«طواسين» الكردي
ابراهيم محمود
أشكل الحق على الكردي، مثلما أذهل الكرديُّّ الحقَّ، فلا بلغ الكردي الحقَّ، لامتهان الحق حقيقةً، و(الحقيقة دقيقة)، ولا انفتح باب الحق للكردي، لعصيان الحقيقة، وتجلّي باعة الحق، مقصيي رمزه الأول عنه، ليبقى الحق شاهد حقيقته زيفاً.
للكردي طواسينه، وحول الكردي، وعليه يتحلق شهود الحق المزيفون والمراؤون، الباغون والعياؤون، نهابو الحقيقة، مثلما يرتّبون الكردي اسماً من أسمائهم المثلى، يبرعون في تجويده، كما يحسنون تصريفه، وتحريف اسمه، فلا يبقى من الكردي، إلا ما يردُّه خارج متنه، ولا يبقى من متنه إلى ما يصدُّه غريباً عن اسمه، وعمَّن أوجده.
(اسمه طريقته)، يا للطريقة التي تغيّر في ناموس طبيعته، يا لهوس أحبائه في تغليبه على أمره، في نهيه عن الجهر بالحقيقة، وفي صرفه عن حب الحقيقة، يا لأخوته في الحق المرسوم، في التفريق بين الكردي ومقام حقه الكوني، وخلقه الطبيعي المنبوذ في ذات ولي أمره الأول والآخر، الخلاق المبعَد حقيقة، عن ذات رحمته، الرزاق إلا مع الكردي، الحليم إلا مع الكردي، الغريب في عدالته، كما الحال مع خلفائه أرضاً!
يحمل الكردي اسمه، واسمه يجبله، هو أول الحرف (كن) في تكوينه، ويشهد أخوته أنه ليس في (كن) الخالق الصمد، لا والد ولا ولد كردي، مثلما يتبدد كلُّ مدد كردي، يبقي في اسم الكردي (ردي)، فلا يعود ل(الكاف)، إلا ما يقصي الكردي عن كامل الحق الإلهي فيه، في هيئة العاصي، ولا يعود في وسع الكردي، إثر إشغال الكاف عنه، إلا أن يجهز على تمام اسمه، ليرضي شهود حق الإله من حوله، فهو الرديُّ قهراً، وهو المنبوذ جهراً، وهو المحكوم الأبدي، كما يقول تكوين أخوته فيه، إلى ما شاء شهود إلهه، إلى يوم دين، خارج حقيقته، ف(القصة مع القصَّاص) و( الغفلة مع أهل الاستيحاش)، ووجه الكردي مجرَّد من هيئة الإنسي، ليظل طريد أخوته في البراري والقفار، ليظل شهيد الحقيقة، وشاهد الحق، طريد من يصعد باسمه إلى أعلى عليين! وما يعزز مقامه باسمه، من يبقي دمه مسفوكاً، وعرضه مهتوكاً، ليكون شهيداً دون شهادة، مجاهداً دون اسم، نكرة الحق الإلهي، وهو الأولى باسم الإله من المحلقين حول كرسيه الكوني، الذابين عنه، لاحباً في اسمه، إنما رغبة في كرسيه ذاته، ولا يعرف سر الكرسي، أكثر من الكردي ذاته، لأنه باسم الكرسي، جرى تجريد الكردي، وجعل الدال سيناً، وباسم الكردي، ضده، يدوم الكرسي!
بين الكردي والكرسي، ثمة حرف، يعرفه أهل اللغة، مثلما يعرفه أهل الصرف والنحو في السياسة والرئاسة، وما خان يوماً ظن أخوة الكردي في الكردي، فأنى اتجهوا يجدوه حاضراً، في ذمة من يفتقد الذمة، يغيّبونه لأن حكمة الكرسي تدفع بأخوته في أن يجهزوا عليه، أن يبقوه حاضراً دون حضور، قائماً بأمرهم، في مرّهم!
يجهر الكردي بطواسين حقه، يجهر باسمه ذي الحروف الأربعة، كما هي الجهات الأربع، كما هي الحدود الأربع، والمقطّعة فيه، يسمي دهره، جبله، نهره، أرضه، سماءه، أرضه، دماءه، يسمي حدوده، وجوده، ينطق بلسان الإلهي فيه، فهو القريب منه، مذ كان، وهو المجاور لقدس أقداسه، مذ كان، وهو الشاهد على تحوله الاسمي، مذ كان، يسمي فيه أسماءه المحوَّرة، ملائكته الدخلاء عليه حقيقة، يسمي أخوته الذين لا يخفون هوى الشّرك في دمائهم، إذ يوحدون إلههم حول الكردي، عبره.
