المطعونة تاريخيّاً (مشاهدات وتداعيات) - 1 -
#هيثم حسين#
في دارِى darê يُقتَل التاريخُ وينقتل:
سُئل الشاعر الكرديّ الشهيد موسى عنتر ذات يوم عن مدّة إجازة ضيوفه فقال: كانت شهراً فجعلناها شهرين. وعندما استُفهم منه عن كيفيّة إطالة المدّة، أجاب: أوصلنا الليل بالنهار، فكان الشهر شهرين.
هكذا حاولت أن أفعل في زيارتي القصيرة، وذلك في المأذونيّة المسموح بها في العيد (48 ساعة)، وفق الاتّفاقيّة الموقعة بين البلدين (سوريا وتركيا)، حرصت على أن أوصل الليل بالنهار، لأستفيد من الوقت قدر المستطاع.
لم يكن ذلك تطبيقاً منّي لمقولة عمر بن الورديّ: غب وزر غبّاً تزد حبّاً / فإنّ من أكثر الترداد أقصاه الملل، بل التقييدُ الزمنيُّ ألزمني بتطبيقها، بأن أزور أكثر ما يمكن في الوقت المحدَّد، لأنّ الترداد على الأحبّة أو تردادهم علينا يكون غاية الرضا والبهجة، ولن يكون مدعاةَ ملل أبداً. فكان البرنامج الذي وضعته لنفسي، بأن أتنقّل بين نصيبين وماردين وقزل تبه وسري كانيه، يتخلّل ذلك توقّف في القرى، التي هي موطن الآباء والأجداد في الماضي القريب، قبل أن يتشتّت الإخوة في المكان، والتي لا تزال موطن ومسكن الأعمام والأخوال ومتفرّعاتهم من ابن عمٍّ أو ابن خال... إلخ.
ولم يشكّل التنقّل من مدينة إلى أخرى، أو في المدينة نفسها من مكان إلى آخر، أيّ إشكال، وبخاصّة من ناحية اللغة، فاللغة الرئيسة هي الكرديّة، كلغة الشارع والشعب، فكان السؤال يُجاب بابتسامة وترحاب، حيث لا يشعر المرء بأيّة غربة، أو أيّ بعدٍ نفسيّ، كما يتصوّر ساكن ال (binxet ) قبل أن يزور ال (serxet )، أو العكس، فكلّ من يتصادف أن تسألهم يصبحون لك أدلاّءً يوصلونك إلى النقطة التي تريدها.
كان هذا هو التلاقي الظاهريّ والمتبدّى بداية، ولكن عند التعمّق في جوهر البعد والإبعاد المعمول به، تبدأ الاختلافات التي تشقّ طرق الخلافات على أمور لا تستحقّ أن تصبح موضع الخلاف، ليس ابتداء بطريقة إعداد الشاي أو شربه، أو الفروق اللغويّة التي اكتسحت اللغة الكرمانجيّة، هنا تأثّراً بالعربيّة، وهناك انسحاقاً مؤسفاً ورضوخاً مُكئباً للتركيّة، وليس انتهاء بالصدوع التي تتعمّق بين العقليّتين، هذا إذا كنّا حسني النيّة بأن نقسّم كلّ جهة إلى عقليّة، والحقيقة تقول إنّ كلّ جهة هي منقسمة على نفسها وعلى العقليّة الواحدة، بعقليّات مختلفة، منها ما هو متآلف، ومنها ما هو منقلب على نفسه وعلى غيره، ومروراً بالأمور الحياتيّة المختلفة.. ولا أستبسط التمسّك بتلك التي تبدو وكأنّها صغائر الأمور، لأنّ أعظم النار من مستصغر الشرر، وهذه الصغائر هي التي ستعظم بمرور الوقت القليل، لأنّها لن تعالج..
