البعث و نهاية التاريخ في سوريا
#سليمان يوسف يوسف#
الحوار المتمدن-العدد: 2150 - #04-01-2008# - 11:20
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
منذ انطلاقة حزب (البعث العربي الاشتراكي) في اربعينات القرن الماضي قدم خطابه القومي ومنطلقاته النظرية(أمة عربية واحدة ... رسالة خالدة...وحدة حرية اشتراكية..) على أنها (حقيقة مطلقة)،فضلاً عن انه،بعد انقلابه ووصوله الى الحكم،فرض حالة الطوارئ على البلاد ووضع دستور جديد لسوريا، كرس فيه نفسه حزباً قائداً خالداً أبدياً للدولة والمجتمع. وكل سوري يرفض المقدسات البعثية ولا يتقبلها ويعمل خلافاً لها مشكوك بوطنيته وهو خائن يجب معاقبته وترحيله عن أرض الوطن أو زجه في السجون.وفيما يخص (قانون الطوارئ) جعله سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب السوري،وهو بذلك لا يختلف بمضاعفاته السلبية ونتائجه الخطيرة على الحريات الفكرية والسياسية عن أحكام وفتاوى التيارات التكفيرية المتشددة في الاسلام.حاولت النخبة البعثية التوفيق بين العروبة السياسية و(الاسلام) الخارج من رحم العروبة اصلاً،وسعت تلك النخب الى توظيف (الاسلام) لصالح مشروعها السياسي والقومي، لكن بسبب طغيان الولاء الديني على الولاء القومي لدى الانسان العربي المسلم، تراجعت العروبة السياسية- حتى داخل تيارات وحركات القومية العربية من ضمنها البعث نفسه- شيئاً فشيئاً،حتى يبدو اليوم أن مشروع القومي العربي سقط لصالح مشروع الأصولية الاسلامية أو (الاسلام السياسي)، بمختلف اتجاهاته وتياراته، الذي بدأ يرفع شعار ( الاسلام هو الحل) بعد فشل الأنظمة القوماوية في تحقيق تطلعات شعوبها.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط الشيوعية عام 1989 كنظام سياسي واقتصادي ساد أوربا الشرقية لنحو سبعة قرون،كتب المفكر الأمريكي (فرنسيس فوكوياما (مقاله الشهير(نهاية التاريخ) المثير للجدل السياسي والفلسفي،قال فيه،معقباً على ما جرى للمعسكر الاشتراكي: (( إن ما نشهده الآن ليس نهاية للحرب الباردة أو مرور فترة معينة لمرحلة ما بعد الحرب ، وإنما نهاية للتاريخ ، بوضع حد للافكار الايديولوجية في التاريخ الانساني وانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية الغربية)).طبقا لنظرية فوكوياما، فإن الديمقراطية قد أثبتت في تجارب متكررة على أنها أفضل النظم التي عرفها الانسان أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا.لهذا يرى فوكوياما (أن تطور التاريخ بمفهومه الفلسفي الديالكتيكي كصراع الايديولوجيات انتهى بسقوط الشيوعية والانتصار الحاسم والتاريخي لليبرالية الديمقراطية كنموذج مثالي ووحيد القابل للحياة والاستمرار).بمعنى آخر يرى فوكوياما في انهيار الشيوعية وانتصار الليبرالية،نهاية) التاريخ السياسي ( للعالم.
لقد بنى فوكوياما نظريته(نهاية التاريخ) في ضوء التحولات الفكرية العميقة والتطورات السياسية الكبيرة التي شهدها العالم لصالح الديمقراطية والفكر الليبرالي بعد عقود من (الحرب الباردة) والتنافس والتحدي،السياسي والاقتصادي والعسكري، مع المعسكر الاشتراكي(الشيوعي).في حين نرى أن حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا أنهى (التاريخ) السياسي لسوريا بانقلاب عسكري على الحكم.اذ ليس من المبالغة القول: أن ما اقدم عليه البعث بعيد انقلابه،بدءاً من احتكاره للسلطة والثروة في البلاد و تعطيل الدستور والقضاء بإبقاء البلاد تحت قانون الطوارئ والأحكام العرفية،وفرض نفسه وصياً على مصالح الشعب والوطن السوري وربطها بمصالح الحزب والنظام،فضلاً عن انتهاج سياسية التعريب وتقويض وجود القوميات الغير عربية من آشوريين وأكراد وأرمن وغيرهم وتهميش المسيحيين والسعي الحثيث لأسلمة المجتمع السوري بأساليب وطرق مختلفة لا تخلو من نزعات شوفينية وعنصرية،هو عملياً ليس اعلان (نهاية التاريخ السياسي) لسوريا وانتزاع السياسة عن المجتمع فحسب، وانما هو دفن لتاريخ سوريا وموت سياسي لشعبها العريق الذي تميز عبر تاريخه الطويل بالابداع والعطاء والحيوية،حيث يبدو هذا الشعب اليوم شعباً محبطاً يائساً بلا ارادة لا حول ولا قوة له، من دون أمل و من غير تطلعات سياسية و طموحات مستقبلية.فالاستبداد الشامل والقمع الممنهج اللذان مارسهما النظام البعثي الشمولي على الشعب السوري قتلا روح التضحية والعطاء في نفوس ابناء هذا الشعب، و سببا في تعطيل دورة الحياة الطبيعية للمجتمع السوري الذي كان قد شهد ،في خمسينات القرن الماضي، نهضة فكرية وثقافية وسياسية متميزة وعاش تجربة ديمقراطية وليبرالية ناجحة. فبعد مضى نحو نصف قرن على حكم البعث لسوريا،يبدو أن الزمن السوري قد توقف عند تلك المقولات الايديولوجية المهزومة والشعارات التضليلية التي رفعها البعث وتخفى خلفهما،والتي أضرت كثيراً بالمفاهيم الديمقراطية والمدنية وأساءت لحقوق الإنسان وشوهت مفهوم الوطن والمواطنة والوطنية.