عاصٍ هو الكردي! حرّيف هو الكردي! اشتقاق لا لزوم للكردي، عن لغة شاردة خارج صنافة الواحد الأحد، كما يقرر أولو أمر الكردي، خروج عن جادة الصواب كل اسم يأتي به الكردي والداً وولداً، ريفاً وبلداً، عدداً ومدداً، انشغال الحق بنقيضه هو الكردي، اهتزاز الأرض على قرني ثور هائج، طالما يوجد الكردي، شقاءَ الواحد في وحدته، والكل في كليته، والكون في أبديته، والكائن في زبدته، هو الكردي وليس سوى الكردي، زيغ تجلّي التلفظ باسم الكردي، إشارة إليه، علامة ما تعنيه.. ماالذي يبقى في استرسال حروف اللغة، وفي سريان فعل الإله في كونه، من بلبلة حاصلة، قبل بابل الإله، وبعدها، قبل خطيئة الثمرة الكونية، وبعدها، فالحية والداخل في فيه الحية، والمستعرض ريشه، وجنوح الثمرة ذاتها، والتراب المشكوك بأمره، من فعل الكردي؟ ماالذي لم يسمَّ بوجود الكردي الموزع بين سام نوح الإله وحامه ويافثه، وما زال الموزَّع دون هداوة بين زوايا الثالوث الاسمي، مرفوضاً من الثلاثة، في جهاتهم، والجهات كلها تسميه قبل صعودها الاسمي العظيم، قبل لهجها باسماء من دنوا منه وأدانوه، استقربهم حباً في أسمائهم، حب التنوع للتنوع، فأبوا التنوع بحضوره، حباً في وحدة دون التنوع، كما تقول جهات الكردي، ومن يوجهها عليه!
يتحدث الكردي بجسده المثخن بجراح المتصرفين بجهاته الأربع، القائمين على أمره غيَّاً، يتحدث بطعانهم فيه، يسميهم واحداً واحداً، تسميهم طعانهم: هوانهم، يصعد بجسده الذي لا يخف طعانه، يقول للمستبد به، وهو يدَّعي بلاغة الأخوة: مهلاً، أيها المستبد بي، أيها الممثّل لجهاتي فسراً، وأنت تؤلب علي جهاتي، تؤلب علي عليَّ، وما عليَّ يشهد كم أنت علي باغ، كم تفرّق بين اسمي ووسمي (إن كنت تفهم فافهم)، دع عنك ما يبقيك ما لاتريده منك، ما يبقيني في شاغل عنك، وأنت لا تني تشغلني بأمرك، بمُر أمرك منك وعنك.
لست في أمرك رهينة أمرك، فأنت أنت، وسواك ليس أنت، ولا أنا أنت، ولست أناي، فدع لكل أنت أنته، ليكون الله خالقك وخالقي في يومه الموسوم، ما ينوّر اسمه في أنت كل منا، دع عنك حب إلهك وأنت في مبتداك ومنتهاك، كافاً شارداً عن نون فعلها، تبغض إلهي في إلهك، وكل إله، يكون الغريب على الآخر، وكلاهما واحد.
خذ ما شئت أيها المعني بأمري بهتاناً، حيثما وطئت قدماي أرضاً تستأنس بي، حيثما يممتُ وجهي شطر جهة فيها تعرفني اسماً، وأنت تعرف هذا في قرارة نفسك، خذ ما أعنيه وأسميه: خذ اسمي، إن شئت، بدّده متى شئت، خذ كردستاني، زحزحها تكويناً في الاسم، اجعلها في مقام اسم آخر، لا على التعيين، لك مطلق الصراح فيما تراه مناسباً، أيها الشاهد على الحق، (والحق واحد، أحد، وحيد، موحَّد)، ولكن، من حدد الأول، يتحدد بآخره، ومن رمى بسهمه، يلتجىء إلى قوسه، وما عليك إلا أن تجعل من اسمك، وأنت المسمي ذاته الأقرب إلى كرسي عرشه من سواه، المدرك للحق، كما لم يدركه أحد سواه، المعاين للحقيقة، كما لم يقاربها أيٌّ سواه، إلاه، أن تجعل من اسمك، ما يبقي اسمي مستأنساً به لا مستوحشاً، معرفة في ظل معرفة، أن تميط اللثام عن اسمك الذي لطالما بدد في اسمي ما يبقيني في شك من اسمي، ما يبقيني طريد جهاتي، وقد أوجدتها، مثلما أوجدتني: ماء وهواء، ناراً وتراباً، بأهورامزداي وأهريماني، بأُوجاغي وطاووسي المختلف، وكل ما يتحدث عني، قبل أن تدرك في، ما يشق عليك فهمه في شقائه ومشاقه.
أمنحك اسمي، ليكون الاسم الذي تختار له بديلاً، كما هي أرضي التي تتحرك في دمي، أن تبدّل في أرضك التي تعودَت فيك ذات الاسم البغيض الذي يشهد على مثول الحقيقة أمام نقيضها، ودائماً علي، وعلى أرضي التي عهدت بؤسها من جهاتك البعيدة.
