حقوق الإنسان والمواطن (مقاربة تاريخية)
د. سربست نبي
تتحدث هذه المقاربة عن وثيقة / نصّ تاريخي, ليس فلسفياً بالمعنى المباشر, ولكنه نصٌّ مركب وتأسيسي ينطوي على مستويات عديدة ومتنوعة يمكن التعاطي معها طبقاً لأهداف البحث ومقاصده العلمية. وتتخذ من التمييز الذي تعتمده الوثيقة بين حقوق الإنسان والمواطن مدخلاً إلى التمييز بين دائرتي الحياة الخاصة والحياة العامة, بين الفرد بوصفه إنساناً خاصاً ينتمي إلى المجتمع المدني وبين عضويته في الدولة السياسية بوصفه مواطنا,ً أي كائناً عمومياً. وتعدّ هذه الوثيقة (إعلان آب 1789لحقوق الإنسان والمواطن), قاعدة حقوقية وسياسية وفلسفية وتأسيسية شاملة للوائح والمواثيق الإنسانية التي أُشهرت فيما بعد.
تمثل الإغراء الذي استسلم له مفكرو القرنين السابع عشر والثامن عشر في المماهاة بين الإنسان والمواطن. ولقد قاد ذلك إلى تقويض مفهوم المصدّات أو الحواجز المحتملة التي تحدّ من تعسف السلطة واستبدادها. وبدلاً من ذلك راح المدافعون عن استقلال المجتمع المدني يعلنون صراحة رفضهم لهذا الخلط وتأكيد التمييز بوضوح بين الحقوق الطبيعية للإنسان, التي ينبغي أن تُصونها السلطة السياسية وتحترمها, وبين الحقوق السياسية للمواطن بوصفه عضواً في المجتمع السياسي. إن تجارب القهر السياسي والاستبداد وفقدان الحرية قادت العديد إلى الدفاع عن الإنسان ضد المواطن, وبموازاة ذلك المجتمع المدني بمواجهة الدولة.
لقد انقلب التصور, الذي عرفناه عن الحق منذ القرن السابع عشر وتالياً على يد فلاسفة العقد, إذ اختلطت فكرة الإنسان بالمواطن وتماه المجتمع المدني بالدولة. من هنا فقد انحاز فلاسفة القرن التاسع عشر , شيئاً فشيئاً, إلى التمييز بين المفهومين انطلاقاً من إعلان الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان والمواطن, الذي اهتم بمفهوم الإنسان وحقوقه الطبيعية بمعزل عن وجوده في زمان أو مكان محددين, وأعلن مجموعة مبادئ كلية وحقائق تصلح لكل الأزمنة والأمكنة, وكانت غايته هي حماية تلك الحقوق تجاه الدولة ووضع حدّ لمصادرتها, أكثر مما هي واجبات الإنسان نحو الدول.
يعود إلى اليونان ليس فقط اكتشاف فكرة الديموقراطية, وإنما أيضاً مبدأ المواطنة, الذي بموجبه تم تمييز السكان وتنظيم حقوقهم وعلاقاتهم العامة في المدن اليونانية التي اشتهروا بها في العصر الكلاسيكي مابين القرنين الثامن ونهاية الرابع ق.م. وقد ترسخت قواعد دولة المدينةPolis إلى الدرجة التي طبعت الفكر اليوناني بطابعها. ومن الهام الإشارة, بصورة عابرة, إلى أن عبارة المواطنية Politeia كانت تعني الجسم السياسي ودستور الدولة في آن, وهذا يعني أن لا وجود للدولة إلا عبر المواطن ولا وجود للمواطن إلا من خلال الدولة, كما لا وجود للسياسة إلا في نطاق دولة المدينة, التي لا يمكنها أن تكون من دون سياسة.
