ملامح مرحلة جديدة في سوريا
#سليمان يوسف يوسف#
الحوار المتمدن-العدد: 839 - #19-05-2004# - 04:55
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
- اختلف المراقبون والمحللون السياسيون في قراءتهم لحديث الرئيس السوري بشار الأسد لقناة فضائية (الجزيرة)، التي بثت مقابلة معه في الأول من شهر أيار الجاري، إذ يرى البعض في حديث الرئيس ملامح (مرحلة سياسية) وثقافية جديدة في سوريا،تعطى فيها الأولوية للقضايا والمسائل الداخلية التي أهملت في عهد الرئيس الراحل (حافظ الأسد)، الذي جاء إلى الحكم وهو متشبع بالأفكار والأهداف القومية ل(حزب البعث العربي الاشتراكي). إذ كانت تبدو شؤون سوريا الداخلية، بالنسبة له وكأنها فاقدة المعنى بمعزل عن محيطها العربي وبعدها القومي. وقد قال الكاتب والصحفي البريطاني( باتريك سيل) عن الرئيس الراحل،حافظ الأسد، في كتابه (الأسد... الصراع على الشرق الأوسط):(( كان حافظ الأسد متشرباً بالعزة القومية ومغمساً بالدبلوماسية ولا يبدي اهتماماً كبيراً بالقضايا الداخلية، وهو في ذلك كان ( ديغول)العرب. فالوقوف في وجه اسرائيل، والصراع مع القوى الأجنبية الأخرى، كانت هي القضايا التي كرس لها معظم ساعات عمله)). لا خلاف على أن الرئيس الراحل حافظ الأسد، أجرى في بداية عهده، بعض التغييرات المهمة في الحياة السياسية السورية، حيث أقام العديد من المؤسسات الدستورية والأطر السياسية الجديدة،في مقدمتها مجلس الشعب والجبهة الوطنية التقدمية، لكن سرعان ما دب فيها الجمود الفكري واصابها شيء من الشلل والتكلس السياسي، بسبب وضع هذه المؤسسات في خدمة ( النظام ودولة البعث).
لا شك أن الرئيس بشار الأسد يدرك جيداً أن الظروف، العربية والإقليمية والدولية، المحيطة بالصراع العربي الإسرائيلي قد تغيرت، خاصة بعد الاحتلال الأمريكي/البريطاني للعراق، فلا بد من تغيير اساليب التعامل وطريقة التعاطي مع هذا الصراع،وهذا بالضرورة يتطلب اعادة ترتيب أولويات السياسية السورية، في عالم يعج بالمتغيرات المتسارعة، بحيث تحظى القضايا والشؤون الداخلية لسوريا، باهتمام أكبر. لهذا جاء، الدكتور بشار الأسد، إلى الحكم وفي أجندته برنامجاً وطنياً لإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية في سوريا،وبات الإصلاح بالنسبة له((مهمة وطنية))لا يمكن التراجع أو التخلي عنها، وهي غير مرهونة أو مرتبطة بالتطورات الخارجية. وفي حديثه لفضائية (الجزيرة) حمل الرئيس(بشار) مسئولية تباطؤ أو توقف عملية التطوير إلى الانتهازيين الذين ركبوا موجة الإصلاح وقد تتضمن كلامه رسالة انذار وتهديد لهؤلاء، قال: ((... هناك نقطة أنا أعطيها دائماً الأولوية في إيقاف وتأخير وإعادة عملية التطوير إلى الخلف هي الانتهازية. دائماً الانتهازيون عندما يركبون موجة التغيير يخربون كل شيء، طبعاً هم موجودون في الدولة وخارج الدولة، يركبون موجة الإصلاح،إما لأسباب ذاتية ترتبط بمصالح خاصة، أو ربما لأهداف تصل الى حد نسف النظام الحالي وهذا شيء لا نقبل به)).
لقد اتسمت سياسية الرئيس بشار الأسد،منذ بداية حكمه، بالواقعية والموضوعية، وهي أقرب إلى (البراغماتية السياسية)، التي تبحث عن النتائج العملية، منها إلى (الثورية والانقلابية) التي تقاتل من أجل (الربح السياسي) السريع وتعتقد بأن بمجرد تغيير الأشخاص وتبديل القوانين تتحسن أحوال المجتمع وتتطور البلاد. فالرئيس بشار لا يؤمن بالمعجزات السياسية، وقد أكد في اكثر من مناسبة على أنه لا يملك (عصا سحرية)، لمعالجة جميع قضايا ومشاكل المجتمع السوري دفعة واحدة: ((القضية ليست بتغيير أشخاص.القضية هي نظام عام، لا بد من تطوير النظام بكل جوانبه)) هذا الكلام للرئيس بشار الأسد قاله في مقابلة اجرتها معه فضائية (العربية) في9 حزيران 2003 .