صحيح أنّ الأنظمة التركيّة قد سمحت للكرد في المناطق الكرديّة بالتمتّع ببعضٍ من الحرّيّة الثقافيّة، وأبدت نفسها وكأنّها قد انسحبت جزئيّاً من الساحة التي كانت تحتكرها، لتُدخل إليها جانباً من الثقافة الكرديّة الناشئة، لكنّها تركت خلفها إرثاً كارثيّاً، تركت خلفها حلفاء صدوقين جدّاً معها، وأعداء للشعب أشرس منها، خلّفت بين القوم الجهل والتخلّف والتعادي والتناحر والبطالة، وفوق هذا وذاك، خلّفت تراثاً من الدين المشوَّه الذي يحتاج إلى عشرات السنين حتّى يستقيم، هذا إذا بالغنا في التفاؤل ، فيكفي أن تتلفّظ بجملة عربيّة، ومن ثمّ تنسبها إلى القرآن أو إلى السنة حتّى يكتسب كلامك قداسة لا تُطاوَل، وهذا ما يستغلّه مدّعو التديّن؛ أذناب الأنظمة.
وإذا ما تجاوزنا عتبة الحدود، التي هي حدود وألغام ومقاصٍ ومقاصل بأكثر من معنىً، سيكون المرء في نزال بعيدٍ عن تكافؤ الفرص، في حلبة التاريخ، على أرض يشهد لها التاريخ برسوخها في جغرافيّتها، ويشهد لها الكلّ التجاء الآخرين إليها، حتّى لكرمها المفرط، ظنّ الملتجئون إليها، إن هم إلاّ في أرضهم التاريخيّة يقيمون، وتمادوا في ظنّهم، وتمادوا على المكرمين عليهم، فحاولوا أن يستبدلوها، سعياً إلى إحلال المستجدّين فيها بعد تفريغها من مانحيها ومانحيهم الإقامة والاسم والبقاء، ليكون ردّ الجميل بنكران الجميل نفسه. وذلك مداواة لؤم بداء آخر، واستقبال الكرم والبشاشة ببالغ التشفّي والخساسة..
لن أكون أسير التاريخ، ولا أقبل أن أكونه، ولن أحبس نفسي في قفص جغرافيّةٍ لا تتجاوز بضع عشرات من الكيلومترات، (وهنا أقصد حدود قرىً بعينها ولا أقصد المناطق الكردستانيّة الحدودية كلّها)، ولن أعيد اجترار أمجاد ماضٍ تليدٍ كان ذات يوم ما كانه، لكن سأعتمد على أطلال عظمة تاريخيّة، تفضح بدورها التزوير العبثيّ المطبّق عليها، وتكشف عري التشويه الملحق بجغرافيتّها، وهنا، عندما سأتحدّث عن مكان تاريخيّ، لا أقصده بذاته فقط، ولا أقوقع نفسي فيه، رغم قربه إليّ مكانيّاً وتقديريّاً، بقدر ما أذكره نموذجاً ومثالاً على ما يحدث من جرمٍ بحقّ تاريخ يتبرّأ من مدوّنيه ومزوّريه، ويحنّ إلى ملاحم منقوشة على رُقُم وأحجار معتَّم عليها، مخفاة في أقبية مزوّرين، يسعون جهدهم، وسيسعون لإبقائها في العتمة، لأنّ نورها يعمي أبصارهم، ولن يكون هناك أيّ بارق أمل لينير بصائرهم، لأنّها قد تلفت، ولا يفيدها الترميم أو الإبدال، ولن تعيدها أيّة عمليّات جراحيّة، لأنّها وُئدت منذ زمان طويل، أو لأنّ شبكيّة البصيرة قد اختُرِقت بناءً على الطلب.
سأتوقّف عند مكان توقّفت عنده قبل أكثر من سنة، في مقالة كتبتها وقتذاك بعنوان (قرية darê رهين الظلمين) ونشرتها في عدد من المواقع الإلكترونيّة مرفقة بالصور التي تبيّن الخراب والتخريب الملحقين بها من الطبيعة، ومن الأنظمة، ومن أهلها.
أُخبِرت هاتفيّاً بعد تلك الزيارة، بأنّ أعمال الترميم قد بدأت في سجن darê، وبأنّ فريقاً بقيادة بروفسورٍ بدأ التنقيب في القرية. وفي زيارتي هذه صمّمت أن أزور بداية قرية darê، لأطمئنّ على عظمتها التاريخيّة، هل حُميت أم هل تَمُودي في إهمالها..؟!!!
