الكرد والشركس في صراع أنقرة الطورانية واسطنبول الإسلامية (1918-1922)
الباحث: حسين جمو
$خرائط الشعوب العثمانية واستقلال كردستان كمرحلة مؤقتة$
مع نهاية الحرب العالمية عام 1918، أعدّت جميع ممثلي شعوب الإمبراطورية العثمانية خرائطها. من الأفضل التحفظ على توصيف «الشعوب أعدت» بل «ممثلوها»، لأنه لا منطق في تحميل الشعوب وزر أو خير «مشاريع دول» لا تعرف عن تداعياتها ولا كلفة تحقيقها سوى القليل وليست مستعدة للتضحية بشكل أعمى. وغالباً عانت شعوب المنطقة أكثر، مثل غيرها من سكان هذه الأرض، من فرض التضحيات عليها بدلاً من تفانيها الذاتي في بناء الدول القومية. حتى الشعب التركي المهزوم عام 1918، والذي كان يواجه خطراً وجودياً أمام اليونانيين، فرضت المقاومة الوطنية بقيادة مصطفى كمال وزملائه الضباط والمدنيين على قسم كبير منه التضحية والمشاركة في القتال، وفق ما يكشف الوزير رضا نور، الشاهد على حرب الاستقلال والسنوات الأولى من تأسيس الجمهورية.
عدا عن أن الشعب – بالمعنى السياسي – في وقت ما قبل تأسيس الدول الحديثة لم يكن يدل على الجماهير بل قادتهم المفترضين. في المدن، يمثل الشعب طبقة الأفندية، وفي الأرياف الآغوات. وفي الأقاليم الباشوات. لم يكن الفلاحون جزءاً من الأمم السياسية المشرقية أيضاً، وكذلك كان بالنسبة للكرد والعرب والترك.
يستعرض رضا نور ما يسميه «أطماع» الأرمن والروم الأرثوذكس (الهيلينيين)، وكيف أنهم أعدوا الخرائط ووزعوا فيما بينهم الأراضي. بل إن الروم أرادوا إنشاء دولة للشركس المتمركزين في ولاية سيواس لكي لا يبقى أي شيء للأتراك!
لم يكتف نور بمهاجمة هؤلاء خلال عهد الفوضى والهزيمة، فسرعان ما انتقل إلى مخططات الكرد في اقتطاع جزء من تركيا. فكتب في مذكراته:
«قام الأكراد أيضاً بإنشاء جمعية أسموها الجمعية الكردية، ومركزها في إسطنبول. وكان هدف الجمعية إقامة حكومة كردية تقوم باقتطاع جزء من الأراضي التركية، وتقيم عليها دولة كردية قومية. كان الدكتور عبدالله جودت ضمن هذه الجمعية، وهو من جمعية الاتحاد والترقي، وملحد. كم كان هذا الرجل عديم الحياء. كان لديه مطبعة، وكل الناس يعرفون هذا. كانت هذه المطبعة ملكاً لجمعية الاتحاد والترقي في جنيف، لكنه استولى عليها لنفسه». (ص 161)
يأتي رضا نور على ذكر هذه الجمعية، وهي جمعية «تعالي كردستان»، وليس الجمعية الكردية، في سياق تركيبها ضمن الجماعات المنتظرة لسقوط الدولة العثمانية.
$الحصن العثماني الأخير$
إن مقاربة رضا نور هنا تجاه هذه الجمعية سلبية واتهامية، رغم أن المساعي الكردية بالذات كانت تحظى بتفهم – وأحياناً تشجيعاً – من القادة الترك، لكون الكرد هم «الحصن العثماني الأخير» ضد المشروع الأرمني. وعلى هذا الأساس، انتسبت لها شخصيات من أصول كردية لكنها ذات ميول قومية تركية، مثل الوالي العثماني السابق والأديب سليمان نظيف، بل وحتى شخصيات كردية لا تسعى لدولة كردية لكنها انضمت إلى جمعية «تعالي كردستان» من باب أن هذا هو السبيل لكبح طموحات الأرمن في ضم كردستان. بالتالي، لا يمكن اعتبار قراءة رضا نور لهذا الجانب عميقة، بل ينساق مع المشاعر الطورانية التي لا تفقه في السياسة ولا تعرف لها – للسياسة – ترتيباً سوى كراهية الخصوم، الحقيقيين والوهميين.
