قراءة مختصرة في أدبيات الأحزاب الكردية في سوريا
محمد قاسم (ابن الجزيرة):
ibneljezire@hotmail.com
توطئة:
هذا البحث محاولة لفعل تنويري يمكن أن يلفت انتباه أبناء الشعب الكردي –أحزابا وغير حزبيين) إلى أن الحالة الحزبية الكردية في سوريا –وربما في غيرها أيضا – تعاني من مشكلة التضخم العددي الذي لا يستند إلى مبررات واقعية، لا من حيث العد السكاني للكرد في سوريا (يقدرون بقرابة 3 ملايين نسمة) ولا من حيث الأفكار والمناهج والبرامج المعتمدة (أو الأيديولوجيات)أو غير ذلك..!
وكما سيظهر لنا من أفكار البحث فإن وسائل العمل السياسي (الحزبي) هي أيضا واحدة على الأغلب لدى جميع الأحزاب ما عدا بعض الجزئيات التي تلعب الصراعات والمنافسات المصطنعة في اختلافها بينها..! وهذا ما سبب وجود تقصير في الأداء الحزبي إلى درجة يفترض أن لا يسكت عنها أصحابها قبل غيرهم، فما بالك إذا كانت هذه الأحزاب تزعم التمثيل الشعبي بطريقة أو أخرى من الناحية الواقعية والعملية -وإن كانت أحيانا تصريحاتها تظهر تمثيلها لذاتها- ولكن ممارستها ميدانيا لا تزال تعكس نظرة مبنية على حالة الحزب الكردي الأول، عندما كان هو الحزب الوحيد الذي يمثل الشعب الكردي كله في سوريا..!!
البحث
قراءة مختصرة في أدبيات الأحزاب الكردية في سوريا
(حول عوامل الاتفاق والاختلاف فيها، وبعض المقترحات)
مقدمة
إذا حاولنا استخدام تعريف من واقع الممارسة السياسية، أمكننا تعريف السياسة باعتبارها: (السلوك المؤدي إلى المصلحة).
وبغض النظر عن العمومية في الدلالة في هذا التعريف، فإنه يلخص مجريات الواقع السياسي في مستوياته المتعددة:
أ- المستوى المحلي (الممارسة السياسية ضمن المدينة، أو ضمن المحافظة، أو ضمن الوطن, أو ضمن الحزب الواحد، أو ضمن العلاقة بين الأحزاب على مساحة الوطن...الخ).
ب- المستوى العالمي (الممارسة السياسية مع المحيط الإقليمي، والمحيط الدولي العالمي).
السياسة –إذاً وكممارسة- تبدو وكأنها : تجسيد لمصالح السياسيين –المشروعة وغير المشروعة– (مصالح القادة، مصالح الأفراد –مصالح الجماعات المختلفة، مع الأخذ في الاعتبار -دوما- أهمية الموقع الإداري(القيادي) ضمن المؤسسة السياسية، (حزبا، حكومة، تجمعا..الخ) وفعالية هذا الدور.
وبطبيعة الحال؛ فإن الإطار العام المفترض للمصلحة هنا هو: البعد القومي و البعد الوطني.
وإذا شئنا تحديد معنى المصلحة في هذا السياق، فربما كان التعبير التالي يحقق شيئا من ذلك، وهو:
(المصالح تتكون من مجموعة أحوال) أو( تتبدى في مجموعة أحوال) مثل:
-حب السلطة.
–حب الجاه (الظهور والتأثير).
- الميل إلى تحقيق الرغبات في حدودها القصوى، ومنها: - حيازة المال وتنميته باعتباره (وسيلة تحقيق الرغبات)....الخ.وهذه تكون مشروعة عندما يتغلب الميل إلى تحقيق المصالح العامة إذا تعارضت مع المصالح الخاصة؛ باعتبار أن المصالح العامة هي في خدمة الجميع، بينما المصالح الخاصة تكون في خدمة البعض فقط، مما يوجد حالة انقسام في العيش وفي التعامل بين أفراد ومجموعات المجتمع المختلفة. وهذه المصالح جميعا تتداخل وتتآزر مشكِّلة معا( كلاًّ معقدا مركبا).
وتكوِّن المصالح – بشكل خاص- المحور في المستوى الثاني من الممارسة السياسية. أي (المستوى العالمي) من الناحية الواقعية (الممارسة) وربما تناقضت مع القيم الأخلاقية الإنسانية (المثالية).
ومن المؤسف أن هذه الثقافة سياسيا تكاد تأخذ شكلا مشروعا بالمعايير السياسية الدولية باسم الواقعية أو ما شابه.
