معادلة الكرد وصندوق باندورا السوريّ
صلاح الدين مسلم
يقال: إنّه لمّا غضب زيوس على بروميثيوس حين سرق النار من السماء، وأعطاها للإنسان على الأرض، أمرَ الآلهة أن تُخلق المرأة لتكون هدية يونانية إلى الرجل، وسمّاها “باندورا”، لأنّ كل الساكنين في البيوت الأولمبية أهدوها هدية لتؤذي بها الرجال المبدعين، ثم قدمها زيوس إلى أخ بروميثيوس، وخضع لجمالها رغم تحذير أخيه، كان بروميثيوس قد ترك مع أخيه إميثيوس صندوقاً خفياً عجيباً أوصاه ألا يفتحه بأي حال، غلب على بندورا حبّ الاستطلاع، ففتحت الصندوق، فطار منه عشرة آلاف شرّ أخذت تنغص على الناس حياتهم، ولم يبقَ فيه إلا الأمل.
وقد باتت سوريا صندوق باندورا، حيث خرجت من باندورا سوريا كلّ السيئات والشرور وتصفيات الحسابات، وأضحت كلّ السياسات والمساهمات الاجتماعية والاقتصادية مرتعاً للعقم أكثر من الحل، فكلّ القوى السياسيّة المتصارعة على الغنيمة السوريّة تريد أن تثبت سياستها وألّا تخرج خالية من هذه المعمعة الشرق أوسطيّة، بتسليم الأسد سوريا إلى النظام العالميّ قد جعل الأرض السوريّة مرتعاً للحروب الشرق أوسطيّة التي لا تفضي إلى الحلول قط، لقد صارت سوريا لقمة سائغة لكلّ من هبّ ودبّ، وأضحت كلّ الأنظمة الإقليميّة والدولتيّة المتصارعة على المسرح الدمويّ السوريّ في موقعه متشبّثاً بموقعه لا يريد التنازل للآخر، فمن يخرج من الحلبة السوريّة سيخرج من المعادلة الشرق أوسطيّة إلى الأبد وبالتالي سيخرج من المنظومة الدولتيّة العالميّة المركز، وقد بات واضحاً أن أردوغان قد خرج من حلبة المصارعة نهائيّاً، ويعني ذلك خروج الفكر العثمانيّ السلطنيّ المطعّم بالإسلامويّة والسلاحويّة والقومويّة الشوفينيّة الفاشستيّة من الساحة.
إنّ الأطراف المتصارعة في سوريا ليست كما يتم تصويرها بأنها بين السنّة والشيعة أو بين الإسلامويين والقومويين أو بين روسيا وأميركا، بل هي أعداد غفيرة من الأنظمة المتداخلة فيما بينها، فالأنظمة المتكونة منذ العصور النيوليتية تسعى جميعها، وبكافة ألوانها الإثنية والدينية والجنسوية، إلى احتلال مكانها، أو البحث عن منفذ لها في إمبراطورية الفوضى التي تتزعمها أمريكا، فالفوضى والعقم يفرضان ذاتهما، بدءاً من أنظمتها حتى فردياتها، ومن ذهنياتها حتى بناها الاقتصادية.
أمسى البازار الآن على الأسد وتُطرح على الساحة معادلة رحيله أو بقائه، وليس على النظام في بقائه أو تغييره، بل أخرجت كلمة النظام من قاموس المعادلة، فلم تتنبّه المعارضة إلى الفخّ الذي وقعوا فيه، ألا وهو انصباب المشروع والغاية والهدف في تنحية الأسد فحسب دون النظام، وباتت مفردة النظام مغيّبة عن الساحة، مع أنّ الكرد والعرب على السواء قد لاقوا الويلات والدمار والهلاك من النظام، بل كان النظام أعتى وأشدّ تجبّراً على الكرد.
والقوّتان المتصارعتان المتفقتان أصلاً، تريدان أن تمثّل أنها تتصارع للمضاربة وجذب الأطراف ليطوفوا حول المركز، ومن بين كلّ القوى المتصارعة نرى الكرد القوّة الوحيدة التي لم تنجرّ للصراع الدولتي وعامل الجذب للدول المتصارعة.
لقد كان الكرد دائماً على مرّ التاريخ قرباناً للسياسة الخارجيّة العالميّة، وكانت أجسادهم وقوداً للنفوذ العالمي والقوى المتصارعة، والسياسة التقسيميّة لجغرافيّة كردستان لأنّهم الوحيدون المنادون بالحرّيّة الحقيقيّة، وهم الوحيدون عبر التاريخ قد دفعوا ضرائب باهظة ثمناً للحرّيّة، وكان الكلّ دون استثناء بحجّة مساعدة الكرد يبيعونهم عبر التاريخ، وأضاع الكرد دائماً قضيتهم التي خسروها في معاهداتهم التاريخيّة التقسيميّة التفكيكيّة التي كانت كردستان الضحيّة لهذه الصفقات لتراكمات الربح الرأسماليّ.
الكرد الذين غيّروا خارطة العالم من خلال الشرق الأوسط عبر نضالهم على مرّ التاريخ، قد أفرزت اتفاقيات على حساب الكرد آخرها اتفاقيّة سايكس بيكو التي كانت على حساب الكرد، وجغرافيّة كردستان التي قسّمتها إلى أربعة أجزاء، فما معنى هذه الحدود بالنسبة للكرديّ؟ وبأيّة طريقة سيتمّ التواصل بين الكردي في روج آفا وبين الكردي في باكور على سبيل المثال؟
قوّة الكرد هي التي جعلت كلّ القوى العالميّة تتسابق إلى اللجوء إليها، وليست السياسة العالميّة هي التي أعلت من شأن الكرد، فمن الغباء نعت هذا التقارب العالميّ من القضيّة الكرديّة بالحظّ والقدريّة، إذْ أنّ القوى التي اعتمدت عليها أميركا قد أثبتت فشلها الأخلاقيّ من خلال الفساد المتفشّي فيها وهروبها من الساحة، واللجوء إلى داعش في نهاية المطاف، وما كان صمود كوباني ستة وثلاثين يوماً في وجه أعتى وأشرس وحش على مرّ التاريخ الشرق أوسطيّ إلّا برهانٌ على الرضوخ إلى إرادة الشعوب وديمقراطيّة المجتمع.
بعد جفاف وعقم الثمار العلمية والفلسفية والفنية للذهنية الشرق أوسطيّة، والتخلّيّ عن العزم والقوّة والإرادة، والتخلّي عن الماضي والأمل بالمستقبل منذ أمد بعيد، والابتعاد عن الذهنية الثقافية الحضاريّة في موزوبوتاميا الأمّ التي منحت العالم كلّ أنواع المعارف والعلوم والحياة، حيث اختفت جذوة حب التعلم والفهم فيها، فبات الكرد حملة شعلة إعادة الديمقراطيّة المجتمعيّة وباتوا يمتلكون القوّة، وذلك لريادتهم في تبنّيهم الخطّ الثالث، ذاك الخطّ الذي يجب أن يكون مثالاً يقتدي به الشعب في سوريا برمّتها والشعوب الشرق أوسطيّة عامّة، ولن تفرض عليهم الشروط التي لا تصبّ في صالح الكرد.[1]