تفكير المهزوم… تفكير مهزوم
هيثم مناع
تقترب الذكرى الخامسة للثامن عشر من آذار/مارس وقرابة نصف المجتمع السوري سيشهدها من خارج بيته وحارته. والنصف الآخر يتوزع على مناطق سيطرة داعش وجبهة النصرة وقوات سوريا الديمقراطية والجيش السوري مع جيوب غير متصلة لتنظيمات سورية لا يخلو اسم بعضها من رائحة المذهبية (جيش الإسلام، شباب السنة، أحرار نوى، مجموعات تلبيسة والرستن…). اتفق الرئيسان المشتركان لمجموعة العمل من أجل سوريا على هدنة أقرها مجلس الأمن في القرار 2268. بعد سنوات بخل بها المجلس على هذا البلد الجريح بقرارات تتعلق بمصيره ها هو يتحفنا بالقرار تلو القرار.
هل قرر الروسي والأمريكي أخيرا وضع حد لتصاعد العنف وهدم البلاد وتهجير البشر وقتل العباد في سوريا، وهل يشاطره الموقف حلفاء الإقليم في جبهات القتال المختلفة؟ أين ما تبقى من فصائل وغرف عمليات شمالية وجنوبية من هذا الوضع؟ وما هو رأي أبو همام وأبو مالك وأبو الفضل وأبو القعقاع وأبو محمد وأبو البراء من هذا المستجد؟ كيف سيتم التعامل مع المقاتلين غير السوريين الذين قدموا من أصقاع الأرض للحرب بالوكالة على الأراضي السورية؟ هل ستكون قاعدة التعامل معهم واحدة واعتبار وجودهم، مهما كانت التسميات والاصطفاف والتصنيفات، جزء مركزي من سرطان العنف المذهبي القاتل؟ هل قرر الروسي والأمريكي إدارة الدفة بالحزم والوضوح الضروريين لوقف الانهيار الشامل، وهل يمكن للمبعوث الدولي إدارة مفاوضات سياسية ترتقي لمستوى القرار الدولي الذي يعلن نهاية حقبة ويفتح الباب أمام الإنسان السوري لاستعادة قسط صغير من حقه في الأمل؟
كل هذه الأسئلة وغيرها يتربع أمام ناظر المواطن السوري الذي وصفنا وضعه منذ عامين بالمفعول به مصلوب في لعبة الإقليم والأمم.
في شهادة وجدانية تقدم بها الدكتور وليد البني في المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان في 2014، قال بأن “الرؤية السياسية لهيئة التنسيق الوطنية خلال المرحلة السابقة كانت الصائبة، لا أدري إن كانت عن دراسة وإدراك أم بالصدفة، ولكن دفاع الهيئة عن حل سياسي واستحالة الحل العسكري كانت سليمة”. هذه الشهادة من قيادي استقال تباعا من المجلس الوطني والائتلاف يتبعها اليوم شهادات أخرى من السيد أحمد الطعمة والشيخ معاذ الخطيب وعدد من الأشخاص الذين قرروا القطيعة مع مدرسة “عنزة ولو طارت”. لم يدخل النقد الذاتي ثقافتنا السياسية بعد، لذا نقرأ نقدهم للتسلح، ولكن مع القول بأنه كان خيار الشعب (كذا!)… مسكين هذا الشعب، الذي سيحمّل مسئولية كل ما لا يتحمل بشار الأسد مسؤوليته. وبذلك يبقى “السياسي” و”المثقف” حتى وهو يراجع مواقفه، خارج أية مساءلة أو خطأ.
عنونت المقال بمأثورة سيمون دو بوفوار (تفكير المهزوم، تفكير مهزوم) لأن القطاع الأكبر ممن صادر اسم “المعارضة السورية”، “قوى الثورة والمعارضة”، “الممثل الشرعي للمعارضة والثورة” الخ. ما زال يعتبر أمراضه السياسية فضائل، وأخطاءه انتصارات، ومواقفه “الصائبة” إنجازات… ومن مكر الأيام أن يتصدر هؤلاء المشهد حتى اليوم، بدعم لا سابق له من دول في الإقليم تصارع دولا أخرى معركة النفوذ على ما تبقى من الملعب السوري.
إن أي انفصال أو فصام بين الخطاب الثوري والعقلانية السياسية يشكّل كارثة على مشروع التغيير الديمقراطي والمجتمع برمته. لذا لم نسمح للمشاعر والعواطف بأن تسيطر على ما تكرّم به الإنسان عن سائر الكائنات الحية. لا تعني العقلانية السياسية التنزه عن الخطأ ولكنها بالتأكيد تقلل من الوقوع فيه. الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو يختصر العمل السياسي بالقول: “مشروع أو مشروعان كبيران، والباقي يكمن في تجنب الحماقات”، وفي أوضاع كتلك التي عشناها ثمن الحماقة أكثر من باهظ.