في عام 508 ق.م آلت السلطة السياسية إلى كليسثينيس Kleisthenes الذي أدخل الإصلاح إلى نظم سلفه سولونSolon وأوجد شكلاً جديداً من أشكال الحكم هو الديموقراطية, ومنح أثينا دستوراً ديموقراطياً بذلك على قاعدة المواطنة, التي وسِّعت لتشمل فئات اجتماعية أشمل من رابطة الانتماء القبلي. وكما يخبرنا هيرودوت فقد قسم كليسثينيس أتيكا إلى 139حيّاً تسمىDemes كانت أيضاً موزعة بين عشرة قبائل Pbylai ... وكانت حقوق المواطن مرتبطة بعضويته في أحد الأحياء, وكان المواطنون جميعاً يسمون باسم الحي الذي ينتسبون إليه. وهكذا كان الاسم الكامل لسقراط هو سقراط بن سوفرونيسكوس من حي الوبيكي.(1) إن تعميم مبدأ المواطنة, على هذا النحو, أدّى إلى تقويض التنظيم القبلي القائم على صلة الدم, لتحل رابطة( الديموس) كوحدة تنظيمية محلها, بحيث أن تسجيل الفرد فيها كان كافياً لتجعل منه مواطناً, من دون التزامه باستمرار السكن أو الإقامة فيه. لقد مضى كليسثينيس بعيداً في تحقيق المساواة بين المواطنين, فلم يعد التفاوت قائماً بين الأفراد على أساس الانتماء القبلي أو رابطة الدم. هذه كانت أهم معالم الإصلاح التي استحدثها كليسثينيس, التيرأى أرسطو أنها جعلت نظام أثينا السياسي أكثر ديموقراطية مما كان في ظل دستور سولون(2).
واصل مهمة الإصلاح بعد كليسثينيس خليفته الشهير بيركليسPerikles(462ق.م), الذي عمد إلى ترسيخ التقاليد الديموقراطية, التي ورثها عن أسلافه وتطويرها باعتماده مبدأ سياسياً جديداً في المساواة السياسية هو مبدأ سيادة الأكثرية, أو حكم الشعب, ونتيجة لكل ذلك استكمل الدستور الأثيني إطاره الديموقراطي الحقيقي.
ضمن إطار الرؤية الإغريقية يكون المواطن, وحده دون غيره, إنساناً كاملاً, ولا تعدّ السياسة بالنسبة إليه نشاطاً غير طبيعي , منفصلاً عن المجالات الأخرى,و ليست منفصلة عن دوائر الوجود الإنساني الأخرى, إنها في تعريف مستوحى من أرسطو ممارسة ال Polis التي باتت وعياً لذاتها.(3) بقول آخر, إن كينونة الفرد كإنسان خاص لاتتحقق تماماً إلا بوجوده ككائن سياسي, ومواطن عضو في دولة المدينة. ومن هنا لايجد فيها كياناً غريباً عن حقيقته الذاتية, بل هي تمثل امتداداً منسجماً وطبيعياً لذاته. وهكذا لاينفصل الوجود الخاص للفرد كإنسان عن وجوده العمومي كائناً سياسياً, فالنطاق السياسي لوجوده هو البيئة الطبيعية التي تتيح للإنسان أن يحقق وجوده في كلية متآلفة. وبعبارات هيغلية, فإن دولة المدينة هي بالفعل المكان الأمثل الذي يشعر فيه الإنسان أنه ليس بغريب عن ذاته, وهذا لايكون ممكناً إذا كان يحيا ذاته العميقة على أنها مختلفة جذريّاً عن ذاته كمواطن عادي. لقد كان الفرد في المدينة القديمة, يجد ذاته بالكلية في الجوهر الماثل للوطن, وكان كاتون Caton يعانق الوطن بأسره, وكان الوطن يملأ روحه كلها.(1)
إن ضيق أفق الرؤية الإغريقية لمفهوم المواطنة ومحدوديتها يتجلى قبل كل شيء على الصعيد الداخلي. ففي داخل دولة- المدينة, كان شطراً واسعاً من السكان محرومين من المواطنة الكاملة,ومن حق المساهمة السياسية, ومن ثم كان المواطنون الذين يشكلون الشعب الأثيني لا يمثلون سوى نخبة أقلية ضمن عدد ضخم من السكان العبيد, الذين أُقصوا, وهذا ما كان قائماً بالفعل. إن وجود العدد الهائل من السكان العبيد, لا يمكن إلا أن يكون له الأثر على الناحيتين الأيديولوجية والعملية, يدعم الاستغلال بوضوح ويسوّغ الحرب, كما عبر عن ذلك أرسطو بفظاظة, (2) الذي عدّ العبيد مجرد أدوات حيّة للإنتاج والسخرة وليس بشراً. إن حرمان العبيد من المواطنة وحقوقها, كان طبيعياً, من هذا المنظور الأيديولوجي, بعد أن جردوا من إنسانيتهم. وكانت النساء, والأجانب المقيمون, والدخلاء إلى جانب العبيد, مستثنين أيضاً من المواطنة وحقوقها. وفي الأصل, فإن هذا يعكس قصوراً نظرياً للمفهوم الإغريقي الجزئي عن الإنسان وهذا مايتجلى بوضوح على صعيد نظرة الإغريق إلى الشعوب الأخرى.
