عقم التوتاليتاريّة في الشرق الأوسط
صلاح الدين مسلم
تُعدُّ قاعدة (من ليس معنا هو بالضرورة ضدنا) إحدى أهمّ قواعد الزعماء التوتاليتاريّين، حتّى وإن أظهرتهم كل الوسائل الإعلاميّة على أنّهم ديمقراطيّون وسيمون هادئون، فهم لا يتورّعون عن قصف المدنيين، ولا في دعم مجموعات تقتل الأطفال، وتغتصب النساء، وتعلّق رؤوس الناس على أبواب المدن التي أفرزتهم لا محالة.
إنّ الدولة القوميّة هي الطابع الحقيقيّ لليبرالية والاشتراكية بماهيتها المشيّدة (اشتراكية الدولة) على السواء، لذا ترتبط مباشرة بالفاشية ضمن نطاق السلطوية والتوتاليتارية، لذا فإنّ المفهوم الذي يشكّل الأرضيّة الفلسفيّة لمفهوم السلطة الاستبدادية والتوتاليتارية والهرمية يؤدّي إلى العقل التصوّريّ الأكثر بعداً عن الحياة، “فبات الأسلوب العلميّ النموذج المصغّر للديكتاتور العصريّ الذي يحمل في طيّاته كلّ أشكال وأنواع الديكتاتوريات التوتاليتارية والتسلطية.
إنّ أوّل من عرّف لنا مفهوم الديكتاتوريّة الحديثة بدقّة متناهية هي الكاتبة والمفكرة العالميّة (حنّا أرندت) حيث عبّرت عن هذه الحالة السلطويّة التسلّطيّة الشوفينيّة بمفهوم “الزعيم التوتاليتاري” وهي حالة تاريخية متطوّرة لتاريخ الهيمنة السارغونيّة الفرعونيّة القديمة، والتوتاليتاريّة أو الديكتاتوريّة الحديثة، حيث تعدّ حالة متوارثة عبر التاريخ، لكنّ التاريخ الأوروبيّ الحديث قد أفرز لنا منظومات توتاليتاريّة متطوّرة لها أسس وأركان جديدة، كالهتلريّة الألمانيّة والموسيلينية الإيطالية والفرانكويّة الإسبانيّة والستالينيّة الاشتراكيّة السوفيتيّة… وما إن وضعت الحرب العالميّة الثانيّة أوزارها حتى تسرّبت هذه المفاهيم إلى الشرق الأوسط، كما تسرّبت الحداثة الرأسماليّة في المجالات كافّة، وبدأ الغزو الثقافي الغربيّ ينخر في جسد الشرق منبع الحضارات، فظهرت مع التوتاليتاريّة الغربية هجائن غريبة عن أيديولوجيات الشرق، فنمت في الشرق نماذج مشابهة كعبد الناصر وصدّام والخميني….
إنّ الزعيم التوتاليتاري ينفرد بكونه ينخرّ بوجوده الهيمنيّ في مفاصل الحياة برمّتها وعلى أقصى الحدود والنطاق، فيبتلع المؤسّسات كلّها في ذاته، فيصيّر مؤسّسات المجتمع كلّها في خدمة الدولة ليبتلع كل كيانات الدولة والقوانين والسلطة ويجسّدها في نفسه، فهو القائد المحرك الأوّل الذي يحرك البنية كلها بسكونه التاريخيّ الهيمني الواقف لعجلة الحياة.
يقوم المبدأ الأساسيّ المنظّم للاأخلاقيات الحركة التوتاليتارية؛ على التخلّي عن كل شيء اسمه أخلاق، فالزعيم محاط بدائرة من المريدين الذين يبثّون من حوله هالة من الأسرار العصيبة على النفاذ، وتتعيّن المهارة الأساسية للزعيم في نسْج الدسائس بين أعضاء نخبته، والقيام باستبدال طاقم فريقه بين الفينة والآخر وباستمرار، حتى يدفعهم بلا انقطاع نحو بذل المزيد من الولاء والجهد لضمان رضاه واستحسانه.
إنّه في حرب ضروس مع البشريّة والإنسانيّة، يريد أن تكون كلّ المفاتيح بيده، وكأنّه الشمس التي يجب أن تدور حوله كل النيازك والكواكب.
لا ريب أن التاريخ القديم قد حوّل فرعون إلى إله يُعبد، لكن وسائله كانت بدائيّة، ولم يكن بقادر على التخلخل في مفاصل الحياة عبر المنظومة الإعلامية الجبّارة التي تروج لهيمنته، وكأنّه الضرورة التاريخيّة التي لا حلّ للحياة سواه، وبذلك تتعقد المشكلة عندما تحلّ الوضعيّة العلميّة بديلاً عن الإله والزعيم الإله، لتحلّ القومويّة الإلهيّة عوضاً عن الإله المثاليّ، فتغدو اللغة إلهاً والأرض والحدود إلهَين مقدّسين، والشعب الواحد القولبيّ إلهاً، ويغدو الزعيم التوتاليتاريّ حامي المفاهيم الوضعيّة الجديدة الإلهيّة، فيتسرّب هذا الإله الرئيس كلّياً في التنظيم التوتاليتاريّ، حتى يغدو أصغر موظّف فيه على أنّه امتداد للزعيم ظلّ الله الجديد على الأرض له.
والحال من هذا الشعور الوجداني الغريب يدفع أبسط الموظفين نحو المزيد من الإساءات لأجل تنمية رصيدهم الوهميّ والهستيري من عطف القائد الضرورة، فبالتالي تشكل خاصية التماهي المطلق بالتنظيم ميزة فارقة للزعيم التوتاليتاري عن القائد الديكتاتوريّ، فالمستبد شأنه شأن الديكتاتوري يحافظ على مساحة فاصلة بينه وبين مأمورِيه ولا يتبنَّى مطلقا أعمالهم حتى يعتمدهم أكباش فداء، حينما يكون الحكم موضع انتقاد أو استهجان من طرف الشعب أو بعض القوى الداخلية أو الخارجية، أمّا القائد التوتاليتاري فلا يسمح مطلقا أن يكون موظّفوه موضوع لوم أو انتقاد طالما أنهم يعملون تحت رعايته وإمرته، والنتيجة الأساسية لهذا التبني المطلق هي ألّا تكون لأحد مسؤولية على أفعاله انطلاقا من ذاته.
إنّ مفهوم القائد الضرورة للدولة وليس المجتمع، مقولة سفسطائيّة لا معنى لها، فكلّ شخص مثابر على تنفيذ القوانين وعدم المساس بالمقدّسات الإلهية الجديدة قادر على تسيير هذه السلطة التي لا تزول بزوال هذا الشخص الضرورة حامي هذا الإله، لكنّ المشكلة في التنظيم الذي لا يرتضي إلا بالتمسّك بالرئيس الذي سينهار بموجبه هذا التكتّل المعقّد، ولكن لا يكمن الحلّ بالتخلّص منه كفرد، إنّما في تآكل هذا التنظيم من خلال الابتعاد عن هيمنة هذه التركيبة غير المتوافقة مع المجتمع الطبيعي والحياة الطبيعيّة التي لم تفرز هذا التعقيد الغريب.
وبات من المحال على المجتمعات الشرق أوسطيّة تقبُّل هذا الأنموذج الغريب المنبثق عن الدولة القومية، والذي سيظلّ عالة على تقدّم المجتمعات وتمأسسها، فكان لجوء المجتمع إلى الحماية الشعبيّة ضرورة تاريخيّة، لابدّ منها ضمن مُحاليّة التفاوض مع من يمتلك هذه المزاجيّة الحكميّة.[1]