ربيع القامشلي والامتحان الوطني
#سليمان يوسف يوسف#
الحوار المتمدن-العدد: 808 - #18-04-2004# - 10:21
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تبدو الجزيرة السورية، حزينة كئيبة، على غير عادتها، في مثل هذه الأيام من كل عام، التي تستعد فيها لاستقبال أعياد الربيع،أعياد الطبيعة والآلهة والإنسان، (نيروز) الكردي، ( أكيتو) الآشوري، (الفصح) المسيحي، الجلاء السوري.فبعد الأحداث المؤلمة التي شهدتها القامشلي وبعض مدن الجزيرة أيام 12و #13-03-2004# ، ذلك على خلفية مباراة بكرة القدم بين نادي الجهاد( القامشلي) ونادي الفتوة(ديرالزور)، وما تركته من أثار سلبية على المزاج العام في المجتمع ألغيت معظم مظاهر الاحتفالات والفرح بهذه الأعياد. وعلى أثر هذه الأحداث تحولت القامشلي ،الراقدة باطمئنان وأمان في سهول الرافدين الخضراء، إلى مركز اهتمام ومحط أنظار العالم، وشهدت نشاطات ولقاءات سياسية ومشاورات مكثفة بين مختلف القوى والفعاليات الكردية والآشورية والعربية، سعت جميعها إلى التهدئة والتخفيف من حالة الاحتقان، وقد شارك في هذه اللقاءات وفد المنظمات الأهلية، الذي قدم إلى القامشلي للمساهمة بدوره الوطني في التخفيف من الآثار السلبية لهذه الأحداث على الوحدة الوطنية، وقد ضم الوفد (ناشطين من لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان ومن الجمعية السورية لحقوق الإنسان ومن لجان أحياء المجتمع المدني).
من دون الدخول في سجال طويل حول من البادئ والمسئول عن أحداث القامشلي، أبدأ من حيث أجمع عليه معظم الحاضرين في الملعب، على أن السبب المباشر للأحداث هو اطلاق شعارات استفزازية ورفع صور لشخصيات ورموز عراقية( عربية وكردية) من قبل جمهور الفريقين، على خلفية مواقف سياسية وانتماءات قبلية عرقية/أثنية، أساءت، جميعها، للكرامة والسيادة الوطنية. لكن ما حدث لم يكن مفاجئاً في أجواء الاحتقان القومي والاجتماعي التي بدأت مع تطبيق سياسية التعريب في سوريا، منذ وصول القوميين العرب إلى الحكم في الستينات من القرن الماضي، ومضايقة القوميات الغير عربية، من آشوريين(سريان/كلدان) وأكراد وأرمن، وتراكمت هذه الاحتقانات ، مع استمرار حزب (البعث العربي الاشتراكي) الحاكم في سياسية الاستعلاء القومي وتهميش الأحزاب والقوميات الأخرى وتجاهل حقوقها التي تندرج في اطار حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، إلى جانب تأثيرات الحالة الراهنة في العراق، الواقع تحت الاحتلال، على الوضع السوري عامة والجزيرة خاصة، التي تشكل تكويناتها القومية ومكوناتها الثقافية والاجتماعية المحرك الأساسي للحياة السياسية فيها، في ظل كل هذا، ما حدث في القامشلي ومدن الجزيرة السورية كان متوقعاً له أن يحدث . لقد أخطأ الجميع، منذ البداية، في تعامله مع المشكلة، بدءاً من القائمين على المباراة والجهات المسئولة عن حفظ الأمن والنظام في المحافظة، باستخدامها السلاح وإطلاق الرصاص في الهواء لتفريق الجماهير الغاضبة والذي تسبب بوقوع قتلى.
لا أعتقد أن (القوى الكردية) كانت قد خططت مسبقاً لمثل هذه الأعمال، كما يذهب البعض، لكن تسارع الأحداث بالشكل الدراماتيكي الذي حصل في اليوم الثاني 13/3 وامتداد التظاهرات الكردية لجميع المناطق والمدن التي يتواجد فيها أكراد هو مؤشر على أن بعض التيارات السياسية في الحركة الكردية، خاصة تلك التي هي خارج سوريا، أرادت استثمار وتوظيف الحدث لغايات سياسية قومية وحزبية في هذا الظرف السياسي الذي تمر به سوريا والمنطقة. لذلك حرفت الأحداث عن مسارها الطبيعي وبالغت فيها إلى درجة تم تصوير واعتبار، أعمال الشغب والتخريب التي حدثت في القامشلي و بعض مدن الجزيرة، على أنها مقاومة أو انتفاضة كردية لقوات احتلال أو مستعمر طالبت بخروجها من ما يدعونه ب(كوردستان سوريا)، واقتحم بعض الأكراد السفارة السورية في بروكسل ورفع العلم الكردي فوقها.
