حكومة أردوغان والقضية السورية: العثمانية الجديدة والمصلحة القومية للدولة
هيثم مناع
كنت عائدا من تكريم أحبتي في تونس (#24-04-2011# ) عندما تلقيت دعوة من برنامج “قهوة تركية” وأخرى من رجل الأعمال التركي/السوري غزوان المصري لحضور اجتماع في اسطنبول للمعارضة السورية. لبيّت دعوة الصحفية التونسية هاجر بن حسين التي سبق واستضافتني في برنامجها ولم أرد على الدعوة الثانية التي غابت عنها كلمات أساسية مثل الديمقراطية والمدنية.
في اسطنبول، كان برهان غليون قد تلقى نفس الدعوتين، واستجاب مثلي لدعوة البرنامج التلفزيوني وكنا في نفس الفندق. اتصل بي من اللوبي السيد غزوان المصري نائب رئيس غرفة رجال الأعمال الإسلامية التركية فدعيته لغرفتي. حدثني عن الاجتماع المنوي عقده وضرورة حضوري فطلبت منه أول ما طلبت قائمة المدعوين. فتح حاسوبه الصغير ووضع القائمة أمام ناظري. ثمانية عشر اسما نظرت إليها فإذا بها تضم اسمين من العلمانيين فقط (برهان وأنا). وباقي القائمة من الإسلاميين. قلت له على الفور: هل هذه هي نسبة العلمانيين الديمقراطيين في الحراك السلمي السوري؟ قال: لا ولكن أين المشكلة، يمكن دعوة شخصين أو أكثر. فقلت له: أعتذر عن الحضور ملحقا في اجتماع للإسلاميين. حدثت برهان بالأمر فقال لي اتصل بي غزوان وقلت له سأدرس الموضوع ولكن الآن توضح الأمر لي وسأرفض الدعوة. كان التحضير لدور “اسطنبول” في الوضع السوري قد بدأ، وقد انتقل عدد من الشخصيات الإخوانية السورية إلى تركيا. زرت بعدها شيكاغو بدعوة لمحاضرة هناك، فأخبرني صديق قابل مع عدد من المعارضين السوريين السيدة هيلاري كلنتون، وأنها أعلمتهم بضرورة متابعة الملف السوري في أنقرة.
لم يكن لدي أي موقف مسبق من حزب العدالة والتنمية، بل على العكس، وقفنا في “اللجنة العربية لحقوق الإنسان” مع السيد رجب طيب أردوغان عندما تعرض للمضايقات القانونية وعندما اعتقل في 1998 لخطاب استشهد فيه بشاعر تركي يقول “مساجدنا ثكناتنا وقبابنا خوذاتنا مآذننا حرابنا والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا”. اعتبرنا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان هذا الاعتقال تعسفيا وشاركنا في مراقبة قضائية اعتبرت الحكم جائرا. وقد شاركت بنفسي في عدة ندوات في اسطنبول بعد تسلم العدالة والتنمية الحكم تضامنا مع القضية الفلسطينية ولمناهضة الاسلاموفوبيا ومن أجل غزة إلخ. إلا أن التحرك التركي كان إخواني الدعم مذهبي السقف، الأمر الذي يشكل خطرا كبيرا على الحراك المدني السلمي في سوريا. وقد عبرت عن ذلك في مقالة لي في الموند ديبلوماتيك في مطلع يوليو/تموز بعنوان “الربيع السوري والثورة المضادة”. التقط الدكتور عزمي بشارة وقتئذ إشكالية الدور التركي، وقد عبر عنها بالقول “تركيا ما قدرت تقدم الدعم الكافي للمعارضة… ميول تركيا باتجاهين مختلفين، دعم المعارضة الإسلامية من مبدأ توحد الرؤى، وتحاشي المعارضة الكردية، كان لا بد من مكان ثان” (http://the-syrian.com/archives/24785 ).