وبغض النظر- مرة أخرى- عما يمكن أن يبرز من أخلاقيات، يمكن أن تطعم بها الممارسة السياسية- كتفسير أو كطموح- فإن الحقيقة المعبرة عن (تجسيد المصالح في الممارسة السياسية ) تبقى قائمة، وتبقى محتفظة بقيمتها العملية، أي (كما تجري المصلحة في الممارسة السياسية في الواقع).
بعبارة أخرى:
المصلحة في الممارسة السياسية هي ( حقيقة واقعة). ويسعى السياسيون إلى تحقيقها، تحت مسميات متعددة مثل: - المصلحة الشخصية - المصلحة الوطنية - المصلحة العامة - المصلحة العليا...الخ. ويعبر عنها بأساليب مختلفة، كما يختلف أسلوب تبرير السلوك إليها..!
وبغض النظر عن (المعنى الفلسفي للمصلحة، والمبرر الأخلاقي لها) أو مدى مشروعيتها، فإنها تبقى حالة واقعة دائما.
إذا – وفي المحصلة- فإن الممارسة السياسة هي : (مصلحة) من نوع ما.
والسؤال:
- ما هو نوع المصلحة؟
- ما مدى مشروعية المصلحة ؟
- متى تكون هذه المصلحة مشروعة، ومتى تكون غير مشروعة؟
-والمشروعية ذاتها ما هي؟ ما مرتكزها؟ ما معيارها؟...الخ.
(ضرورة تحديد معايير واضحة لفرز الحالات المشروعة للمصلحة عن الحالات غير المشروعة فيها).
تفرض علينا الإجابة على هذا النوع من الأسئلة توفر:
- (مستوى علمي) يؤهلنا للتعامل معها، ومحاولة الإجابة عليها.
- (مصداقية) ضرورية توفر قبولنا كمؤهلين لمحاولة الإجابة على الأسئلة.
- (تاريخ حياة) يوفر مناخ المصداقية، التي تبث الثقة في نفوس المهتمين..! وإن كان هذا التشخيص محل أخذ ورد نوعا ما، أي أن هذه المفاهيم الإنسانية ذات طبيعة تجعل الاختلاف طبيعيا وأحيانا معيقا للتحديد والتوضيح بشكل عام.
ونحن بدورنا -ودون الزعم بأننا نحوز على هذه الشروط بكفاية -سنحاول أن نجيب على هذه التساؤلات وغيرها.. مما يطرحها البحث، آملين أن نثير الانتباه إلى الإجابة عليها و إن لم نتوفق نحن في ذلك، فنحن نسعى للمساهمة في قضية إشكالية بعمق هي (تحديد المصلحة ومشروعيتها في السياسة خاصة)، وتحتاج دوما للمعالجة.
لا ندري إذا كانت هذه المقدمة موفقة أم لا، ولكننا ندري أنها صحيحة بدرجة كبيرة.
ولعلها تعيننا في فهم أسباب الاختلافات التي تعيشها أحزابنا الكردية السورية على ضوء المصالح التي تراها لذاتها.
فهل هي مصالح حقيقية واقعياً أم أنها مصالح متوهمة؟.
وهل تستأهل هذه المصالح بان تُضحى من اجلها المصالحُ العليا (العامة) للشعب؟.
وهل هذا الواقع الذي تعيشه هذه الأحزاب من ضرورات العمل النضالي وظروف الشعب الكردي الواقعية؟. أم أنها عوامل ذاتية (ومتخلفة ) تلعب دورها في واقع هذه الأحزاب؟.
أسئلة أخرى كثيرة يمكن أن تطرح.
فلنحاول أن نلقي الضوء على بعض هذه الأمور، آملين أن ننجح في ذلك بروحية الباحث لا المتحيز, فإن فشلنا، عوضُنا في ذلك أننا حاولنا، ولنا شرف المحاولة, ويمكن لمن شاء أن يحاورنا في هذه الأفكار، أن يفعل ذلك مشكورا, فشعارنا قول الخليفة عمر بن الخطاب:
((رحم الله من أهدى إلي عيوبي)), والله الموفق.
نبدأ البحث بعنوان :
قراءة مختصرة في أدبيات الأحزاب الكردية
(عوامل الاتفاق والاختلاف فيها وبعض المقترحات)
من المعلوم لدى المتتبعين للحالة السياسية الكردية في سوريا، أن عدد الأحزاب الكردية اليوم يتجاوز (12) اثنا عشر حزبا؛ انسلخت جميعا عن رحم حزب واحد اسمه:(الحزب الديمقراطي الكردي في سورياالبارتي).