قال سفير دولة غربية كبيرة لي في 2012، “لقد سيطر الرباعي على مشروع هيئة التنسيق الذي ولد في حلبون”. فاجئني كلامه فقلت له: عن أي رباعي تتكلم؟ فقال: “هيثم مناع، عبد العزيز الخير، رجاء الناصر وصالح مسلم”. ضحكت وأجبته: “سأحكي القصة للأستاذ حسن عبد العظيم وسيضحك هو أيضا كثيرا”. صحيح أن الكيمياء السياسية بين هؤلاء الأربعة كانت قوية، وصحيح أن اجتماعات عدة كانت تحدث بين ثلاثة منا أو الرباعي كما أسماه، لمناقشة الأمور الجوهرية. ولكن كان ذلك في الأطر التنظيمية للهيئة. ولعل هذه الفكرة التي روج لها بعض السفراء والسياسيين السوريين كانت وراء اعتقال المناضلين عبد العزيز الخير ورجاء الناصر من قبل النظام، وشيطنة هيثم مناع وصالح مسلم من قبل معارضة الخارج. كان رأس المعارضة الوطنية السيادية القرار مطلوبا من كل الأطراف. وكل بلدان الإقليم كان على استعداد لدعم من يقدم له الولاء ويعتبر المستقل القرار مرتهن لبلد آخر بالضرورة.
لن يقرأ الإنسان السوري نقدا واحدا ممن شارك النظام في وصولنا إلى الحال الذي نعيش فيه. وسيبقى الذين سادوا القنوات الصفراء خمس سنوات نجومها. وعندما يصادف ونتقابل وجها لوجه يؤكدون أنهم مازالوا يتفوقون علينا بلقبي الثورة والمعارضة لأنهم يعتبرون بشار الأسد مسئولا عن كل ما جرى ويعتبرون رحيل الأسد الفوري شرطا للخلاص من كل مصائبنا. أما أي حديث جدي في الأسئلة التي طرحتها حنا أرندت: “ماذا حصل؟ ولماذا وكيف كان له أن يحصل؟” فهرطقة تصب بالضرورة في خدمة النظام.
لقد أصيبت المنظومات الفكرية السياسية القديمة بالعطب التام، ولم يعد بإمكانها أن تشكل رافعة سياسية لأصحابها. هرمت البرامج والمفاهيم وبكل أسف لم يعد الكثير يميز بين هذا البرنامج السياسي أو ذاك أو هذا المشروع وذاك. وفي هذه الحالة يتقزم الخطاب السياسي بالقدرة الخارقة على الشتم (أحزاب اللات و… أم فلان أبو زميرة ويلعن روح علان وهولاكو الروسي حليف النصيرية والرافضة والشعوب التي توصف بماسحة أحذية). لقد أعلن عزرائيل الثقافة تهافت جيل من أدعياء الديمقراطية والمدنية الذين انتهى بهم الأمر أقلاما للسلاطين. تتشكل حكومة خارج موازية ثم حكومة ثانية، نسمع بقرارات وتحليلات حول دور استعمال الليرة التركية مكان الليرة السورية وسيلة ناجعة لإسقاط النظام اقتصاديا، يعمل القوم على فرض أقسى العقوبات على سوريا فيدفع الثمن المجتمع السوري بكل مكوناته لأن سماسرة الحرب وطبقة المهربين تصبح “برجوازية رثة” جديدة، يتألق أمراء الحرب وتجار العنف وتسحق أصوات الديمقراطيين السوريين، يجري تحطيم أعمدة الكهرباء وسرقة المصانع وعنفات السدود السطحية وتموت أشجار الفاكهة والزيتون من غياب الري، يقتل المواطن السوري على الهوية المذهبية والقومية وتتمزق أوصال المعالم الحضارية والأثرية في البلاد فيخرج من يقول بأن كل هذا مهمات ثورية لتحطيم النظام البائد.. ومهما كانت جريمة الفاعل كبيرة سيجد في وسائل إعلام الثورة المضادة من ينصبه بطلا ومجاهدا. قال لي مواطن سوري في الحسكة: كان الداعشيون يسرقون كل ما يمكن أن يباع في السوق.. فهل يوجد عاقل لا يعرف سمسارهم التجاري الأول اليوم؟
إننا اليوم أمام منعطف تاريخي (إن تفاءلنا) أو لا تاريخي (إن أحصينا ما تبقى من بيادق النظام القديم وبنادق الظلاميين، وقرأنا أسوأ السيناريوهات الممكن أن تفرض علينا)، وأقول تفرض علينا لأن المعارضة “الرسمية” فعلت، بوعي أو بدون وعي، كل شيء من أجل تغييب القرار السوري المستقل، ولعل في السؤال التحدي الذي وجهه سفير دولة شرق آسيوية لأحد أعضاء الهيئة العليا للتفاوض ما يلخص المأساة: “هل يمكنك أن تضع لي بعض الأسماء في الهيئة السياسية التي يمكن أن تبقى في الساحة السياسية السورية بعد خمس سنوات؟”
في وجه تصور غامض لعملية سياسية أمريكية روسية ينتابها التشويش الإقليمي، يصعد من جديد سؤال “ما العمل؟” وهل ما زال في مستطاع الديمقراطيين السوريين تقديم إجابات غير نظرية وغير مثالية تضعنا على الأقل، على مسار الاحتمالات المفتوحة، ولا يحشرنا في سيناريو تنظيم الأوضاع القديمة بعد عملية تجميل موضعية تضع جنبا إلى جنب رموز العهد القديم مع تجار الحرب وسماسرة الموت وأشباه المعارضين. هل بالإمكان بناء سوريا جديدة وطنا لكل مواطنيها ومكوناتها على أسس جديدة تتعلم من دروس الإخفاق السياسي والمؤسسي والتنموي والمدني الذي عشناه في نصف القرن المنصرم؟
يجلس معظم رموز المعارضة الرسمية في اسطنبول. المدينة الثانية في الدولة الأكثر علمانية في مجلس التعاون الإسلامي. وهم ينسون أو يتناسون، أن هذه الدولة العلمانية هي التي سمحت للإسلامي رجب طيب أردوغان بالوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها لأكثر من عقد من الزمن، في حين لا يوجد في ذاكرتهم مثلا واحدا لدولة دينية أوصلت علمانيا لمنصب وزير. ومع هذا فهم يتلطون وراء كل التعبيرات والذرائع ليس لرفض العلمانية الديمقراطية في سوريا، بل حتى شعار قادة الثورة السورية الكبرى (الدين لله والوطن للجميع).