بالفعل، توجهنا للدوحة في نهاية يوليو/تموز 2011 لاجتماع ضم 24 معارضا سوريا من مختلف الفصائل والمستقلين. واتفقنا على تشكيل ما أسميناه يومها “الإئتلاف الوطني السوري” كمحاولة أخيرة من معارضين في الداخل والخارج لإبقاء صوت المعارضة خارج أية وصاية وتبعية خارجية. صوّت أربعة أشخاص ضد المشروع (أربعة من ستة كانوا قد باشروا العمل على تشكيل “المجلس الانتقالي السوري” في اسطنبول بالتنسيق مع باريس. جرى قبر المشروع تدريجيا لتمهيد الطريق لما صار اسمه “المجلس الوطني السوري”. وجرى تعزيز الدور التركي بفتح مخيمات اللجوء والتعبئة الإعلامية حول تدخل الناتو ومنطقة الحظر الجوي والمنطقة الآمنة وفتح مكتب رياض الأسعد (الجيش الحر) في اسكندرون وتم فرض السيناريو التركي على القطريين الذين قبلوا بدور الداعم الإعلامي والمالي والدبلوماسي. وقد فتحت تركيا الباب منذ نهاية 2011 لدخول مقاتلين أجانب بداياتهم كانت ليبية واتضح لكل ذي بصر أن غرفة العمليات التي تشكلت في تركيا كانت تقدم حصة الأسد من مساعداتها للجماعات المسلحة ذات اللون الإسلاموي والمذهبي.
لم تنفع كل تدخلاتنا في مختلف الدول الغربية والعربية في فتح الأعين على مخاطر السياسة التركية تجاه الملف السوري، هذه السياسة التي خلطت بين مشروع العثمانية الجديدة للثنائي أردوغان-أوغلو والمصالح القومية للدولة التركية. ورغم سحب الملف من الدوحة وتسليمه لبندر بن سلطان، إلا أن الأخير اتبع سياسة “دعم كل ما يمكن أن يسقط النظام السوري ولو كان أسوأ منه”.
غطى ما يعرف بأصدقاء الشعب السوري كل انحرافات هذه الحقبة. وقد سجلت اللقاء الذي جمعني مع السفير روبرت فورد في آب/أغسطس 2013 في العاصمة الفرنسية حين قال لي بالحرف: “هذه حرب مذهبية، الشيعة يريدون السيطرة على سورية ليكون هناك امتداد إيراني حتى البحر الأبيض المتوسط. لكنهم ينسون أن السنة يشكلون أكثر من مليار مسلم، وأن هذه الحرب ستنتهي بانتصار الأغلبية الساحقة عليهم عاجلا أو آجلا.” قلت له يومها: “لم أسمع بهذا الحزب السني بعد، هل ينتسب إليه الفريق عبد الفتاح السيسي، أو الشعب التونسي مثلا؟ هذه القراءة المذهبية تصب في خدمة التكفيريين وكل ما تفعلونه هو اغتيال التمثيل السياسي للاعتدال السني الذي يشكل الأغلبية الساحقة من المسلمين”. طبعا لم يعجبه هذا الجواب. فقد كان عائدا من لقاء مع “الجبهة الإسلامية” التي كان لها مع جبهة النصرة وداعش، الفضل في توجيه أكبر الضربات العسكرية لفصائل “الجيش الحر”.
بدأت دول الخليج، باستثناء قطر، تتحسس مخاطر الدعم الأعمى للجماعات المتطرفة والإرهابية: دولة الإمارات العربية المتحدة لم تترك تنظيما إخوانيا أو إسلاميا مسلحا لم تضعه على قائمة الإرهاب، المملكة العربية السعودية أصدرت جملة مراسيم في نفس الإتجاه. وشهدت المملكة خلال أشهر أكبر حركة ثقافية نقدية للتيارات المتطرفة في تاريخها. وقد استقبلت الدول الخليجية أخبار تدريب “جيش الفتح” وتسليحه من قبل تركيا بعين حذرة. خاصة وأن قيادته تضم عددا من المحكومين قضائيا في الرياض.