أما على الصعيد الخارجي, وهذا يتصل بما سبق, فقد حالت النزعة المركزية لدى الأثينيين دون الاعتراف بالاستحقاقات الكونية لحقوق الإنسان والمواطن, سواء كانت هذه الحقوق سياسية أو إنسانية, فالحرية أو المساواة, مثلاً, التي تحدث عنها مفكرو أثينا لم تكن حقاً أوصفة تعني أيّ عضو في الجنس البشري, خارج حدود المجتمع الأثيني ذاته, إنها تخصّ فقط مواطن دولة- المدينة, وليس أيّ فرد فيها. هذا الأمر كان مسلماً به وبديهيّاً لدى اللوغوس السياسي الإغريقي. والنزعة المركزية ذاتها هي التي دعت بيركليس في خطبته السياسية الشهيرة إلى تصوير الصراع الحقيقي بين أثينا وإسبارطة على أنه صراع بين المبادئ والنظم السياسية, التي يمثلها كلٌّ منهما. فأثينا التي تمثل في جوهرها الديموقراطية والمساواة السياسية تواجه إسبارطة التي يشكل الطغيان وحكم الأقلية حقيقتها الأنطولوجية. والخلاصة, أن الفكر السياسي اليوناني افترض مسبقاً تماهياً, لايقبل انفصالاً, بين المواطن والإنسان, فاليوناني هو مواطن لأنه وحده إنسان بصورة أساسية, وهو إنسان كامل, لأنه مواطن في دولة المدينة.
هيمن التصوّر الكنسي في صيغته الأوغسطينية الأكثر تطرفاً, عن الطبيعة والإنسان, على ثقافة العصر الوسيط. ويتكئ هذا التصور على اعتقاد بأن الإنسان مخلوق مطبوع بالخطيئة, وبأن حياة هذا الإنسان في هذا العالم هي مجرد معاناة للتخلصّ من أدران تلك الخطيئة الأزلية, ومن ثم فإن أيّة مطالبة بحقوق بشرية طبيعية في هذه الحياة هي من قبيل الضلال والمروق. وبموازاة ذلك فقد تلاشى مفهوم المواطن أمام هيمنة مفهوم الرعية الصالحة, التي يؤلف الإيمان المسيحي القويم حقيقتها. لقد كانت المجتمعات الدينية في العصر الوسيط, في الغالب, مجتمعات بدون دولة, وبدون تنظيم سياسي خاص مستقل عن الحياة الاجتماعية الدينية, ولايعني ذلك انعدام المؤسسات السياسية, وإنما يعني أنها كانت مقيّدة إلى المؤسسة الدينية ومتماهية معها, وعليه كانت السياسة فرعاً ملحقاً باللاهوت ولم تشكل مجالاً عاماً ومستقلاً.