((يذكر السيد محمد ملا احمد في كتابه صفحات من تاريخ حركة التحرر الوطني الكردي في سوريا-القسم الأول، ص 34 العنوان التالي:1-كيف تأسس البارتي الديمقراطي الكردستاني في سوريا, ويشير في ص39 إلى ((البند الذي يعتبر تحرير وتوحيد كردستان جزءا من أهدافهم الرئيسية، وهو ما ينفيه السيد عبد الحميد درويش في مناسبات مختلفة، والأرجح أن نفي السيد درويش هو موقف سياسي لا تاريخي).
وقد تأسس هذا الحزب في الرابع عشر من حزيران عام/ 1957/ على يد مجموعة من المتنورين حينذاك(2) مع ملاحظة أن المؤسسين الأول للحزب كانوا –بحسب محمد ملا أحمد-هم: ((وبرأيي، المؤسسون حسب القدم (إن صح هذا التعبير) هم: عثمان صبري، حميد سليمان حاج درويش، حمزة نويران، الشيخ محمد عيسى ملا محمود، رشيد حمو، محمد علي خوجة، خليل محمد وشوكت حنان.)) ولكن لا يتفق معه السيد حميد درويش في عدد من القضايا منها هذه, انظر كتابه: أضواء على الحركة الكردية في سوريا, وإنني وجدت فيه مذكرات وانطباعات أكثر منها دراسة علمية لحقبة من تاريخ الحركة الكردية في سوريا، وربما لم يخل منهج السيد محمد ملا احمد من تأثيرات سياسية في أسلوب عرض معلوماته.
وقد استمر في عمله النضالي، حزبا واحدا حتى عام /1965/ ليعلن أول انشقاق على نفسه (انقسام) بسبب ما كان يعاني منه من ( الإشكالات الرؤيوية الفكرية) يمكن القول عنها( بنيوية) لا من الناحية النظرية فكريا بقدر ما كان ناتج حالة معاشة اجتماعيا وتربويا (عمليا), وذلك بسبب غياب:
1- المقومات الذاتية الناضجة (وعي سياسي في مستوى الظروف، عوامل اجتماعية ناضجة، خبرة تنظيمية وعملية في مستوى المرحلة...الخ).
2- العوامل الخارجية (الموضوعية) المناسبة(3), (كالظروف الدولية المناسبة والموافقة على استحقاق الكرد السياسي، نمط علاقات متفاعلة بين الكرد وبين العوامل الخارجية هذه...الخ).
ونتيجة لذلك فكانت الحالة السياسية الكردية تدار من (قيادة حزبية غير متجانسة) في مستوى:
أ- التكوين النفسي (طبيعة تكوين الشخصية ومستوى نضجها وتوازن القوى فيها).
ب– التكوين الثقافي (مستوى التعلم أو المستوى المعرفي للشخص الكردي بشكل عام مستوى النضج والوعي).
ج-التكوين الطبقي (تركيبة المجتمع الطبقية من الناحية الاقتصادية...الخ. فضلا عن (غياب رؤية سياسية واضحة الأهداف والوسائل).
ولا نعني بذلك انسياقا مع النظرية الماركسية في تصنيف الطبقات -على الرغم من أهمية معالم هامة فيها– وإنما نعني بها الحالة الواقعية التي كان الكرد يعيشونها حينئذ.كما لا نعني بها أن ظروفا موضوعية من الناحية الفكرية كانت سببا بقدر ما كانت ظروف ذاتية مطعمة بظروف موضوعية ناتجة من التأثيرات التربوية بالدرجة الأهم، ومناخ اجتماعي معاش واقعيا (عمليا).
هذه النخبة التي أدارت القيادة الحزبية-حينذاك- كانت متباينة –كما أسلفنا– في تكوين الشخصية تربويا ومنها :
- نسل الأغا(الإقطاعي ) (عبد الحميد درويش مثلا..).
- شيخ الطريقة (المتدين الصوفي ) (الشيخ محمد عيسى مثلا).
-ابن الطبقة الوسطى-إذا جاز التعبير- (تجار-موظفين، خالد مشايخ مثلا..).
- ابن الطبقة الكادحة (الفلاح، العامل، وخاصة الملا الذي كان يمثل حياة وسطى بين طبقة الفلاحين والعمال وبين الطبقات الغنية نوعا(درويش ملا سليمان-عبدالله ملا علي مثلا...الخ.
