ثامر الغزّي
1- المدخل
مثّلت الدراسات الاستشراقية حدثا لافتا في تاريخ الشرق، لابسبب المضامين التي كانوا يطرقونها أو المجالات التي كانوا يدرسونها، وإنّما كذلك (وربّما بشكل أهمّ) بسبب إدخالهم مناهج مستحدَثة، لم يعهدها المشرقيون في دراساتهم. وبقدر ما كان الاحتراز كبيرا على ما توصّلوا إليه كان الجدل حادّا حول مناهجهم وآلياتهم التّحليلية. وقد عمدت فئة من الباحثين في الشرق إلى إعادة قراءة تراثها بهذه المناهج أو ببعضها. وكان من بين هؤلاء شقّ من الكرد الإيزيديين وجدوا في هذه الأدوات التحليلية عونا على إجلاء النتائج التي يرومونها في معركة نفيه منسبة طائفتهم عقائديا إلى الديانات السماوية، خصوصا وأنّ هذه الطائفة صُنّفت على امتداد قرون عديدة ضمن الطوائف الإسلامية المارقة، وعوملت وفق ذلك الموقف.
2- أهم خصوصيات المنهج الاستشراقي
ينسب هذا المنهج إلى المستشرقين على وجه المجاز، إذ هم الذين طبقوه والتزموا به وسعوا في الظاهر على الأقلّ إلى عدم تجاوزه إلى ما عداه. ولعلّ من أبرز ما اشتهر به المستشرقون في أعمالهم إيلاءهم الجوانب اللغوية الاشتقاقية أهمّية بالغة في التعامل مع النّصوص، واعتماد الاستقصاء الميداني والاستعانة بالعلوم المساعدة الحديثة، وخصوصا ما فاضت به علوم الأنثروبولوجيا. وليست غايتنا في عملنا هذا تقديم المنهج الاستشراقي ولا استقصاء خصوصياته، وإنّما غايتنا الوقوف على مدى توظيف المفكّر الكردي الإيزيدي هوشنك بروكا لآليات هذا المنهج، سعياً منه لتأكيد عدم انتماء المعتقد الإيزيدي للدّيانات السماوية التي طالما رُدَّ إليها، وإنّما هو معتقد مرديّ محض. وسنكتفي بآليتين من آليات الاستشراق ونعني بهما البحث الفيلولوجي وتوظيف المناهج الأنثروبولوجية.
3-#هوشنك بروكا# والمنهج الاستشراقي
3-1- البحث اللغوي
أ– في المنهج الفيلولوجي: “طاووس/تاوز–طاوز/تموز” نموذجا
كان من بين أكثر الآليات اطّرادا لدى الإيزيديين عموما وهوشنك بروكا خصوصا استخدام الاشتقاق، وهم يعمدون لذلك حتّى يثبتوا أنّ أسماء مقدّساتهم ورموزهم ليست ذات أصول عربية،وأنّ التّشابه الواقع بين تلك الأسماء وما يوجد في اللغة العربية ليس إلا محض صدفة، وهكذا يرى هوشنك بروكا أنّ كلمة“طاووس ملك” (الذي يصحّحه العديد من مفكّريهم ب“طاووسيملك“) وهي اسم ملاكهم المقدّس مشتقة ومحرّفة من تموز، وتموز هو اسم الإله البابلي المقابل لمرادفه السومري دوموزي. وينبّه إلى التشابه الكبير على مستوى الدور والوظيفة بين «طاووسيملك» في الإيزيدية، وتموز/دوموزي في الديانات السومرية والبابلية: كلاهما يشكّل مع ذات الإله/الإلهة أقنومين في واحد. ومن المرجّح جداً، في نظره، أن تكونَ لفظة تيئوس (Theos)اليونانية، وزيوس (Zeos) المسيحية لاحقاً، مشتقتين من تموز/تاوز(طاوز)/ دوموزي، والتي لها نفس البنية المورفولوجية وتفيدعلى المستوى الميثولوجي المعنى ذاته، أي ربّ الأرباب، فتكونب ذلك طاووس/ تاوز (طاوز) /تيئوس/زيوس، كلها ألفاظا متقاربة تحيل على مرجعية واحدة، هي تموز البابلي/ دوموزي السومري.
ويبدو أنّ هذا الموقف لهوشنك بروكا يستند عمليا إلى مواقف مستشرقين سابقين في الكرديات فقد أشار إيسيا جوزيف إلى محاولات قديمة لردّ «طاووس» إلى «طاوز» التي تُردّ بدورها إلى «تموز»، خصوصا وأن صاحب الفهرست نفسه يذكر، في غضون حديثه عن أعياد الحرّانيين، أنّ الإله “طاوز” كان له عيد في أواسط شهر تموز. ويذهب هذا الموقف إلى حدّ الاستدلال بما تعرفه اللغة الكردية العامّية من إبدال للميم واوا في عديد الحالات.يدعم هذا ما ورد طيّ نسخة «كتاب الجلوة لأرباب الخلوة» التي ضمّنها سعيد الديوه جي في كتابه حيث ذكر «طاووسي» باسم «تادوس»:
«2- خَلقت الملائكة وجَمعتهم جميعا وفصّلت لهم كل شيء، وأوصيتُ يوما بأنني أنا الذي أستحقّ الصلاة والخضوع والعبادة وحدي.
3- مضت أربعون ألف سنة. ثم خلقت آدم في أحسن تقويم. وأردت أن أمتحن الملائكة فأمرتهم بالسجود له.
4- نسي الملائكة ما كنت أمرتهم به قبل أربعين ألف سنة فسجدوا لآدم وصلّوا له إلاّ (تادوسا) وحده تذكر أمري فلم يسجد له.
5- فجازيته بأن سمّيته الملك تادوس وجعلته رئيسا لجميع الملائكة. وأستاذا مرشدا لآدم في الجنّة.
6- جعلت الملك تادوس رئيسا لجميع الملائكة وسلمت بيده مفاتيح اللوح المحفوظ لكي يستمدّ منه أوامره ونواهيه وملكوت السموات والأرض».
