عن الجذر المعرفي والسياسي للأزمة السورية؛ وعن الحلول (2 من 2)
سيهانوك ديبو
سنكون أمام نهوض معرفي مجتمعي جبّار إذا ما استطعنا مدركين قادرين أن نعرِّف الشرق الأوسط ومن ضمنها سوريا اليوم التي تختلف تماما عن سوريا الطبيعية بأنها مجموعة من الثقافات التي تشكل –اليوم- مدنية واحدة؛ علماً أن ذلك يمثل حقيقة وأصل جيوتاريخية الشرق الأوسط كله. وفي هذا السياق فإن توصيف الكرد على هدى مصطلحي الثقافة والمدنية سيكون مفيداً إلى حد بعيد، وهو موقف ضروري من أجل الشعوب الأخرى كما يؤكد ذلك الفيلسوف أوجلان. والأداة اللازمة والتي تكاد تكون الوحيدة في حل وتأسيس وتحقيق مثل هذه الإشكالية المعرفية ومثل هذا الأمر المُلِّح يكون عن طريق اللامركزية الديمقراطية. ومن المؤكد أنه أول ما يصطدم به مثل هذا الفهم مجموعة (صَدٍّ) ليست بالهيّنة؛ أنهم (عسّسُ هيكل القومية البدائية)، وأولى الحجج تكون افتقار القواميس القانونية العالمية المسطّرة من قبل (الغير) إلى مثل هذا المفهوم، مثل هذه الحجة التي تحاول دكِّ هذه الرافعة النهضوية –في الحقيقة ودون إدراك منها ومطلقيها- تتحول إلى حجة داعمة لها، ألم تكن هذه القواميس السبب الأساس فيما نعيشه اليوم؟ ألا يعطي ذلك مبرراً إضافياً ونوعياً للبحث المستمر عمّا يلزمنا من (الغير) وعمّا يجب أن يكون مقتصر (علينا)؛ علماً بأننا جميعاً (نحن والغير) نلتقي في محل ما على اعتبارنا جميعاً ننتمي إلى مدنية عليا (الإنسانية)، وأن مفهوم اللامركزية الديمقراطية بحاجة أنسيّة بجميع مُشّكِّلاتها القانونية والسياسية والاقتصادية إلى أداة يحقق ذلك وإطار يصونه، وأداة تحقيقها يكمن بالاتحادية. وفقاً لهذا الفهم والحل سيجد حتى المتمركزين ضمن دوائر القومية سواء من العرب أو من الكرد وغيرهم بأن رؤاهم في حالة حماية كاملة ومتقدمة عن الفهم القاصر المدمّر للقومية، وأن الانتماء إلى قومية أو مذهب أو إلى أيِّ حُكّمٍ آخر لن يكون على حساب صهر وإبادة وتطويع مجموعة المختلفين عنه –قومياً- إلى دائرته، والأمر نفسه بالنسبة للذين يرتكبون الخطأ الفكري نفسه حينما يربطون مسألة الحقوق بالدولة؛ بعكس ذلك تماماً فأن الدولة أو نظم الدول الحالية ومهما بلغت من إظهار للديمقراطية لم تستطع أن تعبر يوماً عن الحقيقة المثلى لحقوق المجتمع أفراداً وجماعات؛ وهذا مبحث آخر يفترض علينا بل يفرض البحث عن تعاريفها الصحيحة وترجمتها بشكل يُطلق عنان المجتمعية بدل من تقويضها.