شاهدت بأمّ العين، وصوّرت بأكثر من عين إلكترونيّة، ما يُفترض أنّه رُمِّم، رأيت بأنّ الترميم اقتصر على إزالة بعض الأوساخ والأتربة المتراكمة في أرضيّة السجن، والتي أنتجت ظهور عدّة درجات نحو الأسفل، أظهرت أحجاراً مكتوباً عليها بعض الكتابات، هذه الدرجات التي كان يشكّل التراب المتراكم عليها منزلقاً زلقاً جدّاً، تزحلق عليه أحد الزوّار – كما قيل لي - الذي أصيب إثر سقطته بنزيف دماغيّ قضى عليه، خاصّة كانت العتمة هي الطاغية مع التعتيم، ولا تزال، كما لم يتجاوز هذا الترميم إضاءة هذا السجن التاريخيّ ببعض البجكتورات، التي هي وقف للأطفال يتسلّون بها ما شاء لهم أن يتسلّوا، دون أيّ مهتمّ، أو موظّف، أو مكلَّف.. كما شاهدت بأنّ البَرْطويل قد سقطت منه بضع حجرات أخرى، أي قَصُر، وأشدّ ما أخشاه أن يصبح بعد بضع سنوات (البَرْقصير أو القزّوم).
بالتأكيد لا أسرد نكاتاً هنا، ولكنّها الحقيقة المؤلمة المرّة، والتي تحتاج إلى أكثر من مساهم للمحافظة على ما يمكن المحافظة عليه، أي إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما يقال.
إن كانت المجتمعات الحيّة تُحيي مُواتها وأمواتها، وتهيّئ أرضيّة خصبة لتطوير أحيائها، فعلى العكس منها، المجتمعات الميتة تميت أحياءها، وتقضي على كلّ ذكرٍ لأمواتها، وتجهز على الميّت بأن تقصيه من ذاكرتها، وتمحو كلّ أثر يشي به، أو يشير إليه، من أرشيفها، وهكذا يكون التعامل مع الآثار، لأنّها زوّادة المستقبل، اتّكاءً على عظمة الأسلاف، لتشييد فرادة الأحفاد، لا حنيناً ماضويّاً يعكس عجزاً حاضراً، بل حفظاً لإبداعٍ إنسانيّ في هذه المنطقة التي تُخَلَّى وتُجوَّف من التاريخ، ومن هنا، الأحياء يحيونها، يجذّرونها، يرمّمونها، أمّا الأموات يقضون عليها، يفنونها، يتفانون معها، يجعلونها قبوراً لأنفسهم، وتاريخهم، وحاضرهم ومستقبلهم..
أعتقد أنّ إنقاذ الكلّ بات من شبه المستحيل، لأنّ منها ما ضاع، ومنها ما اندُثر، ومنها ما يندثر، والباقي رويداً رويداً يطاله التبديد والتضييع والاندثار، لقد فات من الوقت ما فات منه، في انتظار من سيبادر إلى إنقاذ العظمة التاريخيّة من براثن الوحش الساعي إلى تبديد وتشتيت الجغرافيّة الواحدة جغرافيّاتٍ للاستفراد بها، وتقديمها ولائم على موائد السلاطين.
انتصر التاريخ لاسمه، نوعاً ما، بأن أعادت الحكومة التركيّة اسم القرية (دارا) كما هي معروفة تاريخيّاً وحاضراً، بعد أن كانت قد ترّكتها إلى دارا أوغس.
حذفت اللاحقة اللغويّة منها، هذه الزائدة التي بقيت في الكثير من الأسماء الأخرى في جغرافيّتنا المطعونة تاريخيّاً، هذه الأحرف الزائدة قسراً، والتي هي أبشع من الزائدة الدوديّة، تتريكاً وتعريباً وتفريساً..
لن أرفق المقالة هذه بالصور، رغم أنّي أملكها، لئلاّ أصدم بها مشاعر الجميع، وعشّاق الآثار عامّة، أو أؤذي بها عيون المشاهدين الذين سينتكبون لما سيرونه، ومن هنا أقترح أن تصنَّف آثار darê على لوائح الأمم المتّحدة ضمن التراث الإنسانيّ المهدَّد بالاندثار.. وأكتفي بالقول:
إنّ خراباً وتخريباً كبيرين يحصلان في darê.. وإنّ تاريخاً بعمق آلافٍ من السنين يضاع وينتهي إلى غورٍ..
مَنْ المنقذ.. ؟!!! من سيكون ذاك.. ؟!!!
[1]