بمواجهة هذا التصور اللاهوتي كان لابدّ من استعادة مفهوم الإنسان الواقعي وإثبات حقوقه وترسيخها. وكما يشير المؤرخون, فقد أتاح كتاب حقوق الهنود ل فيتورياVitoria (1480-1546) مناقشة هذه المسألة للمرة الأولى وتوضيحها. إذ حدث مع فتح أمريكا أن وجد الفاتحون الإسبان أنفسهم إزاء السؤال التالي, الذي سبق أن تعرّضالعرب المسلمون له ولم يكترثوا بالأمر, هل يحق لهم, بوصفهم مسيحيين, دون غيرهم الحق في الملكية والحرية في استرقاق الآخرين, والتعامل بتلك الطريقة الشائنة في استعبادهم, وانتزاع ملكياتهم؟ وهل يستحق الوثني وغير المسيحي تلك الحقوق..؟ وبقول آخر: هل للهنود حقوقً بوصفهم بشراً ووثنيين؟ في حدود ماكان ممكناً تاريخياً, برهن فيتوريا على كون الهنود بشراً, وإن كانوا غير مؤمنين أو وثنيين, فإن ذلك يضمن لهم حقوقاً...إذ إن هنالك طبيعة بشرية عامة ومستقلة عن الإيمان(1) الديني وعن الانتماءات المعتقديّة والأوضاع الاجتماعية والأخلاق. إنها طبيعة واحدة تصدر عنها حقوق عامة وشاملة, فكون المرء يونانيّاً أو رومانيّاً أو مسيحيّاً أو وثنيّاً, لا تثبت له حقوقاً أو تنفيها عنه, لأنها سابقة على تلك الانتماءات أو الهويّات, ولا تتأثر بها. ومن هنا فإن الملكية حق طبيعي للإنسان, كلّ إنسان, وليس للمسيحي من امتياز على الوثني بهذا الحق, ولا يمكن بالتالي رفض حق الهنود بالتملك لمجرد أنهم يجهلون العقيدة القويمة أو لا يؤمنون بها.
إن مدلول هذه البرهة التاريخية يشير إلى بداية التحرر من المفهوم السابق عن الإنسان ومغزى وجوده, باتجاه استرداد البشرية لوحدتها الطبيعية التي بددت لمصلحة السماء في العصر الوسيط. وهذا الموقف هام وجوهري بالنسبة للنظريات السياسية والاجتماعية والمذاهب الأخلاقية والفلسفات, التي ستستطيع لاحقاً أن تنتج, في ضوئها, خطاباً في الحق والاجتماع المدني, يؤكد أن الحقوق الطبيعية للإنسان, التي هي ملزمة بفعل القانون الطبيعي ومصونة به, هي مصدر جميع الحقوق المدنية والسياسية الأخرى, التي تقوم عليها وتؤسَّس بها. لقد ورثت معظم الدساتير المتمدنة, في العالم الحديث والمعاصر, إرثاً كبيراً من هذه الفلسفة, فحقوق الإنسان هي جملة الحقوق الطبيعية النابعة من طبيعة الإنسان واللصيقة بها, التي تظل موجودة لدى كل إنسان حتى وإن لم يمارسها, فعدم ممارسته لحقّ ما لا يلغي وجود هذا الحق في شيء, لأنها تكمن في الإنسان ذاته, وحسب الكائن أن يكون إنساناً كيما تكون له تلك الحقوق. وبما أنه لا يمكن لأي إنسان أن يكون إنساناً أكثر من سواه أو أقل, وبما أن صفته كإنسان لايمكن استعارتها أو التخلي عنها, فإن كل فرد يحمل في ذاته حقه كإنسان, وهذا الحق هو واحد لجميع الناس.(1)
وجد التمييز بين مفهومي الإنسان والمواطن تعبيره السياسي والحقوقي للمرة الأولى, كما يبدو لنا, في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي عقب ثورة 1789. إذ أخذت فكرة المواطنة بمعناها الحديث, كشرط للحرية والمساواة, تكتسب دلالتها الحقيقية في إطار الدولة الحديثة. إن مدلول التمييز لم يكن اعتباطياً بالمعنيين السوسيولوجي والفلسفي. فحقوق الإنسان هي سابقة على نشأة المجتمع, وتدل مقدمة الإعلان على سموّها وتفوقها, بوصفها حقوقاً مقدسة شاملة وغير قابلة للتصرف تحت طائلة فقدان الكائن لصفته الإنسانية. أما حقوق المواطن فهي تلك الحقوق التي يكتسبها الفرد بوجوده في مجتمع سياسي منظم وكنتيجة لحقوقه الطبيعية, فلا وجود لها من دون وجود مجتمع سياسي.