لقد سوغ فوكوياما لنظريته (نهاية التاريخ السياسي للعالم) بصمود الليبرالية الديمقراطية وانتصارها على عدوتها التاريخية (الشيوعية)،لكن لا ادري بماذا يسوغ البعثيون اليوم تمسكهم بنظريتهم (نهاية التاريخ السياسي لسوريا) ودفاعهم عنها.هل باستكمال السيادة الوطنية على كامل الجغرافية السورية بتحرير لواء اسكندرون و الجولان وانتصارهم الحاسم على اسرائيل (العدو التاريخي للعرب)، بحسب عقيدتهم القومية والسياسية؟.أم بانجاز(الوحدة العربية الشاملة)؟. أم برفع مستوى المعيشة للشعب السوري وتحقيق تنمية وطنية شاملة لم تحققها دول أخرى في المنطقة؟. أم بانجاز وحدة وطنية تحسدنا عليها الشعوب المجاورة؟.طبعاً شيء من كل هذا لم يتحقق. بالنسبة للواء اسكندرون تم التخلي عنه وشطبه من الخريطة السياسية لسوريا. والجولان عودته للوطن الأم باتت متروكة للزمن ورهناً بالتطورات الاقليمية والدولية وبحجم التنازلات السورية لأجل انجاز عملية السلام مع اسرائيل.أي أن ارادة التحرير لدى الطبقة السياسية السورية الحاكمة تراجعت كثيراً،هذا اذا لم تكن قد تلاشت كلياً.أما فيما يخص الوحدة العربية التي بدأت حلماً في بداية القرن العشرين باتت سراباً مع نهايته.وبالنسبة للوضع المعيشي والاقتصادي والتنمية في سوريا،الغالبية الساحقة من الشعب السوري تئن اليوم تحت وطأة الفقر والعوز، وافواج العاطلين عن العمل في تزايد مستمر حتى في اوساط خريجي المعاهد والجامعات، وآفة الفساد استفحلت بشكل مخيف وهي تنخر مفاصل الدولة والمجتمع. وفيما يخص الوحدة الوطنية والتماسك المجتمعي،يرى الكثيرون أن المجتمع السوري ليس متماسكاً وانما (ممسوك به) من قبل الدولة وأجهزتها الأمنية.اذ،هناك أكثر من معطى ومؤشر على حصول تراجع كبير في عملية الاندماج الوطني بين مكونات المجتمع السوري الذي يتصف بالتنوع الديني والقومي والمذهبي والاثني والعشائري، وحصول اصطفافات على ارضية هذه الانتماءات، وهي في طور تحولها من كيانات اجتماعية ثقافية الى كيانات سياسية متنافرة داخل الدولة السورية.فضلاً عن تنامي الاتجاهات الاسلامية المتشددة في قاع المجتمع السوري وبروز (الاصولية الاسلامية) علناً وبقوة على السطح الاجتماعي والثقافي تمهيداً لانتقالها الى الفعل السياسي في المرحلة المقبلة وهي بكل تأكيد لن تطول اذا ما استمر النظام في انتزاع السياسية عن المجتمع، واقفال المنابر الاعلامية واغلاق المنتديات الثقافية امام القوى والتيارات الديمقراطية والليبرالية وتعطيل فعاليات المجتمع المدني وزج نشطاء أحزاب المعارضة والحراك الديمقراطي والحقوقي في السجون.في الوقت الذي تزداد شعبية وجماهير الأصولية الاسلامية،وذلك بفضل نشاط (حزب الجامع)،الحزب الوحيد الذي لا قدرة للنظام السوري على الغائه ومنع نشاطه واغلاق منابره في وجه رواده ومناصريه، لأنه(حزب الجامع) هو (الحزب الإلهي المقدس)،يأخذ شرعيته ومشروعيته من آلهة السماء وليس من آلهة الأرض.اعتقد أن الانجاز الوحيد الذي حققه البعثيون طيلة فترة حكمهم لسوريا، ويمكن لهم أن يفتخروا به و يأخذوا منه مسوغاً لتمسكهم بنظريتهم(نهاية التاريخ السياسي لسوريا) ودفاعهم عنها،هو انتصارهم على (ارادة الشعب السوري) وقدرتهم على ترويض هذا الشعب وتطويعه وتسخيره لخدمة مصالحهم ومكاسبهم وامتيازاتهم السياسية والاقتصادية، الى درجة يرى الكثير من المهتمين والمراقبين للشأن السوري بأن تغير النظام القائم واسقاط حكم البعث،بات يحتاج الى (معجزة سياسية).
[1]