“داعش” يساهم في تشكيل الأمة الكردية
تحرير مطار منغ وقريتين
مجلة (National Interest) الأمريكية
يقول المثل الكردي “لا يوجد أصدقاء للكرد سوى الجبال”.على مدى قرونٍ من الزمن، عانت الأمة الكردية على أيدي القوى العظمى المتنافسة فيما بينها، الذين استخدموا الخلافات الداخلية بين الأطراف الممثلة للكرد ضد بعضهم البعض في الصراعات الإقليمية. في مسعى للهرب من هذا الاستغلال، فرَّ الكرد مرارا إلى مناطق هامشية خارج سيطرة الحكومة. هذا الهروب التقليدي يرجع إلى ما يسمى “الذهاب إلى الجبال” – وهذه العبارة ليست مجرد تلطيف للمعنى. ومع ذلك فإن صعود تنظيم “داعش” يضع الأرضية (الأساس) للدولة الكردية من خلال توحيد الكرد ووضع الخلافات والشقاق في البيت الكردي جانباً. وساعدت أيضاً على صعود الحكم الذاتي الكردي داخل البلدان التي يعيشون فيها.
دفعَ الخطر الذي يشكلّهُ تنظيم “داعش”، الكرد في كلٍ من تركيا، العراق، وسوريا إلى وضع الخلافات جانباً. والدلالة الأكثر بروزاً على الوحدة فيما بينهم ظهرت في عام 2014، عندما عبر قوات البيشمركة التابعة لإقليم كردستان العراق الحدود عبر كردستان تركيا إلى مدينة كوباني لمساعدة الكرد السوريين في القتال ضد تنظيم “داعش”.
وفاجأت العملية المراقبين لأنها عبرّت عن مستوى غير مسبوق من التعاون بين زعيمين متنافسين من الحركة الكردية: مسعود البرزاني (رئيس إقليم كردستان العراق)، عبدالله أوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني). تنافس أوجلان والبرزاني فيما بينهم لعقود وفي بعض الأحيان كان دامياً، وذلك لتأمين الاستراتيجية لأقرانهم الكرد بهدف تحقيق الاستقلال القومي.
العملية التي حَصَلت في كوباني كانت مثالاً واحداً فقط لتعاون الأطراف الكردية في مواجهة تنظيم “داعش”. في العراق، تعاون مقاتلو البيشمركة التابعين للحزب الديمقراطي الكردستاني PDK، مع التابعين للاتحاد الوطني الكردستاني PUK ضد تنظيم “داعش”. كما وخاض الطرفان السابقان (الاتحاد الوطني – الديمقراطي) معارك في مناطق أخرى ضد التنظيم وبالتعاون مع حزب العمال الكردستاني PKK أيضاً. استقبل إقليم كردستان العراق الكرد النازحين من سوريا بالإضافة إلى السوريين، كما وساعد كرد تركيا أشقائهم في إقليم كردستان العراق في الدفاع عن أنفسهم. وعلاوة على ذلك، أسّست الولايات المتحدة الأمريكية مركز ارتباط في العراق لتنظيم العلاقة بين الأطراف الكردية المتعددة.
في العراق وسوريا، تصادفت الانتصارات العسكرية مع صعود الطموح الكردي بالاستقلال. في العراق، ومع سيطرة التنظيم على مساحات كبيرة من العراق، أُجبِرَت الحكومة العراقية على السماح لإقليم كردستان العراق تعزيز الحكم الذاتي. وفي سوريا، أعطى انهيار سلطة الحكومة المركزية، المساحة التي يحتاجها الكرد لتأسيس مقاطعات الحكم الذاتي.
وخلافا لإقرانهم في العراق وسوريا, لم يحقق الكرد في تركيا تقدما على صعيد مطلبهم للحصول على الحكم الذاتي, واحتفظت أنقرة بالسلطة المركزية مرسخةً في جميع أنحاء البلاد مقارنة مع دمشق وبغداد اللتان فقدتا السيطرة، ووسط الحرب ضد “داعش”، استؤنفت الأعمال العسكرية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، وادعّت الحكومة التركية أن حزب العمال الكردستاني يعمل مع تنظيم “داعش”. كما وانتشرت المناوشات العِرقية بين المواطنين الكرد والترك، وانهارت مشاعر تعاطف الرأي العام تجاه القومية الكردية بشكل مفاجئ.
ربما تأتي الفوضى التي سهلّت تقدم الكرد في كلٍ من سوريا والعراق بطريقة ما إلى تركيا. صحيح أن “داعش” غير قادر على الكفاح والسيطرة على مساحات شاسعة من أراضي أنقرة، كما فعلت في كل من سوريا والعراق. لكن التنظيم، جزء لا يتجزأ تماما من تركيا، وبشكل مؤكد لديه القدرة على إشعال صراع دموي مستمر ذو مستوى منخفض إلى داخل البلاد.