اتباع الموقف الدينامي والمرحلي أساساً في هذا المضمار عوضاً عن الموقف الستاتيكي، أي القناعة أو القبول المرن بالنظام السياسي لسوريا الاتحادية هو انقلاب حتمي على نظام العنف ومجتمع العنف والانتقال الحتمي إلى ثلاثية النشوء والاستمرار والبقاء المتمثلة بالعيش المشترك ووحدة المصير وأخوة الشعوب. ولن نتفاجئ كثيراً بقول المرتعدين بأن مثل هذا الفهم هو يكرس التقسيم؛ مثل هذا الفهم القاصر لم يلحظ بأن سوريا السابقة لم يكن سوى هيكل مُقّسَم في مضمونه وعيشه وأن تصريحات الذين لم يغادروا محلاتهم السابقة في سلطة الاستبداد؛ بالرغم من تموضعاتهم الطارئة؛ يؤكدون على ترابطهم العضوي والفكري البائس مع النظام الاستبدادي وبأنهم في مثل هذه المواقف ليسوا إلّا المقسمين التقسيميّين، وقصورهم جعلت الغشاوة المتشكلة على أدمغتهم وعيونهم لا ترى الكم الهائل من الأنظمة الاتحادية في العالم؛ كلها مؤثرة في القرار العالمي وبعضها اليوم راسمة للسياسات الدقيقة لجميع الأنظمة –المركزية- الأخرى.
أسباب القوة في النظام الاتحادي الديمقراطي لسوريا
قوة الأمن: بالعودة إلى أصل وفصل مصطلح الفيدرالية أو الاتحادية نجد أنها تدل على فهم الوثيقة أو العقد أو العهد، وأن أسَّ المشكلة التي دلت على هذا الفهم المتقدم هي الحاجة إلى استتباب الأمن الذي يلزمه عقد اجتماعي يحفظ حقوق المتآلفين أفراداً (المواطنة الحرة) وجماعات (ثقافات وقوميات وأديان …) ضمن نظام سياسي موحد وهذا كُنُه المجتمع السياسي؛ الغريب عن مجتمعات الشرق الأوسط وفي سوريا طيلة قرون خلت. وبنظرة فاحصة أمْ سريعة إلى أحوال العمران البشري في العصر الحديث نجد بأن الأنظمة الاتحادية في ثلاثمائة سنة مضت هي أكثرها القدرة بإتيان الأمن وتحقيقه، وخلافه تماماً فإن الأنظمة المركزية هي أكثرها فشلاً بل الأعجز عن تحقيق هذه المسألة الوجودية الحياتية المحورية في حياة الشعوب. وأن النظام الاتحادي هو الذي يضمن الأمن في سياق التنوع والتعدد في مجتمعاتها ويجعل من هذا التنوع ركيزة أساسية للتطور والتقدم، والأمثلة هنا كثيرة ولعل أبرزها هو النظام الاتحادي في الهند الذي يبلغ تعداد سكانه حوالي المليار ومائة مليون نسمة تقريباً، وفي الهند وحدها ألف لغة رئيسية ومحلية وأربع عشرة لغة أساسية رسمية وخمس أديان أساسية وتشكل هند اليوم ضمن هذا التنوع الهائل قوة سكانية ديمقراطية كبرى في الأمن والاستقرار الداخليين. والحال عينه في الشرق الأوسط المتداخل ثقافياً وأثنياً ودينياً وقومياً بأنه مر بمراحل مؤكدة لمثل هذه الحقيقة، وأن أكثر المراحل قوة شهدها الشرق كانت نتيجة تكاتف جميع المكونات مع بعضها ضد الغير؛ ولعل ملاذ كرد وما سبقها وما تبعها كانت الركائز التي حمت هذه الثقافات من الاندثار والتشتت في وجه الثقافات الطارئة النمطية ذات المصدر القومي أو الديني، وتلك أي الرؤى النمطية كانت السبب في جميع ما آلت إليه الأمور من تباعد وهُوَّاتٍ ودمار مجتمعي؛ وآخره سوريّاً المتمثل في الرؤية البعثية النمطية والتي لا تزال الكثير من الأطر المعارضة الحديثة تقاسم النظام كحَمَلة مجتمعين لميراث جبري.
