أوجلان… حيز السجن المتبدد إلى فضاء الحرية
سيهانوك ديبو
في كتابه الموسوم ب (المقاومة المدنية) يبيّن المفكر السوري هيثم مناع تأثير السجن في حياة القادة السياسيين وبالأخص الذين لهم التأثير الفاعل على منظوماتهم السياسية والأحزاب التنظيمية والكتل البشرية والفئات المجتمعية التي تؤمن بهم كقادة وأصحاب رؤى سياسية، وأعتقد أن الدكتور منّاع تناول ببراعة فكرية هذه المسألة المهمة؛ واضعاً؛ ثلاثة منهم في جهة: أنطونيو غرامشي ونيلسون مانديلا وعبدالله أوجلان، وفي الجهة النقيضة منهم سيد قطب الذي كانت فترة سجنه بتأثير انتقامي عليه ومُرَكِّزاً فيه على أطر جهادية بدلا من الاجتهادية، أما المقاومين الثلاثة (غرامشي ومانديلا وأوجلان) فهؤلاء بدلّوا السجن تبديلاً وحولوه إلى مجرد مكان؛ بقعة جغرافية ما؛ مدافعين فيها عن المدنياتية العصرانية؛ فرساناً يجلبون النور لقضاياهم وقضايا الشعوب كلها التي ظلمها الحكام الجوَرة بظلامهم.
خوف أردوغان من الأمة الديمقراطية التي أسسها الفيلسوف أوجلان بدلاً من الأمم النمطية التي تحولت إلى عقدة الشرق الكأداء؛ هو نفسه الذي يجعله حاقداً؛ مُطلقاً عشرات القذائف على المناطق التي تم تحريرها من قبل من يؤمنون بهذه الفلسفة في مناطق الشهباء.
نخوة بعض الدول الإقليمية المفاجئة في محاربة داعش السوري بشكل بري بعد كل سنين احتلاله وتدميره للمناطق التي غزاها بمساعدة تركيا وقطر والسعودية وغيرهم؛ أساسها حجة بمفاد الخوف من مشروع الإدارة الذاتية كصيغة ومضمون للإطار الاتحادي الجغرافي في شمال سوريا، خاصة أنه من خلال هذا المشروع هناك من يقف ضد التنميط المذهبي السياسوي الذي يريده هؤلاء والذين يروون أن الشرق كومة احتراب بين السنة والشيعة. مع كل العلم أن أصحاب النخوة لم يغيبوا لحظة واحدة من خلال ممثليهم من التنظيمات الإرهابية: داعش والنصرة وأحرار الشام وجيش الفتح…وغيرهم أيضاً.
التردد العالمي وصمته حيال جرائم السلطان ضد الشعب الكردي في تركيا والذي يصدح صوته بالملايين: لا حياة دون القائد؛ أي؛ لا حياة لنا دون فلسفة ورؤى والحلول التي يطرحها القائد الفيلسوف السجين أوجلان. إنه الخوف مرة أخرى أن يسود شرقنا؛ السلام؛ ويتحرك عجلته مرة أخرى تحت راية (كونفيدرالية شعوب الشرق الأوسط).
الدولة على أساس القوم الواحد واللغة الواحدة والعلم الواحد قسمت الشرق الأوسط إلى دول وأقطار؛ بل؛ إلى أمكنة متصارعة، كلُّ حيزٍ فيه يقبع فيه حاكم مستبد جائر اقتنع –رغماً عنه-بالدولة القومية المنتقلة إلى الشرق مثل المرض ولم ينبت يوماً في الشرق ولم ينتمي يوماً إليه.
وهذا المرض خلق أمراضاً بهيئات مستبدة رفضوا حتى مسمى الكُرد، وجاهروا وجاهدوا وجابهوا كي يكون لهم أكراداً موتى وليس كُردٌ وطنيين. وفي سجنه يرى أوجلان أن الحرية لا تكون دون ديمقراطية؛ القبول؛ التشارك؛ التعدد؛ النديّة؛ المواطنة الحرة؛ المرأة التي تضمن بقاء المجتمع الديمقراطي أن يظل سائراً ثائراً لا يتوقف. وفي سجنه ارتفع منسوب الخوف منه من قبل الأنظمة الاستبدادية؛ في الوقت الذي تحولت كتاباته إلى مراجع لملايين الديمقراطيين في الشرق وفي الغرب. وفي سجنه زاد الحقد عليه من قبل الذين وجدوا أنفسهم بأنهم ليسوا سوى كائنات تتنفس؛ وبالأخص رهط المرتدين عن اليسارية؛ المنقلبين إلى أشباه (أكراد)؛ المتحولين إلى عبيد. وكم من العبيد يحملون المظلات حينما تنهمر السماء بالمطر كما يقول أفلاطون؛ إنهم لا يحتملون الحرية.
نقول أن الثورة السورية أعظم الثورات في تاريخ الشرق الأوسط وأن ربيع الشعوب أقدرها على الإطلاق؛ لقد سقطت الأقنعة وبانت الأصول وفاقت في الدروب كل أنواع أنصاف الكتبة وأنصاف الثائرين وأشباه المثقفين. وكل هذا يحصل على مسرح ترصده الشعوب وتختزنه في ذاكرتها، ولأن ذاكرة الشعوب لم تكن يوماً مثقوبة؛ ولأنها تدرك مثل الكون قضية الحرية بمنتهى الذكاء العاطفي وبشكل خارق؛ فسيكون هؤلاء مجرد شواهد الضد وكائنات مشخصة للعدم وكتل بائسة -في أول فرصة- ستكنسها الشعوب إلى مزابلها.
ظاهرة الخوف عند التنميطيين من سجن أوجلان ومن أوجلان السجين؛ ستصبح واقعة مجتمعية تطيح بأنظمة الاستبداد وتحقق الحرية لكل المجتمعات خاصة للتي تستحقها، ولأن الأفكار لا يمكن قيدها ولأنها في طيران دائم كما يقول العلماني الأول ابن رشد؛ فأفكار السجن الأوجلانية تطير أيضاً وتحوم اليوم على كل الشرق الأوسط. ومن المحتمل أنها لا تعجب أصحاب العيون المحدبة (القوموية البدائية) ولا أصحاب العيون المقعرة (المذهبية السياسية)؛ لكنها من المؤكد بأن لا قيود عليها اليوم ومن المؤكد أيضاً أنها أينعت وباتت تنمو وباتت مقلقة للأحاديين.
ولأن نقطة الارتكاز التي أدركها ويدافع عنها أوجلان في كل مجلداته باتت في متناول جميع من يؤمنون بأفكاره وفلسفته، وهذه النقطة موصوفة لديه بأن (الشرق الأوسط مجموعة من الثقافات المتكاملة وليست قوميات متناحرة؛ علماً بأن الحق القومي مُصان مثل غيره من الحقوق في مثل هذا التعريف النهضوي). بات هذا التعريف نقطة الارتكاز الذي يرفع الشرق كله من غباره وعدميته وتبعيته ويتحول إلى الشرق الأوسط الديمقراطي.
التاريخ منصف في أغلب مراحله، ولا يوجد تاريخ نصف منصف ونصف جائر؛ حينما؛ ندرك بأنه مخفي في حاضرنا. ولأنه سيبقى كذلك طول وجود البشر؛ سينصف أوجلان أيضاً ويصفه بأنه السجين الأكثر حرية.[1]