لقائي بجكرخوين
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 4624 - #04-11-2014# - 19:56
المحور: الادب والفن
تتجاوز العلاقة مع الشاعر أو الصوفي فلسفة، الرباط المادي، والجلسات العابرة، لتقتحم الأبعاد الفكرية، والتلامس الروحي، عبر فضاءات التلباث بين المفاهيم، وتتجاوز اللقاءات الشخصية بأبعادها الكلاسيكية، لتخترق المكان والزمان وتعدمهما. هناك في مناطق من اللاشعور توجد مجالس بين الذات والملهم روحا أو فكراً، تحتدم النقاشات والأحاديث والانتقادات في كلية المرسل وحيا من ذات الشاعر أو الصوفي إلى الآخر حيثما يكون المتلقي، في الزمن القادم أو البعد الآخر.
سيداي جكرخوين، لم يتناوله النقاد الكرد، إلا بالإيجابية الغارقة في المديح إلى حد المطلق الذي لا يخطأ، والبعض وضعه كسقف نهائي لبلوغ الشعر الكردي الكلاسيكي، وهذه نتاج ثقافة غير متوازنة منتشرة في مجتمعاتنا الشرقية. فتناول شخصية سياسية أو أدبية لها مكانتها نادرا ما يتجرأ النقاد التنقيب في نتاجاتهم بصورة منطقية، ليعرضوا سلبياتها مثل إيجابياتها، وبشكل عقلاني وعلمي، دون أن يواجهوا وردود أفعال عدائية في كثيره، لهذا لم يتناول النقاد سيداي جكرخوين إلا بمطلق المديح، وهنا أراه نوع من الانتقاص المبطن بحق الشاعر أكثر من أنه بحث وتحليل منطقي لنتاجه الأدبي، يستثنى من هذا القلائل من الكتاب والنقاد الكرد، وكانوا فيها رواداً، ولم مغامرة سهلة، وهم يتعرضون إلى دواوينه وسيرته الأدبية، من أبعاد متنوعة، وربما هؤلاء يقدرون إنتاج الشاعر بمنطق أجمل وأثمن وأنقى من المادح المطلق، لكن مع ذلك بقي الكثير من الذي يجب أن يتلقفه النقاد، فهناك مجالات لا بد من دراستها بدون تضخيم وبتحليلات واقعية، ويجب أن يقارن بشعراء من عصره وقريبون من سيرته السياسية أو الفكرية، ولست هنا بناقد أدبي ولست مطلعا كفاية على أدبه، لكنني من خلال بعض الدراسات أرى أنه هناك زوايا لا ترقى إلى سوية جكرخوين الشاعر المعروض كمدرسة، وأنا في مقالي هذا لا أتناوله بنقد أو دراسة أدبية، فلا يحق لمن لا يكون مطلعا بكل أبعاد نتاجه أن يتطرق إلى هذه الجوانب، وما أعرضه هي علاقة روحية فكرية ومادية بين ذاتي والشاعر.
التقيت بجكرخوين شاعراً موحى في معظمه باستثناء لقاءين كحضور مادي، هناك فيما وراء حاسة اللمس والنظر، وجدته، وكان لو حضوره في اللاشعور أكثر وأوسع من الشعور، خيمت روحه عادة على كل المناسبات التي ثارت الحوارات حول كليته، أفكاره وقصائده ومثله وسياسته وماهيته وغيرها. من تلك الأروقة المتنوعة وخلال مسافات زمنية طويلة تلقفته بجانبيه الروحي الفكري والمادي، وتراكمت في ذاكرتي أراء وقناعات عنه وحوله، فطغى هيئته لدي بماهية قد يختلف البعض معي حولها. توصلت استنتاجاتي حينها على أنه الرجل الذي ربط بين الشخصية والكلمة إلى حد التقديس، ومثل هذه النتائج هي ما ترهب النقاد عن تناول كليته بدون حضور لهذا التقديس! فهو الاسم الذي لا يمكن أن يذكر بدون أسطر من قصائده التي خلقت ثورة في الوجدان الكردي منذ الظهور الأول، ومنها ما أصبحت أمثلة شعبية، فهو الشخصية التي جالت معه الانتقادات للذات الكردية بأبعاد طبقية، والمشار إليه في المجتمع الكردي كعنفوان للصوت الصارخ في التاريخين، الماضي والحاضر.