قوة التنمية: علاوة على أن الأنظمة المركزية فشلت في تحقيق هذه المسألة المجتمعية الصميمية؛ فإنها تقصدت من تجويع مجتمعاتها واضعة إياها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الأمن الكاذب المرافق للفقر والجوع وإما السجن؛ علماً بأن المجتمع السوري –إذا قدرنا تسمية هذا المصطلح- لم يكن في واقع الأمر يعيش إلّا ضمن سجن كبير وسجّانين كُثر متدرجين من رئيس السجن إلى نوابه ورؤساء مخافر السَيْجَنة وديمومتها. مصيبة كبيرة أن تشعر الجزيرة ودير الزور والرقة بأنها من المحافظات النامية الفقيرة المتخلفة ومصادرها المساهمة في الناتج السوري العام تعتبر أكثر من 65% ؟. والتنمية لا يمكن حصرها بالاقتصاد الجمعي وحده بل بالثقافية والاجتماعية والسياسية والتعليمية وغيرها التي تم تكبيلها وفق قيود المركزية، ومن هنا لا يمكن القبول حتى بمجرد فكرة القبول والعودة إلى أي شكل من أشكال النظام المركزي أو إلى أي شكل من أشكاله المجمّلة أو المحدثة؛ والحقيقة أن النظام المركزي في سوريا لا يمكن عودته؛ لقد فقد جميع شروط عودته، واصرار المتباكين على أن الاتحادية هو التقسيم؛ نلاحظهم الأكثر استفادة من الفساد المتعاظم في فترات اشتداد المركزية وطغيانها المتسلط على رقاب الجميع.
قوة الاستقرار: مما لا شك فيه أن أكثر المجتمعات مستقرة هي أكثرها تطوراً وتقدماً، وكأن حالتي التطور والتقدم هي جواب الاستقرار، وتبقى المجتمعات التي يصيبها التكلس بفعل الحجز الممارس من قبل الأنظمة المركزية؛ الأكثر قدرة على الانفكاك ومن ثم التقسيم المعلن بسبب تفشي العقدية والانكفاء فيها، كمن يضرب شاكوشاً على رجله ويسأل نفسه بعدها لماذا لا أسير مثل غيري (مجتمعات- جماعات- أفراداً)؟ بعكس الأنظمة اللامركزية وفق صيغ الاتحادية فإنها الأكثر استقراراً؛ بحيث تصبح كوامن اللااستقرار في حالة مغيّبة تامة وتصبح حالات الاستجرار وفق رغبة الما وراء في أدنى فرص الظهور. والمجتمعات المستقرة التي تديرها أنظمة اتحاديّة وفق خصوصية ثقافاته التي تتعارض بالضرورة مع أشكال موجودة سلفاً للاتحادية؛ يمكن للأزمة السورية من خلالها أن تستفيد منها دون الوقوع في الخطأ نفسه مرة أخرى أي بتطويع الأزمة السورية وفق الحلول الموجودة مسبقاً، خلاف ذلك بأن الأزمة السورية يستوجب من أجل حلها مراعاة كاملة لخصوصية المجتمع السوري ذاته وأنه ليس من الضرورة أن يشبه الاتحادية في العراق على سبيل المثال، وأنه من الضرورة أن يشبه الوضع المشخص السوري والتشخيص المتقدم لأزمته. وهذه دلالة أخرى على بناء مجتمع مستقر نحن مقبلين عليه.