لم يكن متاحا لأبناء الطبقة الكادحة أن يكونوا في المستوى القيادي الأعلى ضمن الحزب بسهولة، ولكنهم كانوا يشكلون القاعدة الجماهيرية. ولبعضهم مستوى من الوعي العملي استمده من التجربة الحياتية اليومية بقابلية ذكائية خاصة.
كان يجمع بين هؤلاء جميعا، فقط، شعورهم بالانتماء إلى قومية مظلومة، وبأنهم مدعوون إلى نضال في سبيل أبنائها، كما كانت تنقصهم (الخبرة السياسية بآفاقها الثقافية الاستشرافية) اللازمة لقراءة صحيحة للواقع والتاريخ، وبالتالي: (استشراف مقتدر للمستقبل.
ولعلهم كانوا معذورين في ذلك، لأن الظروف التي كونت بيئة حياتهم هي التي ساهمت في تكوين و بلورة الصيغة العملية التي أداروا بها سياستهم الحزبية، والتي أوجدت بدورها بيئة عمل حزبي قوامها :
(مكونات نفسية لم تصقلها الخبرة السياسية، لجهة بناء الشخصية المستقلة فكريا خاصة، والواثقة من المعطيات التي تستقي منها؛ رؤاها النظرية، ونهج سلوكها العملي والحياتي –أحيانا- فكان الأداء في العمل الحزبي النضالي متأثراً بهذه الظروف والعوامل جميعها. ويمكن إجمال ذلك في التالي :
اللوحة الاجتماعية للحياة الكردية
( بعض تشخيص وتحليل )
يمكن أن نقسم بشيء من التجاوز المجتمع الكردي في فترة تأسيس الحزب الكردي الأول إلى:
1- إقطاعي ( يمثله المختار وقد يكون المختار اسما لحالة إقطاعية في مستوى ما).
2- شيخ الطريقة ( ويرتبط به المريد والذي يسمى الصوفي ).
3– فلاح يتعامل مع الزراعة، وعامل يؤدي مختلف الأعمال –بما فيها العمل الزراعيمريبا).
4– ملا (إمام جامع (تلميذه فقه).
5– سيد ( شريحة اجتماعية تزعم الانتماء إلى نسل الرسول (صلعم).
6– مهن مختلفة أخرى.
مرة أخرى، وبشيء من التجاوز- يمكننا أن نصف واقع كل طبقة أو شريحة أو فئة..الخ (مصطلحات من فقه الفكر الماركسي في ميدان السياسة ). نصف هذا الواقع كالتالي:
1- الإقطاعي : ربما كانت هذه التسمية غير دقيقة في واقع المجتمع الكردي، باعتبارها مصطلح (ماركسي) أساساً، أنتجه واقع أوربي في مرحلة تاريخية معينة. ولكن التسمية تصلح للتعبير لتدل على الشخص المتنفذ؛ والذي يملك مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، - ربما- ويرأس عشيرته ،وهو الغالب في المجتمع الكردي (وظيفة قيادية اجتماعية مرتكزها حالة اقتصادية واجتماعية) ويتجاوز في ملكيته، حدود قريته إلى أكثر من قرية، يرتبط به – عادة – مختار يدير القرية (أو القرى) التابعة له ( يمثل الإقطاعي) ولا يقل شدة عنه في معاملته مع الفلاحين.
2- شيخ الطريقة : والذي يمثل (الاتجاه التصوفي) في الإسلام، وله نفوذ روحي واسع وان لم يملك -بالضرورة– مساحات واسعة من الأرض الزراعية، ما دام نفوذه الروحي يوفر له كل ما تحتاجه (التكية) من تمويل مختلف ألوانه (4) وربما تمتع بمستوى معرفي ديني يؤهله لتنوير اجتماعي، وربما كان فقط لقبا توارثه عن آبائه ولا يمثل سوى إرث على الطريقة العشائرية (ابن الآغا آغا، وابن الشيخ شيخ ..وهكذا).
وإن هذا التوريث بأسلوب آلي يجعل المجتمع في حالة تخلف؛ ينسجها بذاته؛ عبر الأدوات المتخلفة في مسيرة الحياة، ويكرس هذه الحالة باستمرار(مجتمع محكوم بعلاقات سكونية تقطع الطريق أمام التطور الذي توفره حيوية العلاقات وانفتاحها، وركيزة معرفية ملائمة لمستوى التطور.