عرفته في بداية العشرينات من القرن الماضي، على أبواب تلاقي الزمنين، حاضره المتدفق قصيدة، وزمني حيث كنت والعدم موزعا بين مورثات لم تكن قد تلاقت بعد. وقف عليها جكرخوين في فترة (فقه شيخموس) يوم سار من قرية تل شعير (حاضرة) آل حجي سليمانا حسب واقع الكرد آنذاك، هادفا دوكر حاضرة آل عباس وحاضنة زعماء الكرد الملتجئين إليها بعد انكسار ثورة المرحوم الشيخ سعيد بيران، والشاعر بذاته كان من بين الألاف الرافضين لطغيان الطورانية الأتاتوركية المتصاعدة. كتب عنها وعن لقائه هذا في يومياته، ذاكرا الشخصيات الملتقية بهم وبدعوة منهم، مركزا على الشيخ عبد الرحيم أخ الشيخ سعيد، راسخا المكان حيث ديوان الأغا، سليمان عباس، الملجأ الذي أحتضن الشيخ عبد الرحيم لفترة مع العديد من قيادات الثورة، وزعماء عشائر من مناطق متفرقة من شمال كردستان، يسردها في يومياته، ترجمت إلى العربية من قبل الدكتور إسماعيل رسول، والحادثة هذه مذكورة في الحلقة العاشرة.
أجتاز الشاعر مراحل فكرية متضاربة، من التدين، إلى القومية، والتشدد فيها، ليحمل الراية الأممية مع الحزب الشيوعي السوري لفترة ما، ومعها منطق الصراع الطبقي، والذي ندب لها ديوانه الثاني، متضمنا قصيدته المشهورة (Apê Ho) والتي غناها شفان برور بإبداع، وتخطت صداها أبعاد مترامية بين الشباب في بداية الثمانينات من القرن الماضي.
شارك جكرخوين، بابلو نيرودا التشيلي وناظم حكمت التركي أفكارهم ومسيرتهم السياسية، دون أن يلتقي بهما، ورفع معهم راية الأممية ودافع عن الفلاحين والعمال، وتعذب من أجلهم، روحا وجسدا، إلى أن أنتقل عائدا على أحضان القومية دون أن يترك المفهوم الطبقي يوماً، حتى وبعد انتقاله إلى المهجر، مبتعداً جسداً دون الروح عن الوطن. وأصبح جكرخوين على أعتاب هذه المراحل الفكرية، يعرف في كل حضور بزاوية معينة، بعضهم كفروه بدون غياب احترام لمكانته، وأخرين قدروه لصراعه الطبقي مع الأغوات، والأكثرية لحسه القومي حتى ضمن ديوانه الأممي. هذه الأبعاد لم يتنازل عنها حتى بعد أن عاد إلى حاضنة القومية الكردية والروح الكردستانية، التي مجدها في أغلب دواوينه، وبقي وفيا لها، رغم استقراره في حضن حزب سياسي، بوجود لم يتعدى رمزا أفتخر به الحزب، متفرغا عقود من الزمن لإلهامه الشعري.
مرت السنوات، حتى بعد عقود من انعدام أسم (شيخموس) وطغيان أسم الشاعر جكرخوين على جغرافية كردستان بكل أجزائها، فكنت أسمع عن الشخصية الأسطورة، مستمعا من الكثيرين على أشعاره، وخاصة تلك الملتهبة قومياً. حدثت وبعد نصف قرن من الزمن المفاجئة اللامتوقعة، لقاء مباشر بعد اللقاء اللازمني الأول. في دمشق، صيف عام 1972 وفي فترة الامتحانات الجامعية، كنت مع أصحاب ثلاث نتسامر أحاديث متشعبة (الأخ شعلان علي، كنا معا قادمين من قامشلو للامتحانات، والأخين معصوم ديركي، وجمال شيخ باقي، كانا يديران الفندق) متكئين على منصة الاستقبال لفندق رضوان، ليفاجئنا شخصية بشعر وحاجبين كثيفين، وهيئة فيها الوقار، مبان عليه التعب من تسلق درجات الفندق، أنتبه إليه البقية، دوني، إلى أن ذكر أسمه على ما أظن الأخ معصوم وتقدم إليه جمال، لتلبية طلبه، بتأمين غرفة له، أسئلة بدون حدود تراكمت، ولم تجد واحدة طريقها إلى الخروج، سوى الترحاب والتمتع بمعرفته، وهو المتعود على مثل هذه المفاجئات والترحاب، بل وربما كانت في حكم الروتين الدائم بالنسبة له، وعلى الأغلب من جيل الشباب القومي والأممي معا. قضى اقل من ساعة بيننا ليمضي إلى استراحة من تعب الطريق الذي كان يلاقيه مسافرو قامشلو سابقا للوصول إلى دمشق مارين بمعظم مدن سوريا. في الصباح، خرجنا أنا والأخ شعلان إلى الجامعة حيث الامتحانات، وحين العودة كان شاعرنا قد غاب، بدون الحصول على استمتاع في حديث فكري قومي أو أدبي ما.