قوة الحرية: تعتبر قضية الحرية من أولى المهمات التي تنطلق منها الثورة وتضعها نصب أعينها، فلا يمكن توسيم الثورة بأنها الثورة إذا ما لم تحقق هذا المطلب؛ وإلّا نكون أمام معضلة فكرية أخرى بأن الثورة لا تنتج الأحسن، وعليه فإن الثورة الحقيقية كما يصفها الفيلسوف أوجلان؛ ليست متمحورة في اسقاط دولة وإنشاء دولة أخرى، وليست إذابة سلطة وإحلال سلطة أخرى، وإنما الهدف المتوخاة من الثورة تحقيق الحرية وإقامة مجتمع ديمقراطي بقيم العدالة والمساواة. والحرية هنا لا يمكن رصدها في الأنظمة المركزية وخاصة التي تتسلط بفعل القومية وأي شكل من أشكال النمطيات الأخرى؛ ونكون منصفين جداً لو قلنا إن عدم التقاء النهار والليل، والماء والنار وغيرها من المتعارضات؛ تدل على مكمن وجود النظام المركزي الذي يعني غياب الحرية، ووجود الحرية المجتمعية -إلى درجة كبيرة- ملحوظة فقط في الأنظمة الاتحادية وبحسب خصوصية مجتمعاتها، وإطلاق كميّات كبيرة من شعارات الحرية والمواطنة وغيرهما تصبح دليل إدانة على النظم المركزية وانفصام حتمي بينها وبين المجتمعات التي تتسلط عليها، ووجود نظام استبدادي بأيديولوجية صرفة ولمدة نصف قرن سوري لم يكن إلا عجزها وتضادها الفكري والممارساتي للحرية. والجموع الثائرة الناهضة ضد النظام الاستبدادي قبل ست أعوام كان بمطلب الحرية، وفشل المعارضة بشقيها الكلاسيكي والمستجد في ذلك، دليل آخر بأن الخط الثالث هو الأقدر على تحقيق مطلب الحرية، ولا عجب حينها أن يتطابق خطاب المعارضة الكلاسيكية والمستجدة (مغادرو ساحة النظام الفجائيين) مع خطاب النظام وفي الوقت نفسه مع رؤى بعض الأنظمة الاستبدادية الإقليمية حول رفض مطلب الاتحادية وخلافها مع رؤى الطريق الثالث التنويري الذي يؤمن اليوم بأن سوريا الغد بمصير الحرية المضمون وفق الصيغة الاتحادية.
من المؤكد أن أسباب أخرى غير المذكورة أعلاه؛ مدعاة اليوم أن تكون مدخلاً مهماً لضرورات الاتحادية أو الفيدرالية كحل ومخرج من الأزمة والتقسيم في سوريا؛ لكن؛ أياً تكن هذه فإنه الملاحظ في العالم السياسي الحديث فقدان الدولة القومية مقوماتها وأسسها وخاصة في الشرق الأوسط المُحدَّث وقد باتت حدوده في معرض التهديد التام. ومثل هذا التصور يؤكد قناعة فوق قناعتنا المسبقة أنه عصر الأمم الديمقراطية وكونفيدرالية الشعوب وأن الوقت حان وحائن أن تقوم الكتلة التاريخية المتمثلة في سوريا بالطريق الثالث بدور حضاري ديمقراطي والوصول إلى الحالة النشطة النهضوية عن طريق الاتحادية السورية الديمقراطية. ومن المؤكد بأن الحل الاتحادي لا بد من حيّز أولي يطبق فيه المشروع حتى يزيل جميع الشكوك والتشكك وفقدان القيام؛ وأن مناطق شمال شوريا ومن ضمنها روج آفا هي الأنسب، وكيف لا وسنوات الإدارة الذاتية الديمقراطية قد نجحت رغم العقبات الكبيرة المتعلقة سواء برفض ومحاربة بعض الدول الإقليمية -ولا تزال- لها وفي مقدمتها تركيا أم المتعلقة بحجم التسطح الموجود بفعل نصف قرن من التنميط والجبرية والابتذال، والتعددية في الانتماءات القومية والدينية والمذهبية والخصوصيات الاجتماعية والمناطقية تحتم الشكل الاتحادي للتنظيم السياسي والاداري لهذا المشروع/ الإطار المُفَعّلِ ضمن صيغة الإدارة الذاتية الديمقراطية واحقاق مجتمع بإدارة أفقية لا هرمية. وكاستدلال آخر على قوة الطبيعية بمثال جريان الأنهار غير العاصية؛ فإن الشمال السوري يكون مركز استحقاق وتحقيق اللامركزية الديمقراطية وبالصيغة الاتحادية ومتوجهاً نحو الوسط والعاصمة حتى حوران بسهله وجبله. وحين الوصول نكون كسوريين مخلصين للحناجر التي خرجت قبل ست سنين: الشعب يريد التغيير؛ يريد الحرية؛ يريد اسقاط النظام.. المركزي.[1]