ويبدو أنّ هذا المبحث اللغوي قد صادف هوى في نفوس الباحثين المنتصرين للأصل غير العربي للفظ “طاووس” وهو مادفع بكاظم عبود إلى أن يستنتج، باستعمال البحث المعجمي المقارن، أنّ مقارنة (Tiwaz) في الألمانية مع (Tawos) الكردي تؤكّد أنّهما يشتركان في نفس المدلول، مرتكزا على العادة السائدة لحدّ الآن بين الكرد المسلمين بعدم الاغتسال يوم الثلاثاء،وهو يوم تاوؤس لدى الأقوام الجرمانية، (Deiwos) هو إله السّماء في اللغات الجرمانية، وقد كرّم بإطلاق اسمه على يوم الثلاثاء،الذي ما يزال موجودا في اللغة الأنقليزية (Tuesday) أي يوم تاؤوس، حسب رؤية كاظم عبّود، ولكنّه لا يقدّم تفسيرا لجعل الثلاثاء حاملا لاسم الطاووس بدلا من الأربعاء.
ولم تخل بقية المصطلحات من تسليط هذا المنهج عليها،من ذلك إلحاحه على أنّ إيزي (Ezi)، الاسم الآخر لطاووسي ملك في الإصطلاح الإيزيدي، يفيد معنى الإله،وهو اسم من أسمائه الكثيرة. وأنّ هذه اللفظة متواترة في النصوص الدينية الإيزيدية، وهو ينبّه إلى أن كلمة «إيزَد» (Ized) القريبة جداً من لفظة «إيزي»(Ezi) الإيزيدية، تفيد في اللّغات الهندية والفارسية والكردية، المعنى ذاته، على المستويين الميثولوجي والفيلولوجي، أي “الله أو روح الإله“. بلإنّ لفظة «إيزَد» (Ized) هذه لا تزال، حسب بروكا، متداولة ومستعمَلة بين الناس، في بعض اللهجات والمناطق الكردية،وهي تعني «المعبود» إذ «يبدو أنّ الكلمة ذاتها قد تحولت إلى أخرى اشتُقت منها لاحقاً (حسب بعض المختصين) وهي «يَزدان/ إيزدان» (Yezdan/Ezdan) التي تعني هي الأخرى في الفارسية والكردية، «الله/ الخالق». ويذهب الباحث الإيزيدي خدر خلات بحزاني هذا المذهب نفسه حين يستشهد بما توصّل إليه « لافاري نابو (Lavari Nabu) الخبير في اللغات القديمة والأستاذ بجامعة غوتنغن بألمانيا[من] أنّ كلمة إيزيدي في اللغة السومرية تحوي ثلاثة مقاطع (إي/زي/دي) وتعني الشعب الذي يسير في السبيل القويم». ويقدّم تعليلا صوتيا للتسمية فإذا كانت كلمة “إيزي” تعني الخالق فإنّ حرف الدال [d] لاحقة تفيد النسبة في اللغة الكردية، «ووظيفتها كوظيفة الحرف [I] في الأنقليزية iraqi».. ويضرب لذلك مثلا كلمتي «كورد» و«يهود». فكلمة «كورد» مستعملة لدى السومريين لتعيين سكان الجبال. («كور» في الغة السومرية تعني الجبل، بذلك تكون [كور+د] مؤدّية معنى «جبلي»). وكذا الشأن في كلمة «يهود» التي تحمل اللاحقة [d] …(وتعني «المنتسبين إلى يهوه»).
ويربط بروكا بين ألفاظ يزت/إيزاد/ إيزات/ يازاتا(yazt/izad/yazata/izata) التي وردت في كتاب زرادشت «أفستا» (Avesta)، و«يازاتا» (yazata) التي في السنسكريتية، و«يزد» (yazd) » التي في الفهلوية، وبين تسمية “الإيزيدية/ الإيزدية/الإيزَدية”، مسارعا إلى استثمار ذلك في أنّ «”تاريخ الله” المدوّن، في هذه الكلمة، يعود إلى ما قبل “يزيد بن معاوية” والإسلام وحتى إلى ما قبل الزرداشتية أيضاً».
ويستدل بروكا بالمؤرخ شرف خان البدليسي(15431604م) الذي يذكر هذه الطائفة في تاريخه “شرف نامه”، مسمّيا إياها ب“اليزدانية والإيزيدية“، وبذلك تكون تسمية الطائفة باليزيدية، منوجهة نظر بروكا، تحريفا للاسم الأصلي: الإيزيدية، فلا هيتنتسب إلى يزيد بن معاوية الأموي ولا هي تنتمي إلى يزيد بنأُنَيسة الخارجي، وإنّما تعود إلى “إيزيد“ وهو الاسم الكردي الذي يفيد معنى الله.
وقد آل هذا البحث في الإحالات المعجمية للدّوالّ، بهوشنك بروكا إلى معالجة الظاهرة في صلب البحث المعجمي الذي مثّل بدورة لبنة من لبنات أعمال المستشرقين.
ب- البحث المعجمي
في هذا المستوى من البحث اللغوي يعمد هوشنك بروكا إلى البحث في اللفظ لا من حيث أصوله الإيتيمولوجية وإنّما من حيث انتماؤه إلى معجم آخر غير المعجم العربي، ومن بين الألفاظ التي تناولها لفظة «مير» المتداولة في المعجم الإيزيدي، ويعلّق بأنّ“الملاحظ فيما أفادته مفردة ال«ميهر، مِهر، ميير»، فيلولوجياً، وحسب مصادر ومعاجم كردية مختلفة، من معانٍ، هو دوران المعنى في لغات “أهل ميثرا”، قديماً، وفي الكردية راهناً، في فلك ذات الشمس، وذات الربوبية والألوهية. وهو يرجّح أنّ لفظة ال«ميهرِك»، وال«مِهرِك» أو ال«ميرِك»، المعروفة في أوساط معتنقي الدين الإيزيدي، كمدلول لفظي يُراد به الإشارة إلى ملاكهم الأكبر «طاووسي ملك» قد اشتُقّت من هذه المفردات ذاتها «ميهر، مِهر، ميير«. ويستدلّ بروكا بالواقع اللغوي الشفويفي أدعية الإيزيديين وتراتيلهم، ليثبت أنّ الإيزيديين يستعملونال«ميهرِك Mêhrik»، مرادفا ل«طاووسي ملك»، ف«من بعضهذا الكلام الذي يتردد في الكلام “الخاص“، للإيزيديين،وتراتيلهم الشفوية، المحفوظة، عن “ظهر قلب“، في هذاالخصوص، مثلاً:
ال«ميهرِك» هو ملاك الله
ال«ميهرِك» هو الله ذاته
ال«ميهرِك» هو “طاووسي ملك عينه“».