وتمثل خطأ (القوى الوطنية) في (الحركة الكردية السورية) بتركها الساحة الكردية مفتوحة للمتطرفين والغوغائيين من الأكراد المتحللين من كل شعور وطني، الذين حولوا تشيع القتلى من الأكراد إلى مسيرات وتظاهرات رفعت فيها شعارات قومية سياسية هوجاء ،استقوت بالخارج، وحرق فيها العلم الوطني ورفع علم كردستان، كما خلت ، هذه المسيرات، من الأعلام والشعارات الوطنية التي تدعوا للتآخي القومي والعيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد على أرضية الوحدة الوطنية. فبدلاً من أن تظهر (القوى الوطنية الكردية) قائدة فاعلة،بدت منقادة خلف شعارات قومية متطرفة، انطوت على نزعة انفصالية واضحة، مما خلق، لدى مختلف قوى (الحركة الوطنية السورية)، شكوكاً في المواقف الوطنية للحركة الكردية وتخوفاً من سياساتها القومية. لهذا أرى أنها ( القوى الوطنية الكردية) السورية، مطالبة بإدانة وشجب، بشكل واضح وصريح، كل هذه الممارسات والشعارات، التي مست بالوحدة والسيادة والكرامة الوطنية، خاصة مصطلح( كوردستان سوريا)الذي يتنافى مع تاريخ الجزيرة السورية، ماضياً وحاضراً ويتعارض مع ثوابتنا الوطنية،وأن تعيد هذه القوى الكردية تأسيس خطابها القومي وبرامجها السياسية على أسس وطنية، واضحة وثابتة، لا تقبل الشك والتأويل.
لا شك أن ما شهدته الجزيرة السورية كانت أحداثاً مأساوية مؤلمة أوجعت الوطن والمواطن معاً وضعت الجميع في سوريا أمام امتحان وطني حقيقي، لهذا نتمناها عابرة و عبرة ، عابرة في تاريخ سوريا لا تتكرر، وعبرة تدفع الجميع للتحرر من الفكر القومي المنغلق والمفهوم الضيق للقومية،والخروج من شرنقة ألهويات العرقية والإثنية القاتلة والتخلي عن الخرائط السياسية والأحلام القومية التي لا بد من أن تتحول على أرض الواقع إلى كوابيس مرعبة تمزق هويتنا السورية وتهدد وحدتنا الوطنية، فمن الأخطاء القاتلة أن يحول البعض خلافه مع السلطة إلى خلاف مع الوطن.
الجميع، في سوريا، مطالبون بإعادة النظر في خطاباتهم القومية وبرامجهم السياسية على أرضية الوحدة الوطنية وقبول الآخر، في اطار (هوية وطنية) يتوافق عليها الجميع، تعكس/تعبر عن التعددية القومية والدينية والثقافية التي يتميز بها المجتمع السوري.
كما نأمل أن تدفع هذه الأحداث (القيادة السورية) للوقوف بجدية على أسباب ما حدث، وعدم الاكتفاء بالحلول الأمنية، والتعاطي بموضوعية وواقعية مع كل المسائل الوطنية, ومنها مسألة (حقوق القوميات), تمهيداً لحلها على أرضية الوحدة الوطنية والديمقراطية، والإسراع في عملية الإصلاحات السياسية والديمقراطية والاهتمام بمنطقة الجزيرة من حيث التنمية الاقتصادية والعلمية والخدمات الاجتماعية والصحية. أن تحصين الوحدة الوطنية تستدعي توطيد أواصر العلاقة بين القومية العربية الغالبة والقوميات الأخرى، من أكراد وآشوريين وأرمن وغيرهم، ذلك من خلال الإقرار بهذه التعددية والاعتراف بحقوق متساوية للجميع في الوطن السوري، فمن الخطأ والخطورة أن تبقى سوريا دولة لقومية واحدة وبثقافة ولغة واحدة و لحزب واحد ولدين واحد.
أخيراً:
عادت الحياة إلى طبيعتها في القامشلي، وباقي مدن وبلدات الجزيرة السورية، لكن ستبقى هذه الأحداث المؤلمة، بدلالتها السياسية وخلفياتها الثقافية، وبما حملته من مخاطر فتنة داخلية، محفورة في الذاكرة السياسية والاجتماعية للشعب السوري عامة والشعب الآشوري(سريان/كلدان) خاصة، الذي يشكل العمق التاريخي والحضاري، ليس للجزيرة السورية فحسب، وإنما لكل سوريا، وقد حولته الصراعات العرقية في المنطقة إلى أقلية قومية ودينة، فهو(الشعب الآشوري) أكثر شعوب سوريا شعوراً بالظلم والغبن والحرمان .
ويبقى أملنا كبير بأن تبقى الجزيرة السورية، بطيفها القومي والثقافي والديني والسياسي المتنوع، رمزاً للتآخي والتعايش المشترك بين كل ألوان هذا الطيف السوري وعنواناً لوحدتنا الوطنية.
سليمان يوسف يوسف... سوريا/ القامشلي كاتب آشوري مهتم بمسألة الأقليات.
shosin@scs-net.org
[1]