٌ للقومية الكردية
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 4746 - #12-03-2015# - 22:36
المحور: القضية الكردية
الأديان السماوية نسخت بشكل أو بآخر الوصايا العشر التي أوصى الله نبيه لإبلاغها، كانت في البعد الميتافيزيقي متطلبات لموسى من شعبه مرفقة بمخافة الإله، كررها الأنبياء من بعده، عارضينها على شعوبهم في الظاهر، لكن في باطنها كانت متطلبات قائد بصبغة إلهية، أو محاورة بينهم وبين إلههم، الذي يساوي بين البشر، رغم ما قالوه عن ذاتهم، بأنهم أخياره من بين الشعوب. وبعد قرون من هذه، خرجت خير أمة للناس. لم تكن تلك الوصايا سوى نتيجة معاناة شعب (اليهود) حيال ظروف طبيعة البشرية القاسية، ومعاملة الفراعنة الآلهة أو أنصاف الآلهة لليهود المستعبدين. ففرزت شريعة تريد الخلاص لشعب يعاني قساوة الاضطهاد. أراد موسى النهوض بشعبه بعد النجاة من بطش فرعون، وعلى أساسه وضع شريعة جديدة غايتها إزالة آثار عهد التبعية للفراعنة وبناء ثقافة ترتقي بالشعب إلى مصاف الشعوب المتميزة فكانت الوصايا العشر اللبنات الأساسية لهذه الثقافة أو ما سمي بشريعة موسى منسوبة إلى الخالق.
تبنى العديد من قادة العالم الثوريين والطغاة الدكتاتوريين نسخ هذه الوصايا أو قلدوها بما يتناسب وقناعاتهم وأملوها على شعوبهم أو على مستعمريهم، انتحلها البعض، وهم غارقون في الأوهام لبلوغ العلو. بعد تزايد تأثيرهم على المحاط من الشعب، من دون أن يقيموا وزنا للأخطار المحدقة بالشعوب جراء ما يفرضونه.
كان المؤسسون لحزب أل ب ك ك يشبهون مسيرتهم الفكرية بالمسيرات الإيديولوجيات الدينية منذ الانطلاقة. ورغم عدم وجود أوجه التشابه بين مطالب السيد عبد الله أوجلان من الحكومة الأردوغانية، وبين وصايا موسى، سوى أنها تفصح عن نزوح فكري نحو الشمولية، وعرض لأيديولوجية تطمس الجغرافية القومية الكردية، وتحقق الانتصار للقوميات المسيطرة، بعكس ما كان يطمح إليه موسى، وهو يسمو باليهود إلى مصاف الشعوب.
وعرض البنود بأبعاد غير محددة ومغلفة بضبابية مع حكومات واضحة، تأكيد لنزعة فكرية باستخدام طريقة الأبعاد الدينية، من حيث العارض والمعروض عليه. ورغم الفرق بين ماهية مطالب الشمولي المقلد للأيديولوجيات الإلهية وحكومات غارقة في الثقافة القومية اللاغية للأخر يتبدى مدى الانزلاق المهلك. ويبدو جليا مدى تأثير ظروف السجن على السيد عبد الله أوجلان وعزله عن الواقع العملي، كما يطفو على السطح جانب التأثر بالأبحاث الدينية الشمولية والمستسقاة من الدراسات النظرية دون الاحتكاك مع الواقع الموجود. إضافة إلى أنه في عرضه ينطلق من خصوصية الحزب دون الشعب الكردي وأهدافه، ويفصل الحزب عن الشعب، ويفضله عليه، مثلما فصلت وفضلت الأديان ذاتها عن وعلى شعوبها في البدايات.
غيبت الحكومات التركية كلية آراء الشعب الكردي، وعزلت الأطراف الأخرى من الحركة الكردية هناك، وعملت عليها مطولا وبتخطيط. فحصر القضية الكردية في تركيا بين حزب وحيد وحكومة مضطهِدة للشعب الكردي بكامله، طمس لبقية الحركة الكردية ومنع لحق الحوار معها، ومثلها تغاضي وحصر منظومة المجتمع الكردستاني حق الحوار في ذاتها يوحي بالتقاء الطرفين في هذا الدرب، وإعراض واضح عن القوى السياسية الكردية الأخرى. وهو في عمقه طمس للقضية الكردستانية والقومية الكردية المستغنية عنها بذرائع لا تتقبلها أغلبية الشعب الكردي. ونَسْيٌ مع الزمن بسبب الصراع الطويل والمهلك. إن الحوار الجاري بين قيادة منظومة المجتمع الكردستاني يشير إلى القفز من كردستانية الجغرافية وشعبها المستعمر إلى المطالبة بالأمة الديمقراطية، والإدارات الذاتية، ترافقه ازدواجية ما بين النظرية والعمل حول حقوق شعب، والمتخلية، وأي توصل بمعزل عن القوى الكردية الأخرى بشكل أو بآخر والتخلي عن مفهوم (كردستان الشمالية مستعمرة تركية) على أساس فرض الإيديولوجية الأممية الملغية للبعد القومي الكردي، يعد إفراطا بالقضية الكردية هناك. ورغم انشراح الأغلبية لعملية السلام، لكن المطروح وبهذه الشروط والبنود العشر لا تعكس آمال وطموحات الشعب الكردي، ولا حتى أهداف الحزب نفسه، الذي عانى وقدم التضحيات الجسام من أجلها، وهكذا بقي إنكار وجوده كقومية قائمة بذاتها مؤكدة.