إليك بي، دع كردستاني، طي اسم آخر، لكن، ما عليك إلا أن تضع اسمك ما يبقيك جديد اسم، ما يبقي عربستانك سواها، وفارستانك سواها، وتركستانك سواها، لنكون الجهات الأربع، شهود الحق فينا أربعة، خلفاء الله الواحد الأحد أربعة،عناصر الطبيعة أربعة من ناحيتها...
ما عدا الموسوم، لا شأن لك بي، وإن كنت باحثاً في شأني، حباً في امتلاك شأني.
إذاً، أيها التركي الجي الآن في عليائه المدنسة، بنياشينه الألف، كما هو المؤازر عليه عربياً أو فارسياً، أو من وراء حجاب بغيض، في أي لغة ألفتها جهاتي، خذوا وتجهزوا ما استطعتم من قوة في جمعكم: قمعكم، فليس فيَّ ما هو خفي، كل ما فيَّ وبي علني، مفترش، منبسط، حتى جبالي الهيروغليفية الطابع مفتوحة على السماء التي تخدش حياءها أثلام طائراتكم المنكودة، كما هي جبالي التي تشهق ملء النظر، شامخة، كلما قاربها مدججوكم الحدوديون، فالثلج الهش نعش، والوادي الخفيض عريض المنكبين، متاهة أقدام لم تعهد السير في جهات تضيّع كل الجهات، كما تقول أعصر ولت.
يشهد الكردي على أنه الكردي، دون أن ينبس ببنت شفة، تقولها بالنيابة جهاتُه، وإن لم تسم، تقولها أنهاره، أحجاره، وديانه، أشجاره، أوكاره، أعداؤه التليدون، المعاصرون، كما لو أن الكردي والتاريخ صنوان، كما لو أن نكرة المعرفة، معرفة النكرة، أن القاعدة انقلبت على أمرها، وصار النشاز الموسوم قاعدة صرف الفعل.
قنديل متناسل، كما هو همرين، كما هو آكري، كما هو سواه، من أحبته الجبال الأخرى، فلا تفعل الرصاصة القناصة في الكردي، إلا ما تفعله النار في الفينيكس، ولا الغارة إلا ما تفعله الرؤيا في الرؤية، لا مدحاً في الكردي قط، إنما تقرير واقع حال الكردي، وبؤس أعدائه إزاء بأسه، بؤس حياة الخصوم الأشداء دون جدوى في مدد لا يفلح، إزاء بأس موت الكردي الذي لا ينقطع فيه مدد حياته.
ليس للكردي إلا كرديه، اللوذ بجباله وسمائه، بموته الذي يبارحه، وهو يبث حياة فيه، لا حباً في سفك دم، وإنما رغبة في حياة تحفظ فيه دمه، اسمه، حدوده المعلومة، صوته المغاير، بئره التاريخية، وتعاين ضراوة أخوته، إذ يجددون فيه يوسف الكردي، ليس للكردي إلا أن يهزأ من حديد يهدده صدأه، من لغات، يهددها وهمُ أبديتها، من وحدة عداوات، ينخر فيها زيف الموّحّد فيها، ليس من تركي مدجج بأتاتوركه إلا وقبره بين جنبيه، من سواه معه، يمينه أو يساره، حاميه أو الراكض في ظله، شاهد زوره في الجهات الضيقة عليه، إلا وخوفه يستعجل آخرته.
يصرخ الكردي، آناء الليل وأطراف النهار، (يا هذا)، باسمه، بدمه، في من يشتهي في الكردي ما يقصيه عن الكردي: خذ مني ما استطعت، يا عدو اسمك، تاريخك، إلهك، أرضك، سمواتك، بهائمك، لغتك، مقدساتك المزعومة، والمتروسة في كل جهاتك، بكل مستطاعاتك القريبة والبعيدة، كما كنت في الأمس، وما قبل الأمس، بدَّل في ما استطعت، وزد في شأني، وأنت الكثير، وأنا القليل، فالمهم هو الاسم، ولم يمح في الكردي، ما أراده نقيضه، كما الحال الآن، وقبلاً وبعداً، في تعدد صنوف الموت المصنَّع أرضاً وسماء، تعدد صنوف التحايل والتطاول باسم الواحد الأحد ودونه، فلا يبقي الكردي إلا حقد نقيضه اللاكردي، ولا يقوّي في الكردي، إلا خلافه الكردي، ولا ينبّه الكردي إلى ألفة الكردي، ووحدة الكردي، و#كردستان# الكردي، إلا من يروم في الكردي، من يبتغي في الكردي، ما يعيد إلى الكردي كرديَّه، ما يعيد إليه جهاته، ما يسند به حدوده، ما يوطّد جباله، ويسلسل أنهاره، ما يجعل الكرديَّ ملتقى الحق واقعاً!
---------------
ملحوظة: (الطواسين)، تذكير بالحلاج244ﮪ857م-309ﮪ922م والمتضمَّن بين الأقواس الكبيرة، مستلٌّ من كتابه (الطواسين)، تحقيق ودراسة: لويس ماسينيون.
[1]