ويعمد هوشنك بروكا إلى تطويع البحث الميداني الأنثروبولوجي، فيستشهد بواقع الجماعات الإيزيدية اللغوي والتعبّدي، فيذكر أنّ المُعاشر للتجمعات الإيزيدية، سوف يلحظ الحضور الكثيف لهذه المفردات، التي تفيد دون أدنى أيّ شكٍ معنى «الله»/ كلّ الله، أو كلّ الألوهة، أي ال”خو ه دي طاووسي ملك شيشيمس.” ففي جل الأدعية الإيزيدية الروتينية، يتقرّب العابد فيها من الله، في كونه»ميهراً». فيقسم به قائلا:
أقسم ب«ميهر» وملائكة الأربعاء..
ويصل من ذلك إلى أنّ تكرار مفردة ال«ميهر» في الأدب الديني الإيزيدي يدلّ على أنّها «متأتية من “ميهر“ المفردة الآريانية (كذا) القديمة، التي كانت (ولا تزال) تفيد معنى «الشمس» أو «إلهها/ ربّها». ونجد صدى هذا لدى الباحث الإيزيدي خدر سليمان الذي يؤكّد هذا التوجّه مستدلاّ بأنّ المصطلح ما يزال متداولا بكثرة بين الإيزيديين «حيث يطلق على أمير الإيزيدية ميري-ميهري»، كما أنّ سكّان المناطق المجاورة مازالوا يطلقون على الإيزيديين صفة «أتباع الميهر».
ومهما يكن حماس هوشنك بروكا مبالغا فيه في هذا المجال فإنّه يبقى أكثر موضوعية (أو أقلّ مغالاة) من حماس البعض الآخر من الإيزيديين أمثال حسّو أمريكو الذي يستغلّ التشابهات الصوتية بشكل مغالًى فيه، (من ذلك أنّه يعتبر لفظ «السنّة» و«السّنّيين» نسبة إلى «سن» البابلية.)
غير أنّ استغلال بروكا للمعجم لدعم الأصل غير العربي لهذا المعتقد، يقتضي أن يتمّ إثبات ما أوصلت إليه اللغة بما يفضي إليه البحث التجريبي.
3-2- البحث التجريبي
ونعني بالبحث التجريبي ما تُخضِع له مناهج العلوم الانسانيةمادّة درسها من استعمال للعلوم الحافّة وخصوصا الدراساتالأنثروبولوجية ومن فرضيات.
3-2-1- توظيف العلوم
يبدو أنّ أهم علم لجأ إليه هوشنك بروكا كان الميثولوجيا، وقدلاحظ صلات وروابط بين المعتقدات والطقوس الإيزيدية وبينالطقوس في الميثولوجيا البابلية والفارسية، فثنائية الموتوالانبعاث، التي تتكرر في شخصية تموز، كلّ سنة، هي تجسيدطقوسي، للثنائية الفصلية (خريف = موت / ربيع = ولادةوانبعاث) وبذلك تصبح تلك الطقوس محاولةٌ من الإنسان للحلولفي ما هو فوق بشري، عبر التناغم مع الآلهة والتماهي معها عبرمشاركتها أحزانها وأفراحها. «فالسنة الميزوبوتامية، كانت عبارةعن فصلين فقط: ربيع، الفصل الأخضر وجهة الإخصابوالإنبات، وخريف، الفصل الأصفر، جهة الموت والعذابات. وماأسطورة الصعود والهبوط الدوموزية، والتي اتخذت من هذهالثنائية الفصلية متناً لمادتها الأسطورية، إلا محاكاة بشرية للمافوق بشري، استعدادا لعبورٍ مقدسٍ من الظهورات الطبيعية، إلىالظهورات الإلهية في أقدس تجلياتها». هذه النتائج تستوجب منهإخضاع هذه المادّة إلى منطق الفرضيات لتمحيصها واختبارها.
3-2-2- منطق الفرضيات
كان مبحث أصل الرموز المقدّسة أكبر مجال قام فيه الفكرالإيزيدي بإعمال منطق الفرضيات المؤدّي لاستبعاد فرضياتوترجيح أخرى، وقد انصبّ الاهتمام على رمزين مركزيين فيالمعتقد الإيزيدي، أوّلهما ال«طاووس» وثانيهما «إيزي». وهماالاسمان اللّذان كان الباحث قد أخضعهما للبحث اللغوي لإبرازإيغالهما في القِدم وبُعدِهما عن العربية.
3-2-2-1- طاووسي–ملك
وضمن هذا الاسم تتكثّف الفرضيات التي يثبتها هوشنكبروكا، ويمكن إجمالها في:
أ– فرضية الأصل العربي
يردّ دُعاة هذه الفرضية، لفظة ال«طاووس» الإيزيدية إلىالطَّوْس، والطوس حسب لسان العرب، الحسن والجمال، «وهومأخوذ من الطّوْس وهو القمر»، ولذلك تطلق صفة طاووس على كلجميل ( ومن ذلك وصف جبرائيل بطاووس الملائكة).
غير أنّ هوشنك بروكا يكتفي باعتبار هذه الفرضية، فرضيةً“فقيرة” في محاجّتها، ميثولوجياً ومورفولوجياً، ومنطقيا، لكنّه،على خلاف عادته، لا يطيل التوقّف عند هذا الأصل المفترض رغمأنّ من أهمّ دوافع طرق الموضوع دفع شبهة الأصل العربي عنالرمز الإيزيدي. ولكنّه يكتفي بأن يعتبر أنّ الأمر مجرّد تشابهصوتي ليس أكثر وأنّ لفظ «طاووس» الإيزيدي لا صلة له بالاسمالعربي إذ هو موجود في اللغة الكردية القديمة منذ آلاف السنين،وقبل أن تتشكّل اللغة العربية. ف«الإيزيدية لا تسبق الإسلامفحسب، بل والميلاد أيضاً بقرونٍ عديدةٍ». ولذلك فإنّ الأوْلى أننبحث عن ذلك في مظانّ أخرى قد تكون أكثر وجاهة.