3- الفلاح : هو الذي يعمل في الزراعة، وكان لوجوده أشكال مختلفة منها :
أ- فلاح يحرث أرضاً للإقطاعي (أو المختار) وقد سميت الحالة فيما بعد، في القانون ب (وضع اليد ) أي يدفع الفلاح لقاء استثماره للأرض -التي يفترض أنها ملكية الإقطاعي-، نسبة معينة للإقطاعي المالك، ويحدد المالك -عادةً - هذه النسبة، وكانت تتمحور حول 10% من المحصول. وقد يتجاوز ذلك. إضافة إلى السخرة، وتجاوزات أخرى من الإقطاعي (أو الآغا). باختصار كان الفلاح في وضع يقربه من العبودية للإقطاعي. (الإقطاعي يملك مساحات كبيرة من الأرض تجعل منه متنفذا وليس بالضرورة أن يكون آغا، أما الآغا فهو سليل آبائه الأغوات ويدير عشيرته وقد لا يكون إقطاعيا يملك الأراضي الواسعة، وقد يجمع الآغا بين كونه آغا وإقطاعي في الوقت نفسه).
ب- فلاح يعمل لدى فلاح أخر يضع يده على مساحة كبيرة نسبيا، وقد يكون مالكا أرضه في-بعض حالات- ويسمى عمله عند الآخرين (المرابعة، أو بالكردي مريبا). في هذه الحالة يحصل الفلاح (العامل) على نسبة الربع أو الثلث من المحصول لقاء عمله لدى فلاح (مالك أو مستقل في استثماره لأرضه) مستقر نسبيا. وهذا الفلاح لا يملك أرضا أو أن الأرض التي يستثمرها –مهما كان شكله- مساحتها جد قليلة لا تلبي احتياجات الأسرة الضرورية، أو قد تكون فرصة لتحسين مستوى معيشة أسرته.
وفي كل الأحوال، فإن حياة الفلاح –ومهما كان شكل عمله– لم يكن فيها استقرار. بل كان دوماً تحت رحمة الأغا أو الإقطاعي، أن شاء أبقاه، أو شاء طرده –وقد تتدخل عوامل اجتماعية في تثبيت وضع بعضهم، كما لو كانت عشيرته ذات نفوذ لدى الأغا مثلاً، أو كان الأغا نفسه يتمتع بخصائص أخلاقية مميزة –وهي حالات قليلة على كل حال.
4- العامل : ليست تسمية دقيقة أيضاً (بحسب المعيار الماركسي في تحديد المصطلحات) لعدم وجود معمل أو مصنع يعمل فيه، وإنما هو شخص لا يملك أرضاً، ولم تتح له فرصة العمل مرابعة – لسبب ما – فكان مضطراً إلى القيام بأعمال مختلفة (زراعة أو بناء أو حفر أو تكسير حجر..الخ). وكان عدد العمال يتزايد باستمرار، بسبب زيادة النسل المضطردة، وعدم كفاية الأرض المستثمرة لاحتياجاته. وهذا كان يدفع الطبقة العاملة إلى التوجه نحو مصادر الرزق –في المدن خاصة- ساهم في ذلك انتشار الآلات الزراعية مما أدى إلى الاستغناء عن الفلاحين من قبل الإقطاعيين أو الأغوات، بل ومحاولة التضييق عليهم بقصد ترك الأراضي، مما اوجد عداوة فعلية بين الطبقتين الإقطاعية والفلاحية؛ انعكست على الحياة الاجتماعية الكردية وحفزت الفلاحين والعمال إلى الانتماء إلى الحزب الكردي الذي بدا وكأنه يشكل استقواء لهم بشكل ما، على الرغم من قيادته الأقرب إلى المناخ الإقطاعي(الآغواتي).
5- ملاّ : عالم دين (إمام جامع) وكان ينتمي إلى طبقة الفلاحين غالباً، ولكن حصوله على إجازة علمية في دراسات شرعية، من أحد العلماء المشهورين يجعله مؤهلاً للقيام بالوظائف الدينية اللازمة _إمام في الجامع، مدرس للقرآن وعلوم الشرع (ويسمى تلاميذه فقهاء (جمع فقيه) أو فقه كما يلفظها الكرد) ويغسل الميت ويكفنه ويصلي عليه، يعقد النكاح بين الأزواج، يقضي في الخلافات بموجب أحكام شرعية قرأها من كتب خاصة تسمى كتب الصف أو باللغة الكردية kitêbê rêzê...الخ، وكان يتمتع - لقاء ذلك - بمكانة اجتماعية ذات تأثير في حياة المجتمع الكردي – شريطة حصوله على رضاء كل من: الإقطاعي (الأغا أو المختار) وشيخ المنطقة ( شيخ الطريقة ).