وقفة الحكمة في آخر أيام الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي أبعد بندر بن سلطان وأصدر قرارات هامة حول الإرهاب والمنظمات المتطرفة لم تستمر طويلا. وكان لقرار الحوثيين المتهور باستلام السلطة في اليمن، ما أحيا الخوف الخليجي المزمن من الجار الإيراني. وأعاد لفكرة “الجبهة السنية الواسعة” قوة حضور عبر التحالف المناهض للطبيعة بين السعودية وتركيا.
يأتي هذا التحالف بعد فشل أردوغان في انتخابات حزيران/يونيو 2015 الذي وضعه في حالة فقدان الوزن، وأدخله في مواجهة عدمية مع الكورد واليسار في تركيا باعتبارهما مصدر الخطر على استمراره في السلطة. وفي ظل تدخل عسكري روسي واسع في سوريا.
أربعة من القادة العرب كانوا على علم بالتدخل الروسي في سوريا قبل وقوعه. وقد قال لي أحدهم: “في العلوم العسكرية يوجد قائد واحد، الولايات المتحدة قادت التحالفات في حربي العراق، لا يمكن أن يقبل الروس بقيادة روسية إيرانية، وجودهم بالضرورة على حساب التمدد الإيراني في سوريا.”. بالنسبة لأردوغان، كان التدخل الروسي بالضرورة على حساب الدور التركي في القضية السورية، ولعل خطيئته الكبرى بإسقاط الطائرة الروسية، قد ضربت إمكانية دور هام لبلاده، وذلك قبل العمليات العسكرية الأخيرة. فوضع آخر ورقتي ضغط له على طاولة ميونيخ (اللاجئون السوريون والقضية الكوردية).
يحاول الإعلام التركي والخليجي تقديم ما يحدث اليوم، من تقدم للجيش السوري على أنه اللمسة الأخيرة في قيام دولة علوية، وتفسير كل تقدم لقوات سوريا الديمقراطية على أنه وضع أساسات الدولة الكردية. مع حملة ديماغوجية مضللة بأن “قوات سوريا الديمقراطية” تضرب “الفصائل المعتدلة” بالتنسيق مع نظام الأسد. ولكن هل ينسى هؤلاء أن من صادر مخازن أسلحة الجيش الحر كانوا من النصرة وأخواتها وليسوا من وحدات حماية الشعب. وأن من أصدر فتاوى القتل على كل من يبقى عضوا في هذا الفصيل أو ذاك من الجيش الحر هو الذي يحارب “قوات سوريا الديمقراطية” اليوم.
لقد فشلت استراتيجية “كل سلاح مقدس” وأعلن صاحبها أنها كانت من الأخطاء القاتلة للثوار. وصار على الذين قالوا “دافعنا عن جبهة النصرة أكثر مما دافعت عن نفسها” أن يطمروا رؤوسهم في الرمل. لقد حوّل ولوج التكفيريين إلى سوريا للجهاد غير المقدس بلدنا، إلى مرتع لكل من يحاربهم حقا أو باطلا، من الميليشيات الشيعية إلى طائرات أكثر من عشر دول في العالم.
إن فك الإرتباط مع الإرهابيين اليوم، شرط واجب الوجوب، ليس فقط من أجل حل سياسي يضمن انتقالا ديمقراطيا مدنيا يشكل وحده الرد الناجح على النظام الدكتاتوري، بل أيضا للبقاء على قيد الحياة السياسية السورية القادمة. وفي وضع كهذا، يشكل فك الإرتباط مع السياسات الحكومية التركية المتهورة، عصب نجاة لشمال سوريا من كل الظلاميين الذين ضختهم حكومة أردوغان/أوغلو إلى الأراضي السورية.
نقلا عن السفير[1]