في تركيا وشمال كردستان.. صراع وجودي للمرأة ضد محاولات الإبادة
هيفيدار خالد
شهد الداخل التركي منذ وصول رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان إلى السلطة، تغيرات كبيرة خلّفت من ورائها تداعيات كارثية على حياة جميع الفئات والشرائح الموجودة في المجتمع، وعلى وجه الخصوص المرأة. فالمراقب للشأن التركي والمتابع للمشهد السياسي الداخلي في تركيا، يرصد عن كثب حجم انتهاكات حقوق الإنسان والإجراءات التعسفية التي تمارسها السلطات الحاكمة المتمثلة بنظام أردوغان بحق كافة مكونات ومؤسسات المجتمع، وأساليب الحرب الخاصة ومفاهيمها التي يطبقها ضدهم، ويحاول من خلالها النيل من المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان والحقوقيين والإعلاميين.
أقدم حزب العدالة والتنمية منذ بدايته على إجراء تغييرات في ثقافة المجتمع العلمانية، فحوّلها إلى إسلامية تدريجياً خدمة لأجنداته الإخوانية المتشددة، فقد دفعت سياساته ملايين النساء لارتداء الحجاب، وعمل على إنشاء المدارس الدينية في جميع أنحاء البلاد، وخصص مليارات الدولارات من ميزانية التعليم لمدارس الأئمة والخطباء، وفتح المئات من المساجد والجوامع في جميع أنحاء تركيا.
انتهج أردوغان في البداية سياسة خاصة في المناطق الكردية وحاول من خلال الخطابات الشعبوية والوعود الكاذبة استقطاب الكرد إلى جانبه، إلا أنه فشل في ذلك؛ لذا حاول بشتى الطرق والأساليب اللاأخلاقية نشر الفوضى والفقر بين صفوف الشعب. حيث تعاني المدن والبلدات من أزمات اجتماعية حقيقية، ولم تتخذ الدولة حتى الآن وخاصة في المدن التي تعرضت لكارثة الزلزال أي خطوة، لتطوير نشاطات وفعاليات تهدف لتنفيذ مشاريع حيوية خدمية واقتصادية لصالح الشعب والمرأة والمجتمع. بل تهرع وراء خلق الفوضى ونشر البطالة بين صفوف الشعب. ونتيجة لسياسات الحرب الخاصة التي تمارسها بشكل ممنهج، تجبر مئات الشباب على الهجرة، والإدمان على المخدرات والتشجيع على العمالة، ومع تفاقم كل هذه الأزمات لم تعد هناك مساحة آمنة للنساء والشباب في البلاد.
فحكومة العدالة والتنمية عدوة للمرأة وتبثّ الفساد في البنية الاجتماعية، وتعطل السياسات والخطط التنموية المتعلقة بالمجتمع، وتبعد الناس عن قيمهم من خلال تشجيعهم على تعاطي المخدرات والعمل بالدعارة ونشر ثقافة الملاهي الليلية والكازينوهات، لأن النظام التركي يخشى من المرأة القوية والحرة والمنظمة والشبيبة الواعية في المجتمع، لذا يتم الزجّ بها في مجالات غير لائقة.
إذاً، ينتهج أردوغان سياسات الحرب الخاصة عبر نشر العنف والترهيب والفقر والهجرة والتجسس القسري، وإجبار النساء على الرضوخ لألاعيبه القذرة والابتعاد عن قيمهن وعدم تنظيم أنفسهن، وذلك لترك المجتمع دون أي تنظيم. لأن المجتمع غير المنظم يبقى من دون حماية، وبالتالي فإنه من السهل أن يتعرض للإبادة الثقافية. يومياً نواكب حالات العنف والممارسات التي تتعرض لها النساء الكرديات على يد الجنود والشرطة، وعشرات حالات خطف النساء، ومئات النساء اللاتي يتوفين في ظروف غامضة، وتصبح نهايتهن المأساوية موضع شكوك، يوماً بعد يوم تتراجع حقوق النساء في تركيا ويتعرضن لشتى أنواع السياسات والممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية، بالإضافة إلى هجمات تستهدف المرأة وجسدها، بغية القضاء على الثقافة والهوية الأصيلة، وتصعيد وتيرة عمليات الإبادة السياسية المتواصلة ضد كافة المعارضين للنظام وسياسته ومخططاته الفاشية.
جميعنا يعلم وجهة نظر حكومة العدالة والتنمية بالنسبة للمرأة وكيف ينظر إليها، فالنساء يجب أن يبقين في البيت وأن ينجبن الأطفال، وألّا يضحكن في الأماكن العامة، وألّا يجهضن ولا يرتدين ما يحلو لهن.