وبقي معرفتي بشعره وأسلوبه ومفاهيمه، متناثرا ومن خلال فتات ما اسمعه، حينها لم أكن ألم بالشعر الكردي، ولم أقرأ بالكردية إلا في نهاية الفترة الجامعية. وكنت على دراية بأن جكرخوين هو الشاعر الذي يقتدي به معظم الشعراء الذين اقتفوا الكلاسيكية في كتابة الشعر، وكثيرا ما كان اسمه يحضر في الجلسات مجردا من القصيدة، مواقفه، وأمثلته، ونادرا ما كانت تعرض أشعاره، فهو الشخصية الذي كان له في كل مجلس وكل قرية حادثة وحضور ما، فعلى هذه الأبعاد كنت ألتقي بخياله، وأحاديثه، وبعض قصائده الهائمة في الأجواء الكردية، دون الشخصية، نعم التقيت به مرات ومرات دون حضوره المادي الأول في فندق رضوان بساحة المرجة.
وكان الحضور المادي الطويل والأخير، عام 1975 وفي نهاية الربيع، عندما حل المستشرق الهولندي مارتن فان براونسن ضيفا علًيْ، واستمر قرابة الشهر، قضينا ثلاثة ليالي طوال في ضيافة الشاعر المرحوم بداره الكائن في الحي الغربي في مدينة قامشلو والذي يسكنه اللحظة بروحه وجسده.
جالت أحاديث طويلة، أتذكر منها، بعضها في الشعر، وطريقة كتابة القصيدة، والإلهام القادم إليه، وكيفية الترقيع على كل ما يتلقفه عند حضور الرؤية، وبالحروف العربية. تحدث عن الشعراء الكلاسيكيين الأوائل الذين حفظهم لكونه طالب تكية دينية فرض عليهم حفظها بطرق صوفية، ومنها أشعار فقه طيران وأحمدي خاني، وغيرهما، وخاصة تلك القصائد الصوفية المتعلقة بالروح الإلهية، تحدث عن مراحل انتقاله الفكري من التدين إلى القومية. سأله المستشرق مارتن أسئلة عديدة ومن بينها كان جوابه على أحدها ساخرة ومعبرة جداً، والسؤال كان حول سرعة التطور الفكري الاجتماعي الثقافي بين الكرد؟ أورد الجواب بحادثة لا زلت أتذكرها، وربما كررها في مناسبات أخرى.