أما إذا حاول التمرد –وكان هذا يحصل أحياناً- بسبب تمتعه بوعي استمده من دراسته للعلوم الشرعية، وصلته المباشرة بالقاعدة الفلاحية التي تعطيه قوة مادية ومعنوية؛ فإن مصيره في -أحسن الأحوال- هو الهروب، وغالبا ما يكون هذا الهرب باتجاه المدينة، حيث يمارس عملاً حرا. يجعله مع التجار الآخرين، يكونون طبقة (أو شريحة) يمكن أن تسمى ب (البرجوازية التجارية)(5)وقد لعبت دوراً قيادياً في المجتمع، على مستوى المدينة والقرية معاً. وكونت طبقة متكافئة -بدرجة ما- مع الطبقة الإقطاعية، وغالباً ما توحدت المصالح بين الطبقتين بشكل عام. وكان الملاّ، ذو دور- بطريقة ما- في رفد الحزب بكوادر حركية تتمتع ببعض وعي مستمد من ثقافته الدينية (الشرعية) -إذا جاز التعبير-.
6- سيد : يزعم الانتساب إلى نسل الرسول (ص) لجهة ابنته فاطمة رضي الله عنها أساسا (وأيضاً لجهة أعمامه) وهو شخص قد يكون: فلاحاً أو عاملاً أو ملاّ أو حتى شيخاً -في بعض الأحوال- وهو في أحواله جميعاً: يتمتع بامتيازات اجتماعية، تيسر له حياته، في مستوى المعيشة أو توفر له فرص القيادة الاجتماعية بدرجة ما، وكانت الصفة الدينية غالبة لديه، ولكن الفترة الأخيرة شهدت توجهاً للانضواء تحت أسم ((العشيرة)). وقد قللت هذه الخطوة من التقدير الديني الذي كان يتمتع به، لأنه أصبح يمارس الحياة الاجتماعية بأسلوب العشيرة تماما، بل وقد يتجاوز الطبيعة العشائرية –في حالتها الطبيعية- بسبب شعوره بقوة معنوية يستمدها من شعوره بالانتماء إلى الرسول ( صلعم) ويدفعه شعوره هذا –أحيانا- إلى تجاوزات في مستوى الحياة الاجتماعية، أو في مستوى الشعور القومي الكردي، بتردده بين الانتماء العربي والانتماء الكردي. لدى البعض على الأقل.
7- حالات مهنية مختلفة تشمل: الطبيب - المحامي - المهندس – المعلم- والموظف بشكل عام، وهؤلاء على الأغلب، من أولاد طبقات: الإقطاع - التجار - الشيوخ ..الخ.
ونادراً ما، كان ابن الفلاح يحصل على مهنة كهذه، وإذا حصل عليها -بشكل أو بآخر- فسرعان ما ينسلخ عن طبقته، باحتضان الطبقات الأخرى له بشكل ما. ومن هذه الأشكال، الزواج من ابنة إقطاعي أو مختار.. الخ، وهؤلاء – أي أصحاب الحالات المهنية- كانوا قلة قليلة -على كل حال- كما كانت الحالة الثقافية منحصرة- غالبا- ضمن الشرائح أو الطبقات المذكورة (إقطاعي –مختار-شيخ-ملا...).
تعليق:
إذن – وبشكل عام – فإن المجتمع الكردي كان يتكون من هذه الحالات - مع الإشارة إلى تعقيد الحياة الاجتماعية، وتداخلها، وتفاعل عناصرها بشكل أو بأخر ... يطبع ذلك كله، غلبة الدين الإسلامي، والذي لم يسلم من حالة التفاعل مع الواقع الاجتماعي المتخلف، فأثر الفهم والممارسة الخاطئين أحيانا، سلباً على المجتمع، وتأثر سلباً أيضاَ به (لعب المجتمع -عبر الرموز الدينية المختلفة- دورا في تشويه طبيعة الحقيقة الدينية أحيانا، كما تشوه هو من التأثير الخاطئ للدين عليه بسبب سوء الفهم لطبيعة الدين).
هذا التكوين الاجتماعي- بخصائصه النفسية، والذي ساهم فيه تاريخ طويل - كوَّن المصدر لطبيعة العلاقات السائدة داخليا، بين أفراد وشرائح وطبقات المجتمع الكردي.
كما كان هناك دور هام للمؤثرات الخارجية (ظروف علاقة الكرد بالسلطة غير الكردية عادة، وفي أغلب حالاتها) هذه المؤثرات التي حددت الطبيعة الأخلاقية للسلطات الحاكمة للكرد، ومصالحها جميعا، حيث أن الكرد كانوا دوما محكومين من قبل غيرهم، منذ فجر الإسلام، وفي القرنين الآخرين خاصة إلا إذا اعتبرنا وجود مجموعة إمارات كردية في مراحل مختلفة نوعا من الاستقلالية في الإدارة).