ب– فرضية الأصل البابلي
يبني هوشنك بروكا هذه الفرضية على ما كان قد أثبته منعلاقة اشتقاقية مسّت اسم «طاووس» وعلى ما مدّته به الأسطورةالبابلية من صلات بين شخصية تموز وشخصية «طاووس» فدُعاة هذه الفرضية يرون بأن طاووسي ملك، هو شمس/شمش،إله الشمس البابلي ذاته، والذي تتطابق صفاته مع صفاتطاووسي ملك، باعتبارهما رمزين للكمال. ويبدو أنّ هذا الأصليستهوي هوشنك بروكا أكثر من سواه، لأسباب موضوعية(الاشتراك الجغرافي)، ولكن ذاتية كذلك، فإثبات الأصل البابلييؤكّد استقلال الإيزيدية عن باقي الديانات الوافدة على المنطقة،ويهبها نشوة السبق عليها جميعا، لذلك يعمد إلى تبرير ما يلاحَظمن اختلافات بين المعتقدات البابلية القديمة والمعتقدات والطقوسالإيزيدية الحديثة بأنّ «من الممكن دائماً أن تنشأ عن كل أسطورةٍأسطورة أخرى. لذلك يحرص على إبراز السّمات المشتركةوخصوصا أسطورة الصعود والهبوط التموزية، ليقطع باشتراكالأسطورة البابلية مع الأسطورة الإيزيدية». وممّا يرسّخ الاعتقادفي صلات طاووسي ملك بتموز، اشتراكهما في طقوس متشابهة،من قبيل احتفالات وداع تموز لدى البابليين، حين يتأهّب تموزللرحيل إلى عالم الظلمات، ومع رحيله، تبدأ رحلةُ الحزن الأزلي: حزن يحتضن الكونَ والطبيعةَ والإنسانَ في آنٍ. ويبدو أنّ هذاالمنحى يمثّل حقيقة مسلّما لدى كثير من مفكّري الإيزيديةالمعاصرين، حتّى إنّ خليل جندي يجزم «بأنّ طاؤوس ملكالأيزيدي ليس إلاّ الإله الابن… حلّ محل أمّه عشتار».
كان إله الشمس في معتقدات العراق القديم، «يمثّل بدائرة ذاتأربعة أشعة، تتخللها أشعةُ مجعدة، كدلالة على المعبود الشمسي،وهو الشكل الذي لا نعدم نظائر له فيما نُقش على جدران معبدلالش وأبوابه. أما رمز طيران الشمس وحركتها، فكان يصوّر علىشكل كرة ضوئية ذات أجنحة، ومذيّلة بذيلٍ من الأشعة على هيئةذيل طائر، وهو ما يوحي به أشهر رموزهم الطاووس الذي يرسمدائرة شعاعية بذيله. كما يرى بروكا أنّ لإله الشمس في ميثولوجياالعراق القديم دورا مماثلا لدور الشيخ شمس/شيشمش/طاووسي ملك، فكلاهما يمنح العالمَ النورَ والحيوية»، وكما كانالبابليون يقدّمون الثيران قرابين للشمس، ما يزال الإيزيديون إلىالآن يقدّمون ثورا أبيض قربانا للشيخ شمس في اليوم الخامسمن احتفالات عيد الجماي. غير أنّ وجود طقس الثور القربان، وإنكان من طقوس البابليين فإنّه ألصق بالطقوس الميثرائية، وقد يكونانتقل إليها من خلال الاحتكاك بين النسقين البابلي والفارسي،ذلك أنّ الإيزيدية ليست نتاج نسق ميثولوجي مغلق، وهذا ما دفعبهوشنك بروكا إلى طرح فرضية ثالثة هي فرضية الأصلالميثرائي.
ج– فرضية الأصل الميثرائي
مبرّرات هذه الفرضية أنّ «طاووسي ملك»، حسب بروكا، «هوربّ الأرباب الميثروي/ميثرا نفسه»، ومن بين مرتكزات هذهالفرضية، أنّ طاووسي ملك وميثرا يشتركان في أنّهما «يجسّدانالخيرَ والشرَّ معاً كقوتين إلهيتين في ذاتيهما. ف«طاووسي ملك» هو الوجه الآخر للألوهية، بل هو الإله «خوه دي» ذاته، وأحدأسمائه، حسبما يذكر في التراث والدعاء الإيزيديين (من ذلكمثلا: «الشيخ آدي، وطاووسي ملك وإيزي، هم ثلاثةُ أقانيم فيواحدٍ، فلا يأخذ بكم التيهُ في الفرقة بينهم»). والإله الإيزيديالواجب عبادته، كما هو إله مطلق القدرة في خيره وشره، يجمعفي صورته، بين الوجهين الأبيض والأسود للآلهة. إنّ ملامح الإلهالأكبر «ميثرا»، تتماهى إلى حدّ بعيد مع صورة الإله الإيزيدي.«ففي ذات الوقت الذي يُعبد فيه ميثرا كإله (كذا) للخير والبركةوالحياة السعيدة، يُعبد أيضاً على أنه إله للحرب والكوارث». وكماكان ميثرا “انبعاث الله وندّه وسلطانه“ كان «“طاووسي ملك” انبعاثا من (الله) ومسؤولاً أمامه، وندًّا له، لحماية العالم وحفظهحسب اعتقاد الإيزيدية. وقد انبعث فيه بالتناوب ستةُ آلهة،جميعهم عبارة عن ذاتية (كذا) واحدة». وينقل توفيق وهبي، الذييأخذ عنه هوشنك بروكا مؤيدات الشبه بين طاووسي ملك وميثرا،أنّه جاء في مصحف رش «أوحت آلهة الكواكب الميثرائية إلىالآلهة السبعة اليزيدية أن طاؤوس الملائكة مساوٍ للشمس وهي(ميثرا)»، وهو ما لم نعثر عليه رغم عودتنا إلى نسخ مختلفة منمصحف رش. واللاّفت أنّ هوشنك بروكا لم يشر إلى هذا الغيابولو من طرف خفي، رغم يقيننا من اطّلاعه على مختلف النصوصللمصحف.
