الدولة التركيّة والعربيّة والمُلك المُضاع
تدويل القضية الكردية في العصر الحديث
صلاح الدين مسلم
اعتمد كلّ نظام مهيمن ساد في العالم على أيديولوجيّة معيّنة، ويمكن أن ينفرد كلّ مركز تاريخيّ في العالم عبر التاريخ بخصائص تميّزه عن الأخرى، وإن اجتمعت الإمبراطوريّات العالميّة على مقولة واحدة ألا وهي الطبقات والاستعباد والظلم وتحالف التجّار مع الراهب والعسكريّ، ليؤلّفوا ثلاثيّة تضع جلّ ثقلها على الشعب المغيّب عن الحياة، إلّا أنّ هناك بعض الفروقات.
باتت الدولة التركيّة دولة حرب منذ نشأة الإمبراطوريّة العثمانيّة ذي النشأة المغوليّة، وقد اعتمدت الدين الإسلاميّ منهجاً لتصارع به الدولة المسيحيّة الغربيّة، وعلى الرغم من تقلّص هذه الإمبراطوريّة التركيّة بعد الحرب العالميّة الأولى وتأطّرها في لبوس الدولة القوميّة، لتواكب الحداثة الرأسماليّة وتقلّد الأنموذج الغربيّ من حيث المظهر الخارجيّ، لكنّ فلسفة الحرب لم تفارق مخيّلتها، بل باتت فلسفتها والمنهج الفكريّ الذي لم يفارقها، وقد شهد العرب أسوأ تراجع فكريّ وثقافيّ وأدبيّ وسياسيّ واقتصاديّ على مرّ تاريخها، وكذلك الشعوب الأخرى التي كانت تعيش تحت كنف هذا الوحش النهم الذي لا يعرف معنى الرقيّ الثقافي، إذْ أنّ هذا التركيّ المتلوّن والذي جرّدته الدولة من كلّ شيء، بات منقطع السلالة عن إرثه الثقافي البعيد عن ثقافة الشرق الأوسط، المتنكّر لموطنه الحقيقيّ، الذي يسعى إلى إرضاخ ثقافة الشرق الأوسط إلى تفكير قد تنكّر له هو بالأساس، من هنا جاء الاغتراب في الهويّة الدولتيّة التركيّة، فما فهموا الإسلام والديانات الشرقيّة، ولا فهموا العلمانيّة الغربيّة، لذلك سمّى المفكّرون العرب العصر العثمانيّ عصر الانحطاط العربيّ، وظلّ التخلّف مصيرَ الشعوب التي رزحت تحت سيطرة التركي حتى الآن.
لقد تدفّق الرأسمال إلى الخزينة التركيّة عبر الحروب الإنكشاريّة التي لا طائل إنسانيّ منها، واعتمدوا على نظام سرقة الأطفال اليتامى والمشرّدين وغيرهم من الأطفال، ليلقّنونهم ثفافة النهب والسلب والتبعيّة للدولة والسلطان ويستأجر علماء الدين المسلمين ليروّجوا للسلطان العثمانيّ الذي دخل البلاد العربيّة دون معارك، أو ثورات، وبالتالي تجذّرت ثقافة الحرب والغزو في كينونة المستبدّ التركي، وكذلك الاقتصاديّ التركيّ، من هنا كانت نظرة الاقتصاديين الأتراك فيها قمعيّة واستبداديّة أكثر، فالأتراك كسلطة ظلّوا يحاربون الشعوب التي تعيش في كنفها على يد جنود غير أتراك، فقد حاربت الأرمن بالكرد، وحاربت الكرد بالعرب، وحاربت الروم باللاذيين، وصفّت وأبادت كلّ الشعوب من خلال تأطيرها وفق الثقافة التركيّة التي استمدت نفسها من الثقافات الأخرى، فكمُّ الكلمات العربيّة والكرديّة والفارسيّة واللاتينيّة في اللغة التركيّة قد تجاوز اللغة التركيّة الأصليّة أساساً.
ظلّ المستبدّ التركيّ يعتمد على المكر والخداع والكذب والمناورة والتلفيق، لم يستطع أن يتأقلم مع فكرة السلام والتعايش السلميّ والوِفاق والاتّفاق، لم يفهم سوى لغة التصفية والإبادة والصهر، فهو لا يمتلك شيئاً ليعطيه، وكان تكالب السلطويين العرب الدونيين الذين فقدوا مع انهيار الدولة القوميّة في العراق وسوريا ومصر سابقاً هويتهم، فباتوا ينبشون الماضي ليبحثوا عن هوية فلم يروا سوى الركوع للهوية الدولتيّة التركيّ، وبهذا استطاع اردوغان أن يصنع أتباعاً مطيعين له، يغردون له، وباتوا يريدون الأمن الداخليّ التركيّ ناسين أمنهم السوريّ الذي تدمّر داخليّاً وخارجيّاً وكلّ ما يمتّ بصلة إلى شيء اسمه مستقبل أو غدٍ مبين، معتمدين على أيديولجيتهم الإنكاريّة للهويّة الكرديّة التي تعلّموها في المدارس التركيّة.
لقد أعدم جمال باشا السفّاح كلّ أولئك العرب الذين تضامنوا معه في حرب الترعة، بعد أن تودّد إلى العرب كم يتودّد الآن اردوغان بحجّة الدين وإعادة الإمبراطوريّة المسلوبة، وما إن خسر معركته حتى قام بتعذيب الشعب العربيّ والتنكيل به حتّى لُقّب بالسفّاح، إذْ لا يمكن أن تأمن جانب مستعمر ما يريد أن يستغلّك الآن ويوهمك أنّه
سيعطيك حقوقك بعد أن تهدأ الأوضاع، وهذا ما سيفعله اردوغان بعد أن يتخلّص من خصومه، وهذا ما كان سيفعله الائتلاف بالشعب الكرديّ بعد أن يعتلي العرش.
ظلّ الكثير من الدولتيين ينعتون إسبانيا ب(الفردوس المفقود) حيث رأت عائشة الحرّة أمّ الصغير بكاءه على ملكه الذي لم يحافظ عليه قائلة له: “ابك مثل النساء ملكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال”، وكانت هذه زفرة العربيّ الأخيرة في إسبانيا أو الأندلس سابقاً، وقد سلّم أبو عبد الله الصغير غرناطة إلى فرناندو في 1492م، وخرج من الأندلس بعد ثمانية قرون من الفتح الإسلاميّ له، وهذا ما نراه في هذا الاردوغانيّ الذي قربت زفرته، ليودّع هذا المُلك المضاع الذي لم يعرف كيف يصونه بالتآلف المجتمعيّ، وظلّ ينظر فوقيّاً كما الأمراء الأندلسيين الذين يذكرون في التاريخ الإسبانيّ على أنّهم شخصيات إسبانيا، ولا مكان الآن لأيّة ديانة في إسبانيا سوى الديانة المسيحيّة، فمحاكم التفتيش قد قضت على المسلمين واليهود معاً، وما عاد أحد يتكلّم العربيّة، أما كان بالإمكان تعيش إسبانيا دون الصغير وفرناندو؟! ألم يكن هناك مجال لأن تكون الديانات كلّها موجودة فيها واللغات كالعربيّة والإسبانيّة؟ أما كانت الاستفادة الثقافيّة أفضل؟ فما عادت إسبانيا تحكم الآن بفلسفة الصغير ولا بفلسفة فرناندو.[1]