- من المعروف عن(العقل السياسي) السوري والعربي عامة، الرسمي والمعارض، أنه متأثر إلى حد كبير في تحليلاته وتنظيراته ب(نظرية المؤامرة) التي خرجت بها المدرسة (الشيوعية السوفيتية).إذ تتسارع معظم وسائل الإعلام، الرسمية وغير الرسمية، وتصريحات المسئولين في جميع الدول العربية لإدانة كل سلوك سياسي معارض وكل عمل تخريبي أو إرهابي يقع في البلاد بتهمة العمل لصالح جهات خارجية والتآمر على الوطن، حتى قبل إلقاء القبض على المتهمين واجراء التحقيق معهم، وهذا ما حصل بالنسبة لأحداث القامشلي والتفجيرات الإرهابية التي وقعت مؤخراً في منطقة المزة بدمشق.لكن الرئيس بشار الأسد تجاوز هذه القاعدة (نظرية المؤامرة) وتعامل مع الأحداث الأخيرة بمنتهى الواقعية والشفافية والصراحة، التي لم نعتاد سماعها من قادة الدول وزعماء الأحزاب العربية،قال:((أن التحقيقات حتى الآن لم تثبت أي تتدخل خارجي في هذه الأحداث و ليس هناك ما يثبت بوجود مؤامرة معينة.وأن سوريا تتعامل مع هذه الأحداث باعتبارها مسالة داخلية،وأن دمشق قادرة على احتواء مثل هذه الأمور)) فالرئيس بشار الأسد لم يقل ما لم تثبته التحقيقات عن أحداث القامشلي وتفجيرات المزة. ولكلام الرئيس أهمية خاصة لأنه جاء في وقت سوريا تتعرض لضغوطات خارجية كبيرة في مقدمتها قانون محاسبة سوريا الذي فرضته عليها أمريكا، والتهديدات العسكرية الإسرائيلية المستمرة.وقد أراد الدكتور بشار أن يؤكد للآخرين أن سوريا، المهددة ، هي دولة منيعة ومحصنة في وجه أعداءها.
- يتميز المجتمع السوري بتنوعه القومي والثقافي والديني، فإلى جانب القومية العربية هناك الآشوريين(سريان/كلدان) والأكراد وبعض الأقليات الصغيرة مثل الأرمن والتركمان والشراكس.في السابق كان مجرد الحديث عن وجود (قوميات) غير عربية في سوريا يعد من الممنوعات والمحرمات السياسية، بذريعة أن فتح هذا الملف يشكل خطراً على أمن الوطن ووحدة البلاد، تحت هذه المسوغات والحجج الواهية، تم القفز فوق (مشكلة القوميات) وتجاهل حقوقهم، التي ترتبط بشكل مباشر بقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان.لكن بات جلياً أن الرئيس بشار الأسد يمتلك رؤية جديدة للمسالة الوطنية، رؤية متحررة بدرجة كبيرة من الفكر (البعثي) المنغلق على القومية العربية، رؤية منفتحة على المجتمع السوري بكل طيفه القومي والثقافي والاجتماعي والسياسي.وقد جاء انعقاد (مؤتمر التراث السرياني التاسع)- السريان ورثة الثقافات الآرامية والبابلية والآشورية- لأول مرة في سورية،موطن السريان ومهد حضارتهم، في شهر نيسان الماضي في مكتبة الأسد بدمشق، وتحت رعاية وزارة الثقافة السورية، تجسيداً لنهج الانفتاح الذي بدأه الرئيس بشار الأسد، وليعكس انعقاد هذا المؤتمر رؤية متميزة وجديدة لمسألة الهوية الثقافية والحضارية لسوريا.ويرى المراقبون، في قول الرئيس بشار الأسد، بصفته (الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي)عن الأكراد السوريين لقناة فضائية الجزيرة:(( القومية الكردية هي جزء أساسي من النسيج الوطني السوري ومن التاريخ السوري)) نقطة تحول مهمة في(الفكر السياسي) لحزب البعث الحاكم وفي موقف(الحزب)من مسألة (القوميات) في سوريا.
إذاً: فهل سوريا مقبلة على مرحلة جديدة من الحياة السياسية والثقافية..؟ ربما؟ ما لم تكبل أفكار الرئيس بشار الأسد وتوجهاته السياسية ،من قبل الانتهازيون، حراس المصالح، كما سماهم، بقيود وعراقيل سياسية، مثلما عرقلوا عملية التطوير والتحديث لأنهم رأوا فيها تهديداً لمصالحهم ومواقعهم.
سليمان يوسف يوسف... كاتب آشوري سوري... مهتم بمسألة الأقليات.
shosin@scs-net.org
[1]