ويدرج هوشنك بروكا القول بتأثّر الإيزيدية بالميثرائية في إطار نسق أوسع يشمل هيمنتها على مختلف العقائد، بما في ذلك بعض العقائد السّماوية، ف«قد بلغ تأثير الميثرائية على الغربالمسيحي، تاريخئذٍ، حداً طال الكنيسة ذاتها، حين بادرت من موقع مركزيتها المطلقة، بتبنّي عيده الأكبر الذي يقع في 25 ديسمبر، وهو يوم ميلاد الشمس التي لا تُقهر، كعيدٍ (كذا) لمولد يسوع المسيح». ونظراً للتداخل الميثي بين شخصيتي «طاووسي ملك» والشيخ شمس (شيشمس) باعتبارهما أقنومين من أقانيم ثالوث الألوهية الإيزيدية، فقد ذهب البعض إلى أنّ صورة «الطاووس» ليست سوى تجسيد للشمس (الشيخ شمس/شيشمس).
ورغم أنّ هوشنك بروكا يصل إلى ترجيح الفرضية الأخيرة، فإنّنالم نره قاطعا في الرّفض والبتّ إلاّ في نفي الأصل العربياللاهوتي (سواء أكان إسلاميا أم مسيحيا أم يهوديا) عن أسماءهذه الرموز وإحالاتها، ويبدو أنّ العوامل السياسية تقف وراء هذاالموقف أكثر من المواقف العلمية، تماما كما كانت المواقفالسياسية موجِّهة لكثير من الدراسات الاستشراقية. ولعلّنا نكشفهنا بعضا من هذه الخلفية إذ القول بالأصل اللاهوتي يفضيحتما إلى القول بإقرارها بوجود الشيطان وهو ما تستميت فيدرئه دفعا لما لاحقها طيلة قرون من تهمة كونها فرقة تعبدالشيطان، لذلك يؤكّد بروكا أنّ الشيطان ليس إلاّ اختلاقا منالأديان و«أن حقيقةَ الديانة الإيزيدية ونصوصها الميثية، تجعلناأمام لوحةٍ مغايرةٍ تماماً. فالإله الإيزيدي (خوه دي طاووسيملك) هو إله كوني شمولي في خيره وشره، في نوره وظلامه، فيبياضه وسواده. ولا توجد على الإطلاق إرادةٌ تعلو إرادته، لذا فهولم يخلق شيطانَه بذاته، وإنما هو بدعةُ واختلاق من الآخر. إنّجغرافية الألوهة الإيزيدية، لا تعرف للشيطان، إبليس، بعلزبول،بعل، مكاناً لها (كذا). وهي مصطلحات مبتدعة ومختلقة، وبالتاليغريبة كل الغرابة عن القاموس الإيزيدي». هكذا يتكشّف لنا أنّبحث هوشنك بروكا كان موجّها أساسا للرّدّ على اتّهاماتالمسلمين وبحوث بعض المستشرقين من القرن التاسع عشروبدايات العشرين، على غرار روجيه ليسكو (Roger Lescot) الّذي انتهي إلى أنّ هذه الديانة ليست سوى طائفة إسلاميةمنحرفة، تندرج ضمن التيّار الباطني الكبير وتتخذ من الشيطانمعبودا لها، خصوصا وقد وجدوا في نصوصهم المقدّسة مماهاةبين طاووسي ملك وعزازيل. وهو ما دفع بالكثير من الدارسينالغربيين، حتّى من بين أولئك الذين ينفون انتماءهم للإسلام،لاعتبارهم عبدة للشيطان. لذلك كان أهمّ مخرج هو البحث عنوشائج للإيزيدية بالأسطورة البدائية في بلاد الرافدين، ولذلكيدعم حجّته بروافد ميثولوجية واضحة لعلّ أجلاها ما يتعلّقبالطقوس لديهم، وخصوصا ما كان منها محتفيا بالزمان، وأهمّها:
ج-1 زمنا الفرح والحزن
يبدو الزمن الطقسي الإيزيدي محكوما بلحظتين إحداهماللحزن والأخرى للفرح، ولكلّ لحظة عيدها، أولاهما لحظة الحزنالخريفي في «عيد الجماي» (أو «الجماعية» حسب استعمالخليل جندي) الذي يحتفَل به بين 7 و13 نوفمبر. ومن أهمّ ما فيهاحتفال «القاباغ» (أي الزمان الأصفر)، الذي يتمّ في أول أربعاءيربطه هوشنك بروكا ربطا مباشرا بالموروث المثرائي والبابلي، ففيهيتمّ نقل الثور القربان من مزار الشيخ عدي إلى مزار الشيخشمس، في تواصل لافت مع ثور إله الشمس ميثرا، كما أنّه، فيالآن ذاته، «زمان الوداع التموزي، حيث يتأهب تموز، حسبالأسطورة البابلية، للرحيل إلى عالم الظلمات، ومع رحيله، تبدأرحلةُ الحزن الأزلي».
وزمان ال ميتراكان/مهركان، والذي يُعرف عند الإيرانيينالقدامى بعيد ميثرا، قريب جداً من زمان الجماي، فكلاهماتكرار لزمنٍ البدايات.
أمّا لحظة الفرح فهي لحظة عيد «السه رصال» وهو عيد رأسالسنة الإيزيدية، تماما كما كان رأس السنة السّومرية والبابلية. وكما كان نيسان يمثّل لدى البابليين عودة تموز، فإنّ الإيزيديينيعتبرون هذا العيد، عيد قدوم طاووس ملك، لذلك يماهي هوشنكبروكا بين طاووس ملك وتموز، لا إيتيمولوجيا هذه المرّة وإنّما دلاليامن خلال رمزية الاحتفالات، “فمن الطقوس التي تُمارس برجحانقداسوي واضح في عيد طاووسي ملك، طقس خبز الخُبيز/الصهوك/الكليجة. يذكرنا هذا الطقس بتموز الذي عُرف كإله لروح القمحفي الميثولوجيا السومرية خاصةً، والميثولوجيا الميزوبوتامية علىوجه العموم. إن اكتشاف الزراعة بالنسبة لإنسان العصرالحجري، لم يكن نتيجة فعل بشري بل نتيجة عون سماوي. وسنبلة القمح الأولى التي زرعها، لم تكن إلا جسد الإله الابنالقتيل، الذي أرسلتْ به الأم الكبرى إلى العالم السفلي، من أجلابتداء دورة الزراعة والحفاظ على استمرارها حتى نهاية الكون. فهو الإله الحي الميت، الميت الحي الذي يهبط إلى باطن الأرضفي الخريف، ثم يعود ساحباً وراءه خضرة الربيع مكملاً دورةحياته السنوية التي تركزت حولها حياةُ المستوطنات الأولىودياناتها وطقوسها. وهكذا «غدا تموز، الثور القمري، مثل عشتارالخضراء، إلها للنبات ودورة الزراعة. فهو تموز الخضر (الأخضر) رب الإنبات والدورة الزراعية يُبعث من عالم الظلمات مع قدومالربيع، ساحباً وراءه خيرات الأعماق وبركات الرحم المظلم الذيخرج منه». بذلك يكون المعتقد الإيزيدي حسب هوشنك بروكامزيجا من الأسطورتين البابلية والميثرائية «فالإيزيدي من جهةيشارك الإله الشمسي نشوة انتصاره على الإله القمري، وذلكبذبح رمزه الأقدس: الثور على أعتاب مزار الشيخ شيشمس، ومنجهة أخرى، فهو يبكي الإله القمري تموز/طاووسي ملك وغيابهالحاضر فيه».