البحث في عملية إلقاء السلاح يستند إلى شروط خاصة بالحزب وقيادة قنديل، فالمؤتمر القادم سيعقد في هذا الربيع، وسيحدد النتيجة، والفترة كافية لجس نبض الكثير من الأطراف، وخاصة الكردستانية، ولاشك فإن مجريات الأحداث داخل المؤتمر ستتأثر بالأبعاد الاستراتيجية في المنطقة وعلاقات الحزب مع القوى الدولية المحاطة، كالهلال الشيعي، ولا تخفى أنه هناك استراتيجية للبعض من قادة قنديل تخلق ازدواجية مع استراتيجية إمرالي حيث التقارب من الدولة التركية، والولوج في مؤسساتها، بأيديولوجية أممية، وعلى أرضية نظرية، المتناقضة مع علاقاتهم الاستراتيجية والتكتيكية المفروضة تحت ظروف النضال والعلاقات الدولية العملية في المنطقة. فيتناسى قنديل والسيد عبد الله أوجلان الثقل الكلي للشعب الكردي وأهمية إشراك الحركة الكردية بمجملها في عملية السلام، فالتفرد الحزبي، مهما عظم شأنه، يضعف جانبهم ويمد الدولة التركية بالقوة، عمليا، ورغم الانتقادات الموجهة إلى السيد عبد الله أوجلان والتشكيك في مصادر التصريحات، يعامل كشخصية سياسية بسوية محاوريه كأردوغان وداود أوغلو، لكنه وكما ذكر آنفاً، يبقى قائدا لحزب ويمثله، وليس للشعب الكردي ولا للحركة الكردية، وعليه سيبقى التعامل، ومهما ارتقى، محصورا في البعد الحزبي، وهنا تكمن إحدى سلبيات الحوار مع الدولة الأردوغانية، ولا شك لو كان الحوار على سوية الحركة الكردية عامة في شمال كردستان والدولة الطورانية لكان الوضع مغايرا، فحصره في إطار منظومة دون كلية الحركة الكردية إضعاف لماهية الكرد وثقلهم الديمغرافي والسياسي.
وعلى الأغلب ستستغل الحكومة التركية هذه المعادلة في القادم من الزمن كورقة ضغط على المنظومة كممثل لذاته وليس للشعب الكردي، وقد فعلها قبلهم الحكومات والسلطات المستعمرة لكردستان طوال القرن الماضي.
تنازل السيد أوجلان ذاته عن كردستانية الحوار مع الدولة التركية، والانتقال من مناضل قومي كردستاني إلى مناضل أممي يدافع عن الجميع، بقصد خلق إحراج للحكومة وللترك، لا يعود سوى بمردود سلبي على القضية الكردية. تحت مفاهيم الإيديولوجية الأممية والحداثة الرأسمالية، وموازاتها بمعاناة الكرد لن يستفيد منها السيد أوجلان، وبقدر ما هو تدنٍ لطلباته وشروطه وتجردها من التأثير على سياسة الإدارة التركية، تؤثر بدورها في البعد القومي الكردي، وتمرر للقوميين الترك الاستمرار في عمليات التعتيم على القضية. فحزب (الشعوب الديمقراطية) في اسمه وحقيقته الفكرية لم يعد حزبا كرديا ولم تعد المطالب كردية ولا برامجه تبقى كردية. وعلى الأغلب ظهرت هذه نتيجة لمخاض بدأت منذ تكوين الحزب، عندما كان قادته يشبهون ذاتهم بالصحابة أو تلامذة المسيح. فالأمة الديمقراطية في كثيره لا تستند على الأبعاد الإيديولوجية العلمية والنظرية الشيوعية بقدر ما هي متأثرة بالأديان السماوية عملياً.
وبغض النظر عن الشرخ الحاصل بين الحركة الكردية من جهة ومنظومة المجتمع الكردستاني من جهة أخرى، وبناءً على البعد والمنطق الأممي، كان الأولى بالسيد عبد الله أوجلان أن يطالب بتغيير أسم الدولة التركية (تركيا) إلى اسم أممي يشمل كل القوميات، التي تحتضنها تركيا الحالية، ولا شك الاسم مثبت بأحد بنود الدستور، ويركز على تركية الدولة، من المفروض الإلحاح الشديد بإعادة النظر فيها والمطالبة بتعديلها. فهل حزب (العمال الكردستاني) وحزب (الشعوب الديمقراطية) ستتجرآن على عرض هذا المطلب؟ وهل هذا المفهوم يخالف الإيديولوجية الأممية، المطروحة من قبل السيد عبد الله أوجلان؟ أم أنهم لا يريدون إثارة الحكومة الطورانية، الفاتحة أبوابها للطروحات الأممية على حساب القومية الكردستانية. وهل الكرد سيتخلون عن قوميتهم ليخلقوا أمة ديمقراطية على غرار الأمة الإسلامية؟
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]