لا يوجد مثل مركزي ناجح واحد لإعادة البناء والتنمية المستدامة في العالم بعد صراع مسلح استطاع أن يبني البلاد ويضمن حقوق العباد، وعندما نتحدث في اللا مركزية الديمقراطية تقوم قائمة الذين باعوا قرارهم السيادي منذ سنوات: “إنهم يمزقون سوريا ويمهدون لدويلات التقسيم”.
المشاريع التي مولت غربيا كما هو معروف لرسم سيناريو “اليوم الثاني” لا علاقة لها باليوم الأول ولا تصلح لأي يوم قادم… “مراكز البحث” التي أنفق عليها عشرات الملايين تتحفنا بكل ما لا يصلح لإنقاذ سوريا من كارثتها لأنها تنطلق من مبدأ الصمت عن والتواطؤ مع شركاء الكارثة السورية من سوريين وإقليميين ودوليين. وتتعامل مع الذين جعلوا الإسلام إستراتيجية سلطة (من أئمة الأمراء إلى أمراء السبي وقطع الرؤوس) باعتبارهم بناة مستقبل؟ في الشدادي سقطت كل الأقنعة، امتزج الدم العربي والكردي والسرياني من أجل إنقاذ الإنسان السوري من التوحش الداعشي، فاستقبلت النساء قبل الرجال “قوات سوريا الديمقراطية” بالزغاريد. أكاذيب التطهير العرقي لم تعد تنطلي على أحد، لقد قرر عرب وكرد وسريان وتركمان النضال معا من أجل سوريا ديمقراطية. كان لدرعا شرف أول حراك مدني سلمي ينطلق من الريف في التاريخ، ويطمح الديمقراطيون المدنيون اليوم لتسجيل أول نصر على التطرف والظلامية والاستبداد بعد صراع مسلح وحرب قذرة في الأزمنة الحديثة. نصر إنساني ومدني وحضاري، رغم كل ما حمل لنا العنف الأعمى من طفيليات وسرطانات.
لقد أرادت دول في الإقليم قبر الربيع العربي في الدمار السوري وهاهم شباب وشابات نجوم السماء المتلألئة والأرض المعطاءة في الشمال قبيل عيد المرأة والنوروز، يطمحون لسوريا الشراكة في الحقوق والواجبات، سوريا الكرامة والتنمية والبناء عبر إدارة المواطنين لشؤونهم بأنفسهم، سوريا النابذة للمذهبية السياسية والشوفينيات القوموية، سوريا التي تكتسب الوطنية فيها معناها ومبناها من حقوق الناس الفردية والجماعية وواجبهم في العمل المشترك لبناء مستقبل يليق بأطفال حرموا من بيوتهم وعلاجهم ومدارسهم. سوريا الجديدة، سوريا بكل مكوناتها ولكل مكوناتها، بكل مواطنيها ولكل مواطنيها.. سوريا تجديد الفكر السياسي والنهضة الثقافية والنهوض المجتمعي والاقتصادي…
مات النظام القديم في القلوب والعقول، وتهافت التابعون والمماليك ممن لم يتجاوز مشروعه تغيير القشرة السياسية، حلّ تمثال المرأة الحرة مكان تمثال الدكتاتور في عامودا، وجمعت مقبرة الشهداء في القامشلي الديمقراطيين من كل مكونات الوطن. وها نحن أمام المعركة الأهم والأكبر، معركة الانتقال من تجربة الشمال الذاتية الديمقراطية، إلى سوريا الديمقراطية المدنية الحديثة.[1]