لذلك ارتبط الزمان لديهم بقداسة خاصّة لا في مستوى الدّورةالزمنية الكبرى فقط (الحول)، بل وفي المستوى الأصغر أيضا(الأسبوع) حيث اختص يوم الأربعاء بموقع خاص في المعتقدالإيزيدي.
ج-2 قداسة يوم الأربعاء لدى الإيزيدية
يذكر بروكا أنّ من بين الأناشيد التي تُردَّد دائما في احتفالاتالزواج لدى الكرد:
«الأربعاءُ يومٌ إلهيٌّ
مسكون بلظى الآلام
والعذابات.
إنه جهة الفرح،
والسعادة».
يوم الأربعاء، هو اليوم الأكثر قداسة لدى الإيزيديين، وهو جمّاعطقوس وقداسات لديهم، ويكفي أن نشير إلى أنّه يوم طاووسيملك تماما كما كان يوم نابو. فزمان الأربعاء، هو زمان مقدّس فيالميثولوجيا الإيزيدية لأنّه زمان الخلق كما تكشف ذلك الأسطورةالإيزيدية إذ تقول:
«حين كان العالمُ عماءً كونياً، ولم تكن الأرضُ قد انفصلت عنالسماء، هبط طاووسي ملك في هيئة طاووسية (نسبة إلى طيرالطاووس) … وما إن نزل، [حتّى] كانت الخليقةُ على أتمّ صورةلها. كان ذلك في زمان بدئيٍّ، أي في الأربعاء الأوّل مننيسان…إن قداسوية (كذا) الإله الرمز طاووسي ملك، في هذهالأسطورة خاصةً، وفي الميثولوجيا الإيزيدية عامة، تنبع من كونهإلهاً فاعلاً في ولادة البدايات: بدايات كل شيء». لذلك ترتبططقوس احتفائية عديدة بالأربعاء الأوّل من نيسان، ويستغلّهوشنك بروكا هذه الطقوس ليقوم بتوظيفها، على خطى المناهجالأنثروبولوجية، محاولا إجلاء ما تحويه من رمزية ذات صلاتبالبدء الأسطوري للكون، ويمكننا أن نكتفي هنا بالإشارة إلى:
1- أربعاء البيض
في الأربعاء الأول من نيسان، يُلزَم كلّ إيزيدي بإعداد البيض،وبتلوينه بشتّى الألوان (باستثناء اللّون الأزرق الذي يحرّماستعماله حتّى في ملابسهم لأنّه لون يختصّ به طاووسي ملكتماما كما كان لونا لنابو)، ليتمّ استعماله في ألعاب شتّى. والبيضةُ في مستواها الرمزي، اختزال لزمان البدايات، وهيالنّواة الصغرى التي تنشأ فيها الحياة، والتي من دونها يهيمنالعدم والعقم. هي الكون الأصغر (microcosmos) الذي انبثقمنه الكون الأكبر (macrocosmos)، ولذلك فإنّ للبيضة فيالنصوص الدينية الإيزيدية وفي طقوسهم حضورا لافتا، وهيتذكّر بالدّرة البيضاء الّتي يتحدّث عنها مصحف رش، كتابالإيزيديين المقدّس، والتي منها نشأ كلّ الكون. كما أنّ للبيضةرمزية جنسية وقدسية في الآن نفسه، فلحضورها «دلالة واضحةعلى حضور القوة الإخصابية للعالم» كما أنّ «كلّ الطقوس التيتدور في فلك البيض (التباري، التكاسر، زفاف اللون، والتبركبالقشور القدسية.. إلخ) ما هي في النهاية إلا تحيين لفعلٍ مقدسٍ،حدث في الزمن البدئي»، ويذهب بروكا إلى أنّ الاحتفال كلّه لايعدو أن يكون اختزالا للحظة البدء ودورة الخلق المقدّس فكلإيزيدي باحتفاله وفق هذه الطقوس إنّما يستعيد زمن البدء، وهوزمن مقدس، قابل للاستعادة والتكرار بلا حدود، ويتماهى معالآلهة إذ يحاكيها في فعلها ف«كسر البيضة، كمحصلة لفعلالتكاسر/ المكاسرة، يعني على المستوى الرمزي، المشاركة فيفعل الفقس، أي فقس البيضة، وبالتالي المشاركة في فعل الخلقالذي تمّ في الزمن البدئي، بفعل إلهي مقدس (تماما كما انبثقالكون حين انكسرت الدرّة)… والتباري على كسر البيض.. تبارٍعلى القوة الإخصابية والكفاءة في فعل الخلق والتأسيس له. فإعلان المتباري قساوة أو قوة (كذا) بيضته على كسر بيضةخصمه، هو إعلان عن قوته الإخصابية المتفوقة الراجحة والجديرةبفعل الخلق أمام قوة خصمه المتنحية». وتبدو الرّمزيّة الجنسيّةأوضح في ما