علاوة على ذلك، يملك تنظيم “داعش” دافع متزايد لدخول الأراضي التركية. وأكدّ التنظيم أن تركيا هدف رئيسي له عبر مجلته المعروفة باسم “دابق” وفي فيديوهاته الدعائية والتي نُشرت تحت اسم “تركيا ونار العنصرية”. معركة “داعش” مع فروع حزب العمال الكردستاني في سوريا دفعت التنظيم إلى استهداف الكرد في تركيا وهو ما حصل في حوادث سابقة. ويملك التنظيم أسباب إضافية لدخول تركيا: يوفر الدخول إلى الأراضي التركية إمكانية مهاجمة الأجانب والأقليات الدينية، ومنهم العلويين، وربما يكون التنظيم قادراً على جذب الإسلاميين الأتراك الأقل راديكاليةً إلى داخل صفوفه.
إذا ما زاد تنظيم “داعش” من حضوره في تركيا، فإن ذلك من شأنه أن يحفز الصراعات المسلحة على طول خطوط التصدعات المجتمعية الموجودة مسبقاً في البلاد، خصوصاً بين المجموعات العِلمانية والدينية، وبين الكرد والترك. وقد ينتشر العنف في تركيا على نطاق واسع مشابه لما حصل في ثمانينات القرن المنصرم، فقط الآن ومع وجود حضور تنظيم إرهابي عالمي كبير داخل حدودها. وفي هذا الإطار, وفي مواجهة خطر تنظيم “داعش”، فإن أنقرة ستضطر إلى الرضوخ لصعود الكرد وازدياد جرأتهم.
تصاعد النضال العالمي
دفع تنظيم “داعش” الكرد إلى زيادة كفاحهم العالمي لتأسيس دولتهم الخاصة. بغض النظر عن التوقيت الدقيق لظهور الاستقلال النهائي، فإن الكرد سيخرجون من الأزمات أقوى من ذي قبل، وسيملكون المزيد من القوة عند التفاوض من أجل الحكم الذاتي مع الحكومات المركزية. ومع كل ما سبق، هنالك العديد من العقبات.
أولا وبشكل رئيسي، الانقسامات الداخلية لا تزال تشكل عائقاً ومشكلة جدّية. وهذه القضية متواجدة بين الكرد في دول مختلفة يعيشون فيها، وبشكل خاص بين الكرد الموالين لمسعود للبرزاني في العراق والموالين ل عبدالله أوجلان في كل من تركيا وسوريا. إنها أيضاً قضية متواجدة بين الكرد في نفس تلك البلاد. على سبيل المثال، في إقليم كردستان العراق، يواصل البرزاني مواجهة الانتقادات المحلية والدولية بسبب التهميش القاسي الذي ينفذه بحق خصومه السياسيين. ثانياً، ولكي يصبحوا عضواً في النظام العالمي، يحتاج الكرد إلى مساعدة جهودهم الساعية إلى تشكيل دولة-قومية. يحتاجون إلى متبرّع خارجي، وهو الأمر الصعب في الإقليم المحيط بهم حيثُ الحكومات تريد تجنّب تشجيع الحركات الانفصالية القومية. ثالثاً، يحتاج الكرد إلى القوات المسلحة. بدون وجود جيش حقيقي، ولا يهم كم هي خبرة المقاتلين الكرد، أو حجم المعدات والتدريب الذي يتلقونه من الخارج. سيبقون على الدوام في التصنيف الثاني عند المقارنة مع الدول القائمة حالياً والمالكة لأجهزة ومعدات عسكرية قوية.
ويتذمر تنظيم “داعش” من خريطة الشرق الأوسط تقسم التركيبة السكانية للمنطقة على نحو مزيّف. أعلن التنظيم عن خلافته التي أسقطت اتفاقية سايكس- بيكو السرية التي جرت عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا وساعدت في تأسيس الحدود الوطنية الحالية. ولكن تنظيم “داعش” لن يكون المستفيد من إعادة التشكيل الجيوسياسي للمنطقة. وبسبب امتناع التنظيم عن الاعتراف بالنظام العالمي، لذلك سيُدمر في نهاية المطاف، يُستبدل أو يغّير من نهجه بشكل جذري. المستفيدون في نهاية المطاف سيكونون أولئك الراغبين بالعمل ضمن النظام العالمي، والذين يملكون الأفضلية في الفوضى الحالية لإعادة رسم الخرائط بما يتوافق مع مصالحهم. الكرد يعلمون ذلك. إذا استطاعوا التعامل مع الواقع بعناية، فإنهم سيكونون قادرين على بناء دولتهم الخاصة وفي النهاية النزول من الجبال.
[1]