مسؤولون عن حزب المساواة وديمقراطية الشعوب أكدوا مراراً في تصريحات صحفية، أن جميع جرائم التحرش والاعتداء الجنسي والاستغلال والعنف التي ترتكب في المدن الكردية، منفذوها مسؤولو الدولة ومن أتباع وحاشية أردوغان وينفذون ما يطلب منهم، منوهين إلى مسؤولية هؤلاء المجرمين عن تصاعد وتيرة الجرائم البشعة في الفترة الأخيرة، وخاصة في منطقة نصيبين بشمال كردستان، معللين ذلك بغياب آليات المحاسبة، حيث إن الدولة تغض الطرف عن الأفعال والجرائم التي يرتكبونها، وأثناء مرافعتهم أمام المحكمة، يعبّرون عن ولائهم للوطن والأمة والعلم، وبعدها يطلقون سراحهم، دون معاقبتهم بصرامة، ويشجعونهم على جرائم كهذه، ومن ثم يقومون بحمايتهم بل ومكافأتهم في معظم الأوقات.
أحد الأمثلة الواضحة والشفافة التي تشخّص سياسات الحرب الخاصة التي تستهدف النساء والأطفال، الجريمة التي ارتكبها المدعو أيوب ك الذي تحرش بأربع طفلات بمدينة نصيبين، أعلن عنها بعد إبلاغ الطفلات معلمتهن بواقعة التحرش التي تعرضن لها، وبغية محاسبته، عقدت جلسة محاكمة أيوب ك بتاريخ 30 تشرين الأول المنصرم وعلى الرغم من أقوال الضحايا وتسجيلات كاميرات المراقبة والوثائق المتعلقة بالواقعة، قررت المحكمة محاكمة أيوب ك دون اعتقال. وصدر قرار إطلاق سراحه، رغم أن قرار إخلاء سبيله خاطئ وغير مقبول، إلا أنه تم إخلاء سبيله لأنه عبّر عن ولائه للوطن، ما يدل على أن القاضي والجاني متفقان معاً.
إلى جانب كل سياسات الحرب الخاصة هذه، فقد تصاعدت وتيرة العنف ضد المرأة في شمال كردستان وتركيا بشكل كبير، وخاصة بعد انسحاب أردوغان من اتفاقية إسطنبول لمكافحة العنف ضد المرأة، حيث وصلت مستويات العنف إلى زيادة بنسبة 75 بالمائة في عهد أردوغان، وصعّد من ممارسة عمليات التعذيب والتعنيف الوحشي خلف أبواب موصدة، ما فجّر احتجاجات نسوية وغضباً بين صفوف النساء والمنظمات النسوية الحقوقية.
قبل أسبوعين من الآن أعلنت منصة سنوقف قتل النساء في تركيا، من خلال تقريرها لشهر تشرين الأول الفائت، عن مقتل 37 امرأة، بينهن 18 امرأة فقدن حياتهن في ظروف غامضة. بحسب تقرير المنصة النسائية فإن 5 من النساء ال 19 اللواتي قُتلن، كانت الذريعة طلبهن للطلاق أو عدم قبولهن الصلح، أو عدم رغبتهن في الزواج من المتقدم لخطبتهن، كما قتلت امرأة بحجة الخلافات اليومية، فيما لم يُعرف سبب قتل ال 13 الأخريات، وذكر التقرير أن 68 بالمائة من النساء قُتلن في منازلهن، و63 بالمائة منهن قُتلن بسلاح ناري، طبعاً هذه حصيلة شهر واحد فقط، وقرار الحكم على هذه القضية يبقى لكم. وبحسب منصة سنوقف قتل النساء تُقتل 3 نساء على الأقل كل يوم في تركيا، بمعنى أن تركيا تستيقظ كل يوم على مقتل امرأة، يعني أن النساء هناك يتعرض للإبادة بالمعنى الحقيقي.
تصاعدت آفة العنف أكثر بعد أن رأى الرجال المقدمون على العنف، أنه لم تعد هناك آلية أو منصة أو مرجعية تقف مع المرأة، وبعث ذلك فيهم شعوراً بالإفلات من العقاب. بمعنى أنه لم يعد هناك حسيب أو رقيب لمحاسبة مرتكبي جرائم العنف ضد النساء.