يصنعه الإيزيديون بقشور البيض الناتجة عنالتباري في كسر البيض، «فلأنها قشورٌ للقوة الإخصابية، وقشورٌناتجة عن فعل الإخصاب المقدس، الذي مارسته الآلهةُ في البدء،ليأتي الإنسانُ من بعده، ويكرر الفعل ذاته في زمان مقدّس، فإنالإيزيديين يذرون تلك القشورَ على حقول كرومهم ومزروعاتهموحظائر حيواناتهم، إيماناً منهم بأنها سوف تزيد وتضاعف منعطائها وبركتها وخصوبتها. ولهذا، ولقوة دلالة البيضة، ومكانتهاالقدسية في عيد طاووسي ملك، فإنه يُسمى أحياناً بعيد البيض. ولو بحثنا عميقاً في تفاصيل هذا العيد وطقوسه المقدسة، فسوفيتضح (كذا) لنا كيف أن هناك علاقة جد قوية بين البيضةباعتبارها رمزاً للخصوبة والطاقة الجنسية المولّدة، وبين الزواجباعتباره رمزاً لفعل الخلق المقدّس»، ولذلك يمتنع الإيزيديون عنالزواج في نيسان، لتختصّ الآلهة به باعتبارها وحدها مصدرالخلق، لذلك يحرّم على الإيزيديين الزواج في شهر نيسان، لأنّهالشهر الخاصّ “بالزواج البدئي، زواج الآلهة. ففي مطلع السنةالبابلية.. في أوائل نيسان حسب التقويم البابلي، كانت طقوسالخصوبة الجنسية تستعاد وبكامل أبّهتها، ففي يوم السنةالجديدة تنام عشتار، بصحبة عشيقها تموز“، وكما تطلب آلهةالأسطورة أن يحاكيها الإنسان في بعض أعمالها، ترفض أنيشاركها في البعض الآخر ليكون لها وحدها لا شريك لها فيه،والجنس المقدّس واحد من هذه الطقوس الإلهية التي تنفرد بها. «احتفالات العام الجديد (أكيتو) لدى البابليين أو الأشوريين،و(زاغموك) لدى السومريين تبدأ مع بداية الربيع. (…) ويحرمالزواج خلال احتفالات أبريل لأن البابليين يعتقدون أن الآلهةتزوجت في هذا الشهر. (..) وفي الإيزيدية تقام بمناسبة “ساريصالي” الطوافات وكأن هذه الطوافات شكل من احتفالات زواجالآلهة، وهم أيضا يحرمون الزواج إلى الآن خلال شهر أبريل».
2- أربعاء المحرّمات
تعتبر الإيزيدية أنّ يوم الأربعاء هو يوم طاووسي ملك، ولذلك لايجوز مشاركته فيه، و«في هذا اليوم، يُحرّم على الإيزيدي دينياًممارسة أي عمل يخترق به سكون الأربعاء» . وحتى الاستحماموأعمال الغسيل محرّمة في هذا اليوم. ويقدّم هوشنك بروكا تبريرالمحّرمات الأربعاء، فيعتمد منطق التّابو (tabou) الأسطوري أكثرممّا يستند إلى سواه، فيذكر هوشنك بروكا أنّه في يوم الأربعاء،«انتهت الآلهةُ من وضع اللمسات الأخيرة للتكوين والخليقة. الأربعاء إذن، هو زمان هروب الآلهة إلى السَّكينة والراحة»، كما«يرد ذكر الأربعاء في الميثولوجيا الإيزيدية، بأنه يومُ بداية النهاية: بداية الخلق، ونهاية العماء الكوني، بداية النظام ونهاية الفوضى. فهو يوم إنتهاء الله من عملية الخلق، وإنهائه لحالة الفوضىالكونية، فمن «دعاء الخليقة»:
«إلهي وضع الهيكل،
في السبت كساه،
وما أن حلَّ الأربعاءُ،
كانت الخليقةُ على أتم حالها»
غير أنّه بالرّجوع إلى الكتاب المقدّس للإيزيدية، نلفي ما يتنافىوهذا القول، إذ نجد أنّ الخلق الذي ابتدأه الله يوم الأحد تواصل،دون انقطاع إلى يوم السبت، ونحن نرجّح أنّ القداسة التييسبغها الإيزيدية على الأربعاء ليست سوى رواسب لقداسة نابوابن الإله مردوخ (وممّا يرجّح هذا الربط ما يورده الباحث الإيزيديجورج حبيب، من أنّ معابد نابو كانت تسمّى معابد إيزيدا). وبذلك يكون لطقوس فرض السكون وتحريم العمل يوم الأربعاء بعدبدائي، فيه من خصوصيات التّابو البدائي أكثر ممّا فيه منخصوصيات الدين. وهو نفس الطقس الخاصّ بالسبت الذي نجدهفي اليهودية.