في العموم، يواصل رضا نور تصنيف الكرد إلى جانب الأرمن والشركس والروم في السعي لتقسيم تركيا:
«أخذ الإنجليز في الاستمرار في بث الفرقة بقصد تقسيم تركيا، وقام كل من الأرمن والروم والكرد والشركس بالمطالبة بأجزاء من تركيا ليقيموا عليها دولاً عنصرية مستقلة. فقاموا يقولون للأتراك الخلّص من العلويين الذين يقيمون على امتداد شريط من أنقرة إلى تبريز: لستم أتراكاً. وصل الأمر بالإنجليز أنهم كانوا يقولون لأهل قونيا أنتم سلاجقة!» (ص 161)
في الاقتباس أعلاه أيضاً، لم يصوّب رضا نور خطأ قراءته للانحياز الكردي نحو دولة مستقلة أو حكم ذاتي. فما توضحه الاصطفافات في ذلك الزمن أن كلاً من دعاة الدولة الكردية ودعاة الدولة المشتركة (الكردية – التركية) اجتمعوا في عضوية «تعالي كردستان»، وهي نسخة قومية كردية من جمعية الاتحاد والترقي. لقد وضع الموالون للجمهورية المشتركة، أي الداعين لدولة كردية تركية واحدة وفق الميثاق الملي، آمالهم في «تعالي كردستان» مثلهم في ذلك مثل الاستقلاليين الحقيقيين. وتمنت الشريحة الكردية «غير القومية» أن تكون دعوات الاستقلال الكردي مرحلة مؤقتة، انتقالية، حتى يتغير شيء ما في توازنات الحلفاء المحتلين لعاصمة السلطنة.
$لِنَقُل نحن كُرد$
من الشواهد المضادة لفرضية رضا نور في تلك المرحلة، أي استسهاله في اتهام شعوب عديدة بالسعي لتقسيم البلاد، هو ما ينقله البروفيسور جاهد تانيول عن حادثة تتعلق بسليمان نظيف، إذ يقول:
(عندما كانت اسطنبول تحت الاحتلال البريطاني، يقابل سليمان نظيف صديقه الشاعر والكاتب يحيى كمال بياتلي ويشده إلى زاوية حيث يقول له مستهزئاً: سمعت أن جمعية تأسست باسم جمعية تعالي كردستان، هيا ننتسب إليها، بما أنه يمنع علينا أن نقول نحن تُرك، فلنقل نحن كُرد عسى ولعل ننقذ هذا الوطن؛ فيضحك يحيى كمال على اقتراحه هذا ويمضي في طريقه).
إن الشعور بحظر القومية التركية حقيقي وليس اختلاقاً، خاصة في اسطنبول. لذلك يلاحظ فارق في الخطاب القومي بين اسطنبول وأنقرة. ففي العاصمة اعتصمت الناس والنخب بالخطاب الإسلامي العام، على النقيض من أنقرة حيث مركز المقاومة المسلحة، والتي لجأ فيها مصطفى كمال إلى حشد المسلحين باسم “الأمة التركية” في قرى وقصبات الأناضول. في العموم كانت الخطاب السياسي في أنقرة والأناضول ملائماً للنظريات الطورانية والخرافات التاريخية المرافقة، حيث لا أحد هناك في أنقرة، بينما العالم كله في اسطنبول.
أما المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأوروبي، فإنها «تشكيلات تلقائية، أوجدها وضع الدولة ذاته.. ولم يكن لمصطفى كمال أو عصمت إينونو مثقال ذرة من جهد فيها». (ص 166) ويبدو أن رضا نور مقتنع أن مصطفى كمال تم طرده من إسطنبول من قبل حكومة السلطان وحيد الدين، ولم يكن مكلفاً بتنظيم أعمال المقاومة، وأن انضمام كمال اللاحق إلى الحركة الوطنية كان بدافع الانتقام من السلطان. ويسرد «مؤامرات» مصطفى كمال في مؤتمري أرضروم (23 يوليو/تموز – 4 أغسطس/آب 1919) وسيواس (4- 11 سبتمبر/أيلول 1919) لتنصيب نفسه رئيساً. وينتقد رضا نور الدور الانبطاحي لرئيس الأركان الجنرال فوزي جقمق في تحقيق رغبات مصطفى كمال، ويشير إلى شيوع لقب مهين للجنرال هو «قوزي باشا». ويفسر رضا كلمة «قوزي» باللغة التركية، وتعني «الحمل الوديع» (ص 182). وهذا أساساً لقب غير شائع ولا يستخدم للإهانة في التركية، بل الأرجح هو تفسير اللقب باللغة الكردية، حيث كان عدد كبير من النواب من الكرد ووجهائهم. وقوزي تعني «الفرْج» بالكردية، وهو لقب شديد الإهانة، خاصة أن رضا نور يقول إن النواب كانوا يتضاحكون وهم يلفظون هذا اللقب. ومن المعروف الحضور الكردي الواسع في مؤتمر أرضروم.