ينطوي مدلول الإنسان, من حيث هو ذات الحق وبرهان وجوده, على رفض للاستبداد والعبودية, بوصفه كائناً حرّاً بطبيعته فالبشر يولدون أحراراً ومتساوين ( إعلان فلادلفيا تموز1776) أيضاً(إعلان آب الفرنسي 1789), ويضمن بوضوح الإعلان الأخير في مادته الثانية الحق الدائم في مقاومة الاضطهاد والعبودية. إن حرّيتي المطلقة التي أحملها في ذاتي تحول دون قبولي بالعبودية, وبالمقابل تحملني على الاعتراف للآخر بهذا الحق, إلا أن هذه الحرية الطبيعية لا يمكنها أن تتحقق بصورة واقعية إلا بوجود القوانين التي تكفلها وتصونها, أي بوجودي مواطناً في الدولة, حيث أغدو موضوعاً للحق. وبهذا لا أخضع لإرادة غريبة عن إرادتي الذاتية, فكوني موضوعاً للحق, أي مواطناً, يعني ممارستي لإرادتي الذاتية الحرّة على نحو واقعي. ومن هنا نستنتج مغزى القول الشائع, أن لا حرية واقعية بغياب القانون, وحيث لا يوجد قانون يسود التعسف والطغيان. إن ما هو صحيح, من هذا المنظور, أن الحرّية الطبيعية الكامنة فيّ وكذلك المساواة لا يمكنهما أن يتعيّنا واقعياً إلا في المجتمع المدني, وفي ظل قانون ناظم وسائد, فعندما أؤكد حريتي فإن ذلك يكون بوجود مجتمع مدني موازٍ لوجود الدولة السياسية, وهذا ما يمكن أن نستقرئه أولاً من موضوعة حقوق الإنسان والمواطن.
تستهدف مبادئ الإعلان ومواده الإنسان والمواطن معاً, دون تمييز في أكثر الأحيان. لكن بالإمكان أن نستنبط تمييزاً بين حقوق الإنسان وبين حقوق المواطن بالاستناد إلى أهدافها. ومن هنا يبدو الغرض من حقوق الإنسان, هو وضع حدّ لمصادرة حرّية الإنسان في التملك والتفكير والاعتقاد والتعبير ووقف العدوان على حياته من قبل أيّ كان. إنها أيضاً الحقوق التي تهدف إلى حماية الفرد من تعسف سلطة الدولة وتجاوزاتها, ويمكن التمتع بها أساساً في نطاق المجتمع المدني من دون تدخل الدولة ورقابتها.
الحقوق الطبيعية- كما تمت الإشارة- هي قبل كل شيء حقوق الإنسان الواقعي, وهي تخصّه كذات فرديّة, لكنها لا تتعلق إلا بما هو إنساني بشكل عام, ولا تخصّ فرداً معيناً دون آخر, أو جنس دون غيره, بل هي شاملة وصالحة لجميع الناس على اختلاف الجنسيات والأصول والمجتمعات, ومستقلة عن جميع الظواهر المتحولة التي تكتنف تاريخ الإنسان, وتعدّ جميع البشر( في كل الأزمنة والأمكنة) سواسية في التمتع بها. هذه كانت المأثرة الكبرى لإعلان آب, التي عجز التصور الجزئي للفكر الكلاسيكي اليوناني عن الارتقاء والتوصل إليها في النظر إلى الإنسان وحقوقه.
وترتكز حقوق الإنسان على مبادئ فلسفية وأخلاقية, عامة وشاملة, لحماية الإنسان وشخصه وضميره من كل استبداد محتمل أو طغيان أو قهر وبخاصة استبداد السلطة وطيشها. وهي تحمل ضماناتها في ذاتها, إذ ليس علينا أن نبحث عن شرعيتها في الماضي أو نبررها بالحاضر, بل في الطبيعة, فهي تصدر عن طبيعة الإنسان, وتنبثق عن وجوده بالذات. ولهذا كله لايمكن إبطالها أو التنازل عنها, مادام الإنسان عاجزاً عن التنازل عن إنسانيته بالذات, حتى لو شاء ذلك, فالإنسان يظل إنساناً على الرغم من هذا, وبالتالي لا يمكنه أن يتخلى عن تلك الحقوق الطبيعية التي تخصّه.