3-2-2-2- إيزي: الإله الواسم
خصصنا «إيزي» ببعض التوقّف، رغم إشارات الإيزيديين المتكررة إلى أنّ اسمي إيزي وطاووسي ملك ينصبّان على ذات واحدة (من ذلك ما نجده في قصّة الخلق الإيزيدية التي تحويها أقوالهم من أنّ «الشيخ آدي وطاوؤس ملك وإيزيد شيء واحد»)، لأنّنا نجد في عديد الأحيان فصلا بينهما وتمييزا لأحدهما عن الآخر بما يمنعنا من الجمع بينهما، منها أنّ الدّيانة موسومة باسم إيزي، وهو الاسم الوحيد الذي يتواتر تصنيفه إلها خالقا (إيزي «اسم من أسماء الله الذي خلق آدم وحوّاء»)، في حين أنّ طاووسي ملك نجده أحيانا يعامل كإله ولكن غالبا ما يعامل كرئيس للملائكة. يتميّز إيزي، حسب هوشنك بروكا، عن بقية المعتقدات بأنّه أوّل إله شمولي عرفه الإنسان، هو إله الخير والشرّ معا، بوجهيه الأسود والأبيض، الأهريماني والأهورامزدي، وهذهفكرة قديمة جداً، وأصيلة في الفكر الديني. فدين الإنسانالبدائي كان ديناً متمركزاً حول مدار إله كاملٍ في صورته وقدرته،إله مطلق في شره وخيره. بذلك يكون هذا الإله إيزي، أوّل إله عرفهالإنسان وعبده، وهو مختلف عن بقيّة الآلهة التي عرفتها الدّياناتاللاحقة والتي فصلت فيها جانب الشرّ وعزته إلى الشيطان عنجانب الخير الذي آثرت به الإله الطيب الخيّر، «الإله الإيزيديالجدير بالعبادة، هو إله كليُّ القدرة في خيره وشره. ومثلما هوخيرٌ، هو شرٌّ أيضا». لذا فإن تقرّبَ الإنسان الإيزيدي إلى إلهه،وبالتالي توسله إليه، يحمل في طياته، إيمانية بثنائية الخير والشرالمتجسدة في ذات الله/«خوه دي» الواحدة. كما أننا نستطيعقراءة ملامح وسيماء هذا الإله الثنائي الخصائص في الأدبالشفاهي الإيزيدي الذي نجد فيه، في مواضع مختلفة، أدعيةوصلوات من قبيل: «إلهي ارزقنا الخير، ونجّنا من الشر» أو«الخير والشر كلاهما ينبع من باب الله».. بهذا يكون الإلهُالإيزيدي، «هو الإله الذي قدرته على إمكان الخير، كقدرته علىإمكان الشر، هو المبتدىء والمنتهى». ويحتجّ بروكا على جمع إيزيلثنائية الخير والشر في ذاته، بحجّة طالما شغلت المتكلّمين وهيمشكلة الإرادة والعلم اللذين شغلا حيّزا من اهتمامات الكلاميين،وما يترتّب عن الفصل بين ذاتي الخير والشرّ من قضايا عقائديةذات صلات وثيقة بالجدل الكلامي وقد اختزل الشيخ «عديّ بنمسافر»، أحد أهمّ الشخصيات الإيزيدية، بقوله «لو كان الشرّبغير إرادة الله، لكان عاجزاً. ولا يكون العاجزُ إلهاً، لأنه لا يجوز أنيكونَ في داره ما لا يريده، كما لا يجوز أن يكونَ فيها ما لا يعلمبه». وبذلك يكون الإله الإيزيدي، امتدادا إله المراحل الأولى فيتاريخ الانسان «حين لم يكن بمقدور الشر إعلان انفصاله كجزءٍمتمرّدٍ عن الألوهة (كذا) كوحدة شمولية كونية، ف«إنّانا» السومرية، كانت سيدة للسماوات والعالم النوراني، وسيدة لعالمالموت وظلمات العالم السفلي، وتكررت هذه الألوهية المزدوجة فيشخصية عشتار البابلية، التي تظهرها الأساطيرُ تارةً ابنةً ل«سن» إله القمر، وتارةً ابنة ل «آنو» إله السماء...».
الخاتمة
لقد سعى هوشنك بروكا إلى إثبات أنّ الإيزيدية، ليست سوى«واحدة من الديانات الطبيعية القديمة»، وقد كان اشتغاله فيسبيل ذلك على مناهج كان المستشرقون قد رسّخوها. وكما كانتالمناهج الاستشراقية مسكونة بهواجس سياسية، كان بحثهوشنك بروكا مثقَلا بنفس تلك الهواجس. وكان البحث في دوالّالمعتقد مقتضيا لضروب من التمحيص الاشتقاقي والمعجمي الذيبه توضع اللبنة الأولى لترسيخ أسبقية الإيزيدية على كل الطوائفالأخرى، أمّا بقية البناء فمن شأن علوم الأنثروبولوجيا، وبوجه أدقّالميثولوجيا. وقد كان همّ الباحث من وراء هذا، البحثَ عن الروافدالضاربة في الأسطورة بناء على أنّ «التاريخ الديني “الكليالقدرة“، الصادق و“الصحيح“، هو تاريخٌ يتخذ من الأكوانالميثولوجية جغرافيةً لتسطير امتداداته» ولذلك فهو يبحث فيمسألة «طاووسي–ملك»، ويحلّلها «في إطار نظرية (الرمز–الأسطورة) والتثاقف الميثي بين الإيزيدية ككون سوسيوميثولوجيوالأكوان السوسيوميثولوجية الأخرى»، وهو يصل منذ الصفحاتالأولى إلى أنّ الميثولوجيا تقيم صلات وثيقة بين «طاووسي– ملك»والله، ويرى أنّ سيماء شخصية خوده دي/الإله، تتداخل مع سيماءشخصية طاووسي ملك، إلى درجة الحلول والتماهي، «ففي ذاتالوقت الذي يُنظر إلى طاووسي ملك لاهوتياً، على أنه ذاته فيمستوى، يُنظر إليه على أنه الآخر/الله (خوه دي) أيضا فيمستوى ثان». وبسبب هذا الضرب من التماهي والحلول فإنّه«يصعب على الإنسان الإيزيدي، الفصل بين حدود إيمانه باللهوحدود إيمانه ب«طاووسي ملك»، فالتعالق الميثي بين شخصيةالله، وشخصية طاووسي ملك في وعي الإيزيدي، له مرجعيتهاللاهوتية والأتنولوجية الضاربة في أعماق التاريخ والأسطورةعلى حد سواء».
لقد كانت أعمال هوشنك بروكا تحرص على نفي أيّة صلةللإيزيدية بالديانات السماوية أكثر من سعيها إلى البحث عنالرافد المركزي لمعتقدات الطائفة، وهكذا كان عمله موجّها وجهةمحدّدة سلفا، وذلك عيب دراسته تماما كما كان من هنات أعمالالمستشرقين. وبذلك يكون الاستشراق قد أنجب مولودا مستنسخامنه، بني على منواله وصيغ وفق أنساقه وذاك أحد وجوهالاستكراد. لذلك لم يتردّد أنور معاوية الأموي أمير الشقّ المدافععن تبنّي اسم «اليزيدية» في مهاجمة هذا التّوجّه الاستشراقي. ولكنّ خليل جندي كان أكثر واقعية والتزاما بضوابط البحث حينأقرّ بأنّ في الإيزيدية مزيجا من كلّ الحضارات والمعتقدات التيمرّت بها المنطقة، بما في ذلك الأديان السّماوية. ففيها من قصّةالتكوين والخلق البابلية والسومرية واليهودية أشياء، وفيها منالزرادشتية نتف، وفيها من المسيحية والإسلام بقايا طقوس. ولكنّكلّ ذلك لا يجعلها، حتما جزءا من أيّ عقيدة من هذه العقائد، ولاهو ينزّلها ضمن دين بعينه.[1]