$الجيش الأخضر التركي – البلشفي$
في بدايات حركة المقاومة الوطنية منتصف 1919، تطلع مصطفى كمال إلى نظام البلاشفة في روسيا ليكون عوناً له ضد الأوروبيين. لكن هؤلاء وعدوه بإرسال جيش من مسلمي روسيا باسم «الجيش الأخضر». وصدّق مصطفى كمال وكاظم قره باكير الأمر. ففي النهاية، اجتاح الجيش السوفييتي جمهورية أذربيجان في أبريل/نيسان 1920. أما الجيش الأخضر، أصبح في نظر مصطفى كمال هو قوات أدهم الشركسي، وهو عسكري شعبي لكنه اكتسب سمعة كمحارب شجاع في حروب الدولة العثمانية في البلقان، ويقود قوات غير نظامية موالية لروسيا البلشفية. ويبدو أن حاجة مصطفى كمال إليه كانت شديدة في بدايات حرب الاستقلال حين كان يفكر في إعلان تركيا «بلشفية شيوعية» (رضا نور- ص 231)، فقاد أدهم قواته ضد التقدم اليوناني واكتسب سمعة وطنية واسعة، لكنه رفض إدماج قواته الشركسية مع الجيش الوطني (جيش مصطفى كمال) ووقع صدام عسكري تمكن خلاله عصمت إينونو من طرد أدهم، فالتجأ إلى القوات اليونانية ثم انتقل إلى الأردن وتوفي فيها عام 1948. أُعلِن بعد انتهاء حرب الاستقلال خائناً للوطن هو ومن كان معه آنذاك.
تم تصوير مغادرة أدهم لتركيا على أنه خيانة ولقب ب “الخائن” برعاية عصمت إينونو، وقد غادر أدهم تركيا ليجنبها حرباً أهلية رهيبة. ومن يريد إنصاف أدهم فإنه يعتبر مغادرته عملاً من أعمال التضحية من جندي وطني صادق، وهذه خلاصة رواية كتبها الروائي محي الدين قندور بعنوان “أدهم الشركسي وحروب الاستقلال”.
أدى القضاء على أدهم الشركسي إلى تعزيز معارضة المسلحين الشركس لمصطفى كمال، وتالياً تقربهم من حكومة السلطان. قاد هؤلاء حركات تمرد موجعة ضد «الحركة الوطنية» في بولو ودوزجة الواقعتين بين أنقرة وإسطنبول وفيهما كثافة للتجمعات السكانية الشركسية رغم العلاقة السيئة التي ربطت هذه التجمعات الشركسية مع القائد أدهم. ومن خلال سرديات رضا نور، يمكن الاستنتاج أن قوات السلطان العثماني المتجهة إلى الأناضول ضد الحركة الوطنية كانت تتكون بشكل أساسي من الألبان والشركس (الأباظيين بالتحديد وفق رضا نور – ص 233)، وهي القوات التي فشلت في تحقيق هدفها في إحباط مساعي كمال.
كان نمط القيادة الخاص به منفراً ولا يحظى بسمعة إيجابية بين العسكريين والعوام على حد سواء. لم يلق ترحاباً مطلقاً حتى في عمق الأناضول فظهرت تحركات – محدودة التأثير – ضده شخصياً في كل من سيواس وأضنة وبورصة ومدن صغيرة. واعتبر مصطفى كمال ذلك «عصياناً ضد الحركة الوطنية». (رضا نور -ص 190)
لم يوضح رضا نور طبيعة هذه الحركات في هذه المرحلة المفصلية سوى زعمه أنها قامت ضد شخص مصطفى كمال وتصرفاته وسلوكياته، من دون أن يوضح أيضاً ما يقصده. وتتقاطع هذه التحركات مع تمرد قوجكري الكردية في ديرسم في الفترة ذاتها، وكان موقفاً سياسياً واجتماعياً تمثل في انعدام ثقة الكرد في ديرسم والكرد العلويين في قيادة مصطفى كمال للحركة الوطنية، مثل مناطق عديدة كانت تنظر إلى كمال كشخص لا يليق بهذا الدور.
من اللافت أيضاً أن رضا نور يصر على طبيعة «الدفاع الذاتي» لنشأة المقاومة المسلحة، وذلك قبل أن يركب مصطفى كمال موجة المقاومة ويننهال بالتخوين على على حكومة إسطنبول ومقام السلطان – الخليفة، آملاً أن تعلن هذه الحكومة المقاومة ضد الأوروبيين على أمل أن يتم نفي الحكومة والسلطان إلى مالطا على أيدي البريطانيين. وفق هذا السيناريو المتخيل، أراد مصطفى كمال تلويث «شرعية اسطنبول» في السياسة والشريعة.
[1]
ملاحظة: الصورة: أدهم الشركي على يسار مصطفى كمال في صورة تجمع رموز المقاومة الشركسية ضد الاحتلال الأوروبي.