كما كانت الظروف التي كانت فاعلة في صدر الاستقلال السوري عن الاستعمار الفرنسي –كعامل موضوعي- ذات تأثير واضح للمساهمة في تكوين الحزب الكردي الأول.
لذا فقد كانت هذه البيئة -بتعقيداتها وخصائصها- هي التي نشأ فيها الحزب الكردي الأول في سوريا، ونما، يغذي شرايينه هذا الخليط غير المتجانس، بل والمتناقض في الرؤى والسلوكيات - أحيانا- والنابعة من الظروف العملية والتربوية التي عاشها هؤلاء، ودون وجود حالة فكرية معمقة تسمح بتكوين رؤى عميقة ذات بعد أيديولوجي –بمعنى ما - مما افرز نوعا من (السكونية) في تصنيف هؤلاء .فمثلا:
- الإقطاعي هو من نسل فيه الخصائص الأفضل (دماء خاصة و أصالة) – وله دوما حق الإدارة - وفي جميع الظروف- وكذلك الشيخ، والملا، والسيد..الخ – وإن تفاوتت الدرجات في تقدير المكانة لكل فئة إذا جاز التعبير- وبالمقابل، فإن الفلاح، والعامل، والفقير.الخ. هم في مستوى أدنى، وبنظرة تكاد ترى الأمر واقعا وراثيا. وبالتالي: لا يسهل على من ينتمي إلى هذه الفئات، أن يتبوأ مكانة قيادية في المجتمع – ومهما علا شأنه، علما، أو كفاءة إدارية، أو غير ذلك..! ( واحدة من مفرزات الثقافة الاجتماعية الممتدة في الزمان والمكان ولا تزال آثاره سائدة نسبيا، وللسلطة دورها في بقاء هذا الواقع).
ولم يفلح واقع انتماء هذه الطبقات والشرائح إلى دين واحد هو: الإسلام- على الأغلب- في إذابة الفوارق والحواجز بينهم، وقد بقي تأثير الدين من هذه الناحية سطحيا في العموم؛ لم يتعمق بسبب سيطرة القيم العشائرية وقلة العلم المؤهِل للفهم الأفضل والأدق.
ولكن الدين –مع ذلك-قد نجح في جوانب أخرى، إيجابيا وهي :(تثبيت مفاهيم أخلاقية قيمية) مع الأخذ بعين الاعتبار وجود كرد من ديانات أخرى-كحالة قومية- (مسيحية- يهودية- إيزيدية-..الخ).
وإن تعمق الإيمان الديني بحسب تأثيره (لا بحسب عقلانيته إذا جاز التعبير) قد وفر أرضية صالحة لاستقرار أخلاقي، من تجلياته:
قيم إيجابية روحية، مثل التعاون والتعاطف. (والعاطفة أبرز سمة في ميدان العلاقات الحياتية اليومية). ولكنها -العاطفية كسمة- أضرت أشد الضرر عندما بقيت سمة في الشخصية الكردية، استطاع الأعداء استثمارها أيما استثمار لمصالحهم، بل ولا تزال هذه الخاصة تسم النسبة الكبيرة في المجتمع.
وكان هذا الأمر أشد في الحالة السياسية، باعتبارها حالة قيادية اجتماعية، ومن المفترض أنها تبنى على حالة أو مستوى من وعي كاف لطبيعة المهمة السياسية.
ومن جهة أخرى فإن سطحية الإيمان، واستقرار تلك القيم الأخلاقية (التلقينية) الممتزجة بالحالة العاطفية كسمة للشخصية الكردية كلها، قد جمّدت الذهنية الكردية بدرجة كبيرة، وحددت سقف تطلعه الفكري، وساهمت في نوع من ضعف الثقة بالذات، سواء في بعض الأعمال الإجرائية، كالفلاحة والقتال والأعمال اليومية عموما..أو غيرها؛ كإدارة الأداء الحزبي النضالي، والذي كان الجانب الأبرز فيه، قوة الممانعة وتحمل الأذى أساسا، مما حرمهم من روح المبادرات في الأداء الحزبي تجاه الخصم (أو العدو) سياسيا وعمليا. فكانت النتيجة الفعلية؛ قبول الاستسلام للطبقتين الأقوى (الإقطاع وشيوخ الطريقة ومن يتصل بهما).