لكن الفرد الإنسان لا يوجد في المجتمع المدني فحسب, إنه بموازاة ذلك عضو في الدولة, وبهذا الحسبان هو مواطن. فالمواطنة هي الصفة العمومية التي يكتسبها الإنسان بانخراطه في الحياة السياسية العامة ومساهمته فيها, وهي تقتضي قبل كل شيء وجود تنظيم سياسي, أي دولة. وعليه تشير حقوق المواطن إلى حق المساهمة في إدارة المجتمع السياسي بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وبينما تعدّ حقوق الإنسان طبيعية, شاملة وغير مكتسبة, فإن الأخيرة تعدّ مكتسبة يمكن التنازل عنها والتخلي, وهي ترتبط بوجود الإنسان في كيان وزمان سياسيين.
كانت وثيقة آب( 1789) أول وثيقة رسمية عممت مفهوم المواطنة, بالمعنى الحديث. إن كلمة مواطنCitoyen في اللغة الفرنسية تعرّف من خلال اشتقاقها اللغوي فهي تصدر عن كلمة Civitias اللاتينية, المعادلة إلى حدّ ما لكلمة Polis اليونانية, أي دولة- المدينة كوحدة سياسية مستقلة.(1)وقد أسبغت الوثيقة هذه الدلالة على مفهوم المواطن, بأن ربطه بمفهوم الدولة. وبموازاة ذلك أكدت حقوق المواطنبجملة تدابير ضرورية تمكّنه من المشاركة في إدارة الشؤون العامة وتتيح له حرّية الخيارات السياسية, من قبيل حق المواطن في أن ينتخِب وينتخَب. وهذه الحقوق هي في المحصلة ضمانة لحقوقه كإنسان ومترتبة عليها, بل إنها تحصّنها وتمكّنها في الوقت نفسه, فلا تستوي تلك إلا بوجود هذه الحقوق في الدولة.
ما هي إذن هذه الحقوق الطبيعية؟ تؤكد المادة الأولى من الإعلان أن البشر يولدون أحراراً ومتساوين في الحقوق ويبقون كذلك.(2) في حين تشير المادة الثانية إلى أن هدف كل تجمع سياسي هو الحفاظ على تلك الحقوق, التي يضاف إليها حق الملكية وحق الأمن, ومقاومة الطغيان.
إن هذا يعني أن الحرية والمساواة هما الحقان الأساسيان للإنسان من وجهة نظر الوثيقة, ولما كانت الطبيعة الإنسانية واحدة لدى البشر, أي أنهم يشتركون في إنسانيتهم على نحو متكافئ, فإن الحقوق المترتبة عليها هي واحدة أيضاً, إنهم يولدون متساوين في تلك الحقوق. ويجب أن يظل البشر كذلك أحراراً ومتساوين حتى بوجودهم في الجسم السياسي, الذي يجب أن يضمن هذين الحقّين ويحافظ عليهما, فلا يجوز أن يحرم الإنسان من حريته أو من حق التمتع بها, كما لا يجوز الإخلال بالمساواة سواء بالولادة أو من خلال التدرج الاجتماعي, أو أي نوع من الامتيازات الأخرى. وهكذا نرى أن هذه الحقوق التي تخصّ الكائن الإنساني الواقعي, لا المجرد, هي تلك التي تجد تعيّناً مباشراً لها في المجتمع المدني بوصفه دائرة الأنداد المتماثلين والمتكافئين في فرديتهم وفي إنسانيتهم. ولا