قال: كان في الفترة التي كنت فيها شيوعيا مختفيا من الأمن السياسي في نهاية الستينات، في أحدى القرى الكردية، قاضياً النهار ضمن غرفة، وأئم الديوان (مضافة الأغا) في النصف الثاني من الليل، وفي كل ليلة عندما كنت أذهب إلى الديوان وفي لحظة ظهوري أمام الباب، كان يتركها ثلاثة أشخاص متدينين، ثلاثتهم حجاج، ولم يجري بيننا أي حديث، العملية وكأنها أتفاق لا شعوري، حضوري يعني غيابهم، وبالعكس. في أحد الليالي، وقفت بباب الديوان، خرج أثنان منهم، وأحدهم كنت أكن له احتراما وأحس بذلك منه أيضا تجاهي، اعترضت طريقه، ومنعته من الخروج، سألني السماح، قلت سأسمح بعد أن تجاوب على سؤالي، بعد قليل من الممانعة رضخ وأستمع إلي، سألته: لماذا تكرهون حضوري وأحاديثي، رد بدون تردد، أنك تكفر في أحاديثك، تطلب منا أن نرسل بناتنا إلى المدرسة مع الشباب، وآخر مرة سمعتك تتحدث عن رسولنا بأنه أخطأ، فقلت له فقط لهذه، قال نعم، فقلت له نعم أن الرسول أخطأ ثلاث مرات، وواحدة منها أنه تبول وهو واقف، هاج واقتحم الباب الذي كنت قد اعترضته بيدي، وهو يقول الم أقل لك أنك تكفر، وهو يمضي قلت له: أريد منك أن تسأل الشيخ عن الحادثة، ذكر جكرخوين بانه حدث لقاء بعده، سألته فيما إذا كان قد سأل الشيخ؟ وقال الحاج: أنه سأل الشيخ وقال أن كلامك صحيح، لكن مع ذلك فأن مجلسك فيه كفر ولا أستطيع أن أشارك فيه، مرت السنين وبالضبط في السنة الماضية( كنا حينها في السنة 1975) كنت سائراً مهموما في أحدى شوارع حارة قدور بك، وإذا بصوت يناديني، سيدا سيدا...ألتفت وإذا برجل مسن بعمري، يلبس جلبابا أنيقا، وبجانبه تسير فتاة جميلة بلباس المدرسة الإعدادية على الأغلب، وقف أمامي، مبتسما فرحا بلقائي، وشد على يدي بقوة، وهو يعيد بذاكرتي إلى الماضي لأتذكره، إلى أن سرد تلك الحادثة، تذكرته حينها وبالتفصيل، كان قد تغير، سعدت بلقائه، ومن خلال حديثنا القصير في الشارع، سألته هل هذه الطالبة الجميلة أبنتك، ردً بنعم، مبتسماً، وقال سيدا: كنا جهلاء في الماضي، وكنت تنصحنا لكننا لم نكن نعلم قيمة نصائحك، الأن تفتحت عقولنا، وكما ترى بناتنا الأن يذهبن إلى المدارس، ولا فرق بين الشباب والفتيات، وعلينا نحن الكرد أن نتعلم الكثير من أمثالك، بعد هذا الحديث، أخذته جانباً بعيدا عن الفتاة، لئلا تسمعنا، وقلت له حجي هل لي بسؤال، فقال بالتأكيد (سيدا) أنا الأن ليس كما تتذكره سابقا، فقلت له بهدوء: هل الفتاة تتبول واقفة أم جالسة؟ أنتفض، تعصب ونرفز، وقال جكرخوين، آخ، جكرخوين لا تترك أفعالك، تركني بوداع مستعجل، ومن خلفه، قلت له بصوت مسموع، أنني سعيد جداً وفخور بك وبطالبتك، التفت وابتسم مزعوجا على الأغلب. وهنا قال جكرخوين لمارتن، تصور مرحلة التطور السريعة التي أجتازها المجتمع الكردي، من الستينات إلى بداية السبعينات، قطعنا أشواطا طويلة، من رجل متدين لا يتحمل الحديث عن الرسول إلى رجل يسير في الشارع مفتخرا بابنته طالبة تلبس القصير. أنه هيئة يمثل مرحلة التغيير الفكري والثقافي والاجتماعي في المجتمع الكردي.
سيداي جكرخوين ورغم ما أوردته في مقدمة بحثي، من بعض الضروريات التي يجب أن يتقيد بها الناقد عند تناوله، سيبقى الصوت الذي سيدوي في جميع أطراف كردستان بأشعاره، أو أصوات المغنيين الذين يلهمون من قصائده، وسيبقى حاضرا في معظم جلسات الأدب والشعر أينما كان ضمن جغرافية الوطن، وفي كهوف اللغة الكردية، وسيبقى سيداي جكرخوين رمزا ومفخرة للشعر الكردي الكلاسيكي، وما يقال هنا في بينوسا نو أثبات على حضوره المستمر ضمن المجتمع الكردي الثقافي والعام، وسيبقى الأكثر حضورا من كل من يحضر جلسات الأدب والشعر، فلروحك الخلود يا سيداي جكرخوين، وقد سعدت بهذه الخلوة الروحية الصوفية معك ، وأني على ثقة أن هذه اللقاءات ستبقى مستمرة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]