ظروف تكوين الحزب
هذا الأمر(الواقع) الذي ميز ظروف تكوين الحزب الكردي الأول، غاب فيه، المناخ الفكري النقدي والمستقل، كبيئة ملائمة لبلورة حزب سياسي ناضج، في ظروف تأسيسه، ومن ثم ظروف استمراره.
فكان وجوده استجابة لواقع -لم تتوفر فيه شروط النضج الكافي- وجاء تأسيسه لذلك، أشبه بتقليد لأحزاب سابق الوجود بالنسبة إليه، لا كحزب، شروط النضج لديه مكتمل؛ فلم تتوفر فيه حالة إبداع في شكل وجوده، ولا في صياغة أهدافه، ولا في العوامل الناظمة لأدائه (أساليب العمل)..الخ.
مما أفقده خاصية الانطلاق بثبات وقابلية للتطور. وبدلا من التطور المتصاعد كان التراجع أكبر فيه. فمثلا صاغ الحزب الأول برنامجه في وقت تأسيسه-1957-باللغة الكردية، بينما في المراحل اللاحقة كتب باللغة العربية، وكان حزبا واحدا، هو الآن أكثر من عشرة أحزاب متنافسة سلبيا (متصارعة).
لكي لا يكون التباس
ولكي نتجنب الوقوع في فهم خاطئ للمقصود؛ فإننا نؤكد على تقديرنا العالي لمؤسسي الحزب الكردي الأول – على الرغم من ملاحظاتنا على واقع تكوينه- فليس الغرض من ذلك اتهاما، وإنما الغرض – فقط- هو (محاولة التحليل لواقع ظروف هذا التكوين) بقصد الاستفادة من التجارب والأخطاء، وهذا هو منهج كل من يريد التقدم في أي ميدان كان- كما نفهم-.
مصطلح ضروري
ونحن نقترح تسمية ((الحالة التي رانت على نمط الفكر السائد في عمل الحزب الكردي الأول- الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا(البارتي) (أو ربما الكردستاني بحسب محمد ملا احمد في كتابه صفحات من تاريخ حركة التحرر الكردية في سوريا) - وإفرازاته العملية في العلاقات السائدة فيه)) نقترح تسميته بالفكر السكوني، أو (الفهم السكوني للعلاقات). ونعني بذلك:
شعور الشخصية ذات المركز الاجتماعي – الديني أو القبلي أو المالي-بأنه متميز عن غيره، وله حق القيادة؛ حتى في العمل السياسي، دون مراعاة لتوفر المؤهلات الشخصية القيادية لديه.
ومما يؤسف له أن (الفهم السكوني للعلاقات) هذا، هو نفسه الذي كان يجعل أبناء الطبقات الكادحة يتقبلون هذا التوجه، بسبب انعدام الروح الثقافية النقدية (العقل النقدي) في الفكر لدى الجميع. والأشد إيلاما هو أن هذا (الفهم السكوني للعلاقات) لا يزال مؤثرا في ممارسة معظم متطلبات الحياة الاجتماعية والفردية- بما فيها الأداء السياسي(النضالي).
ولعل السبب – وهو معلوم- بأن طبيعة القيادة في الحالات الاجتماعية التقليدية مبنية على السكونية (الوراثة). فهل يصلح هذا النمط في قيادة حالة سياسية هي، مختلفة عن الحالة الاجتماعية التقليدية كالعشائرية وغيرها..؟
إذ من المعلوم أن طبيعة القيادة في الحالة السياسية، هي أكثر تطورا وعمومية، من حيث أنها تقود (حالة قومية واسعة وجامعة) يفرزها واقع التطور الاجتماعي والسياسي في مراحل معينة من حياة الشعوب، كما هو الحال في القرن العشرين وما بعده، مما يستلزم أن تكون الحالة القيادية متناسبة معها، كأن تكون حالة قيادية تتميز ب (فهم حيوي للعلاقات المتجددة كمرتكز للأداء السياسي) يستند إلى خبرة عملية وعميقة، وشروط في تكوين شخصية القائد، وفق متطلبات المرحلة.
يقال أن /ونستون تشرشل/رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، كان قائدا ممتازا، ولكنه لم ينجح في انتخابات جرت بعدها، فقيل لبعض الانكليز: لمَ، لم تصوتوا لمن أحسن قيادتكم في الحرب، وبذل جهدا كبيرا في ذلك؟ فكان الجواب: ربما لا يكون من أحسن في الحرب؛ قادرا على أن يحسن في السلم..!
يتبع................
نشرت هذه الحلقة في موقع ثروة-سوريا إلى أين
[1]