يمكنها أن تحقق تجسيداً لها مالم يتّسم الأخير بالاستقلال الذاتي عن كل سلطة سياسية, وبالقدرة على حماية تلك الحقوق بوصفها غاية رئيسة له. وبمقتضى هذا الوضع, يتعين على السلطة العامة ألاّ تتدخل في دائرة المساواة الطبيعية هذه أو تخلّ بها. ولهذا انطوت الوثيقة على ضرورات مقيّدة لسلوك سلطة الدولة حتى تضمن تحقق الهدف الذي وجدت من أجله أصلاً, وتحدّ من إساءة استخدام نفوذها. إن تحقيق الحرية لاينفصل عن المساواة, فإذا لم يتساو البشر في قدراتهم وفي خياراتهم السياسية, فلا يمكن الحديث عن حرية حقيقية, والأخيرة لا تتحقق في النهاية إلا بوجود مساواة, إذ من الممكن للبشر أن يتساووا دون أن يكونوا أحراراً, لكن يتعذر علينا القول بأنهم أحرارٌ من دون أن يكونوا متساوين. فمشكلة الحرية, من هذا القبيل, هي في المحصلة مشكلة المساواة في القدرة والخيارات أمام السلطة. وفلسفة القرن التاسع عشر بوجه عام وفلسفة حقوق الإنسان بوجه خاص, هي عبارة عن جهد نظري تأملي من جانب الفلاسفة والمفكرين لمصلحة الحرية, وليس لهما من هدف مركزي سوى ردع الاستبداد ومقاومته. وهنا تكمن الأهمية التاريخية لوثيقة آب, التي ارتقت بالحرّية للمرة الأولى إلى مستوى الهدف المركزي للمجتمع والدولة.
يؤكد الإنسان حريته حين يطرح نفسه كمواطن, والمجتمع السياسي مطلوب لتفتحها, واللجوء إلى الأخير ليس سوى ذلك الفعل الذي به يضمن الإنسان حقه في مقاومة القهر والطغيان وتأكيد حريته ومساواته مع الآخرين بوساطة القانون. والمساواة السياسية, التي تعدّ شرطاً لا غنى عنه للمساهمة السياسية, تعمد في هذا السياق على قدرة الفرد وحريته في مناقشة القضايا العامة والمشاركة في تقريرها بوصفه مواطناً, وإلا استحالت السلطة إلى مجرد مؤسسة قمع تستخدم لإعلاء مصالح خاصة دون أخرى وتكريسها, وبالتالي إلى أداة لسلب الحريات. وهكذا نقترب تدريجياً من فكرة المواطنة التي تشترط الدولة, وتتجه لا إلى إلغاء الإنسان وحقوقه, وإنما إلى تكريس دوره عبر الارتقاء به إلى مستوى آخر وتجسيده. فنحن حينما نتحدث عن المواطن وحقوقه, إنما نعني بذلك , في أحد الأوجه, أنْسَنة المجتمع السياسي, وحينما نعدّ وجود المجتمع المدني دائرة لممارسة الحقوق الطبيعية للإنسان, وإنما نعترف بطريقة أخرى بأن الشرعية السياسية للدولة هي ما يجب أن تؤسس عليها وتستمد منها. ومع ذلك ينبغي رسم حدّ واضح بين الإنسان والمواطن, وإن كانا لا ينفصلان, والإقرار بذلك حتى نضمن استقلال المجتمع المدني وتمايزه عن الدولة. وهذا الشرط هو الذي يضمن لي, على الأقل, الحدّ من تعسف السلطة السياسية واستبدادها.