الاتفاقية الدولية التي كانت تنقذ الأرواح توقفت عن العمل بها بقرار رجل واحد، وشكل ذلك خطوة كبيرة إلى الوراء بالنسبة للنساء. ليخرج أردوغان ويقول مراراً الاتفاقية تقوض النسيج المجتمعي، وتدمّر القيم والهياكل العائلية السائدة في تركيا، بتصريحاته الفارغة وخطابه العنصري يرسخ لذهنية تشرعن قتل النساء وتطمس الجرائم المرتبكة بحقهن، متجاهلاً ظاهرة اغتيالهن، ومنح القانون للقضاة سلطات واسعة وصلاحيات تجعل في أيديهم قرار تخفيض العقوبات والتهاون بها ضد مرتكبي جرائم العنف ضد المرأة، بحجج عدة، من بينها حسن سلوك الجاني، ووقوعه تحت تأثير الاستفزاز والعواطف الشديدة وغيرها من الأكاذيب التي لا يمكن للمرء تصديقها.
مسألة الانتهاكات اللاإنسانية ضد المرأة لم تعد تعبّر عن موقف خاص بأردوغان وحده، بل بطبيعة الفئات الممسكة بالقرار السياسي والنظام القضائي في تركيا، الذي يحمل مقاربات ذكوريّة في التعامل مع المرأة، كراهية أردوغان لحقوق المرأة تتجاوز كل شيء، وانسحاب أردوغان من الاتفاقية فجّر غضب المرأة في شمال كردستان وتركيا، ورسّخ لعداء تاريخي ضده وصعّب على أردوغان الكثير من الأمور.
نعم أردوغان ذكوري النهج، والذهنية الذكورية تهيمن اليوم على مؤسسات الدولة والمسؤولين، فبكل سهولة يمكن لأردوغان أو البرلمانيين أو الوزراء الإدلاء بتصريحات تهين المرأة، وتقلل من شأنها. ولا تتم الاستجابة لمطالب النساء لأن الحزب السياسي الحاكم حالياً يتصرف على حسب أهوائه، وحوّل جميع المدارس العلمانية إلى مدارس دينية، حتى يتعلم التلميذ عدم طرح الأسئلة وقبول ما قيل له دون التفكير المسبق فيه. وذلك في مسعى منه إلى منع المساواة بين فئات المجتمع، وقمع النساء بكل الوسائل، حيث إن السلطات تعاقب المدافعات عن حقوقهن، وتفرض التمييز والعنف على المجتمع في آن معاً.
في الأحزاب السياسية بتركيا مثل حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، تُعتبر النساء واجهة للحزب فقط، بينما في حزب الشعوب الديمقراطية، وحزب المساواة وديمقراطية الشعوب، تلعب النساء دوراً فاعلاً وقوياً، ويساهمن في تصعيد النضال الأيديولوجي الحقيقي من أجل حماية النساء والمكتسبات التي حققنها طوال مسيرتهن النضالية.
لذا على النساء عامة والمنظمات النسوية خاصة مناهضة سياسات الحرب الخاصة الممنهجة التي تحاول استهداف كل القيّم التي أسستها الحركة النسائية الكردية بجهودها وعرق جبينها، والعمل على حماية حقوقها الحالية، وتعزيز دورها، وتطبيق القوانين المطلوبة، لتحقيق مطالب المرأة في الحياة، ووقف كافة أشكال العنف الممارسة ضدها، وأن يُنظر إلى المرأة على أنها إنسان، والمطالبة بمحاسبة نظام أردوغان الفاسد الذي لم يجرّم آفة الدعارة في تركيا، بل ترخّص من قبل الحكومة التي تساعد على انتشارها. وتفتح الطريق أمام تشكيل هيكل عائلي أبوي بحت يقمع المرأة ويغتصب إرادتها.
لذا على النساء تعزيز صفوف النضال وتنظيم ذواتهن، وعدم التنازل عن حقوقهن والكفاح ضد الأبواق الإعلامية الموالية لأردوغان، والتي تقول إن اتفاقية إسطنبول تدمّر القيم والهياكل العائلية، وأن يصدحن بأعلى صوت بأن العنف والموت والسياسات التعسفية ليست مصيرهن، وأن استعادة الحياة التي يحاول أردوغان سلبها هي هدفهن. والوقوف جنباً إلى جنب والتكاتف معاً لكسب هذا النضال التاريخي، وتطوير الأنشطة والفعاليات النوعية ضد سياسات الحرب الخاصة، لأنه فقط من خلال حماية قيّم المرأة، والتنظيم وزيادة الدعم، تستطيع النساء تطوير الوعي بالدفاع عن النفس ضد أساليب الحروب الخاصة الحديثة التي تأججها مفاهيم أيديولوجية الحداثة الرأسمالية، وفضح هذه الحرب وتطوير الدفاع الأيديولوجي عن النفس، وترسيخ روح النضال من أجل بناء مجتمع ديمقراطي يتمحور حول المرأة، وإحداث التغيير والتحول الحقيقي والانتصار على عمليات الإبادة السياسية والثقافية في كل زمان ومكان. [1]