يرتبط مفهوم الحرية في الإعلان ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الملكية, وتمنح الوثيقة حق الملكية الأهمية الثالثة بعد مفهومي الحرية والمساواة, إذ خصصت له المادة /17/التي تقول: لما كانت الملكية حقاً مصوناً ومقدساً, فلا يمكن أن يحرم منها أحد إلا إذا اقتضت الضرورة العامة المثبتة قانونياً ذلك وبصورة واضحة وبشرط التعويض العادل والمسبق.(1)
تنطلق فلسفة الحق الطبيعي من واقعة بدهية هي أن الفرد مالك لشخصه الخاص, وهذا هو المظهر الأول لاستقلاله ولحريته, ونحن نعلم أن الأيديولوجية الإغريقية عدّت الفرد عبداً فاقداً للحرية, لأنه لا يملك السيطرة على جسده وروحه. كان جون لوك هو المبشّر الأول بهذه البديهية البسيطة والأولية, وبررها في الطبيعة البشرية التي لايمكن سلبها, ولهذا السبب بالذات حسبه العديد من المفكرين المنظّر الحقيقي لليبرالية، ليس لأنه نظّم عالماً كاملاً انطلاقاً من الملكية، وعدّ المجتمع المدني مجتمع المالكين الأحرار فحسب، وإنما أيضاَ لأنه عرّف التفكير في السياسة، تفكيراً في الإنسان كمالك, (1) بخلاف هوبز أو غروسيوس, اللذين اعتبرا التفكير في السياسة, تفكيراً في السيادة. ونحن نعلم أن جون لوك, على الرغم من ذلك, لم يتمكن من التمييز بعناية ووضوح بين المجتمع المدني والدولة. والحال أن الفضل في ذلك يعود إلى آدم سميث, الذي حسب أن قدسية الملكية هي تحصيل حاصل, وهي ليست في حاجة إلى أن تكون موضوعاً للبرهان. ووظيفة الدولة تكمن في الحفاظ عليها, الدولة هي حارسة الملكية, والفكرة الأخيرة هي أصل الحاجة إلى الدولة في الفلسفة الليبرالية.
ترى الليبرالية أن ثمّة قيمة أخلاقية مضمرة في حق الملكية. فالقول بأني مالك لجسدي الخاص, يعني بناء تصور للإنسان, لكرامته, كما يعني جعل المالك شخصاً أخلاقياً: إنه التعرّف, في هذه (الأنا) على شخص أخلاقي, فبما أن الملكية تعرّفني بوصفي (أنا), فهي تعرّف, في الوقت نفسه, كل البشر بوصفهم ملاكين, أي بوصفهم أشخاصاً. فنحن, إذن , أمام مجتمع أشخاص أخلاقيين يساوي, فيه, كل شخص أي شخص آخر,..... فلا يمكن أن أحرم من إنسانيتي لأني أملك, على الأقل, شيئاً هو نفسي, ولا يستطيع أحد أن يتملك, ضد إرادتي, هذه الملكية الأصلية التي تتأكد, بها, أناي حيال آخر, ومساواتي لأيّ آخر.(2) إن هذا التصور القابع في صميم التفسير الليبرالي للملكية هو الذي يمنحها عمقاً أخلاقياً. وهو يتعلق بالفكرة البدئية والأصلية عن المساواة في الحق, والحرية في التصرف. إن سيادتي على نفسي وشخصي ما كانت ممكنة لو لم أكن حرّاً في التصرف بهما, ومعترفاً لي بذلك من جانب المجتمع, بالقدرة على ذلك. ومن هنا بالذات تنبثق أيضاً قدرتي السياسية على التصرف كمواطن حرّ في الدولة السياسية.
ما يستخلص, مما سبق, من تصور للمجتمع المدني, يقوم على أساس وجود جماعة من الأفراد, الملاكين الأحرار, الذين يعترف كل واحد بالآخر من موقع الندّية والتكافؤ, وتعدّ حرية كل فرد ومساواته مع الآخر شرطاً لحرية الآخر ومساواته, فأنا لا أستطيع إعلان نفسي حرّاً إذا لم يكن هذا الآخر كذلك بالنسبة لي, وهذا الاعتراف المتبادل هو الذي يضمن الصالح المشترك ويؤسس له.
إذن لدينا هنا إمكانية فهم معنى انتماء الفرد إلى المجتمع المدني بوصفه إنساناً متمتعاً بالحقوق الطبيعية. فهذه الدائرة هي البيئة التي يستطيع فيها أن يكون حرّاً ومساوياً للآخرين ومالكاً نظيرهم. أكثر من ذلك بوسعه أن يكون فاضلاً بإسهامه, بهذه الصفة , في الصالح العام من موقع الاهتمام والسعي وراء المصلحة الخاصة. إن المجتمع المدني هو دائرة الحق, دائرة المماثلة والملكية, يقرّ فيها الأفراد بعضهم ببعضٍ بوصفهم أحراراً ومتعادلين....
----------------------------------------------
(*) هذا المبحث هو جزء من دراسة شاملة قيد الإصدار والنشر.....
مدونة د. سربست نبي
[1]