قُبَّةُ برلمان؛ أمْ غرفة حرب معلنة؛ أمْ بداية الانهيار؟
كرنفال كولن؛ مجرد استعراض
سيهانوك ديبو
يمكن القول بأن الأوضاع الحالية التي تشهدها البلدان ما هي إلّا نتيجة السياسات والبرامج السابقة المعتمدة من قبلها؛ وأنها تشكل مجتمعة بمثابة استنتاجات حاسمة بعضها تخص كيفية بناء تلك الدول/ ة وبعضها تكشف عن مضمون وماهية الفكر الذي أدى إليها وجميعها تكشف دون مواربة حقيقة تلك الرؤى والنظريات ومقارباتها المجتمعية أثناء التطبيق العملي لها. وهذا يحيلنا بطبيعة الأمر في أن الوصف المعاصر للسياسة الدولية من خلال مصطلح العولمة ليس غير دقيق فحسب؛ إنما هو غير دقيق على نحو متزايد، وأن الترتيب المحلي للسياسات المحلية هي في الحقيقة ليست سوى أمر مركزي بصبغة الاقتصاد العالمي وتعقيداته الجمّة، وهذا ما يحتم في أن الأهمية السياساتية المحتملة لأية دولة لمثل هذه الاستنتاجات تظهر دون عناء كبير للتحليل. ومثل هذا الفهم يجعل من الإيمان بقناعة مفادها أن نشوء الدولة المؤطرة أو الكيان القطري في الشرق الأوسط قد وصل إلى درجة كبيرة من الفشل، ومن باب المسؤولية التاريخية والمعرفية يجب البحث عن البدائل النابتة محليّاً – شرق أوسطياً والتحلي بالمزيد من الصبر والمقايسة العملية والعلمية إزاء أي نموذج مستورد، مع العلم بأن أفضل البدائل لا يوجد فيها ما يوحي إلى التناقض بينها كمنتج مجتمعي محلي وبين المُصَنِّع في بلدان أخرى مُصَدِّرة. ربما علاج الربو المصنوع في بلد أوربي مُجَرَب بشكل ناجح على أشخاص يعانون من حال الربو؛ ليس من الضرورة أن يكون نفسه العلاج حيال أشخاص مصابون بالربو في الشرق الأوسط، وببساطة متناهية فإن الأسباب التي أدت إلى الحالة الأولى تختلف عن مثيلتها في الحالة الثانية، وأن العلاج أو الحل قد يكون نصف الحل في الحالة الثانية مقارنة بالحالة الأولى. وأنصاف الحلول –غير الحل المتدرج- لا تفيد في كليّة البناء المجتمعي للمجتمعات الناهضة أو التي تبدي قدرة كبيرة من أجل النهوض في الشرق الأوسط بالاعتماد على مشاريعها النهضوية بشكل كبير والاستفادة من تجارب الأخرين بشكل كبير أيضاً.
قصة البرلمان وأصله
الحضارات التي عرفتها بلاد الميزوبوتاميا مثل السومرية والميتانية والهوريية والسوبارية والهوريية والآشورية والميدية وغيرها لم تكن محض امبراطوريات حرب ونفوذ وإنما في غالبها هي إدارات ديمقراطية خلقت نماذج متقدمة من الديمقراطية لم تصل إليها أكثر البلدان تطوراً حتى اللحظة. من تقسيم العمل والإدارة والدفاع المشروع في مجتمع (الكِلّان) –نموذج للمجتمع الأوليّ غير المعقد- قبل آلاف السنين في العهد الزراعي الأول من شمال الميزوبوتاميا إلى أول نظام تشريعي يمتهن فيه القضاء بشكل مستقل في عهد البابلي إلى تأسيس مجالس للشعب في الامبراطورية الميدية وتأسيسها عدد هائل من المجالس المحلية المحددة لكل منطقة أو إدارة محلية ذاتية من حيث أن كل واحدة منها بشكل مختلف عن غيرها من المناطق. كانت هذه النماذج بهدف تقييم الملوك أو القادة أو حتى الامبراطور عن طريق المجلس وتقديم المؤازرة أو النصح له فيما يخص بالقرارات المصيرية مثال الحروب، وقد تعرف عليها الإغريق فيما بعد واعتمدها بشكل كبير، وعهد عن الهند القديمة بتلك المعرفة كما حال مصر القديمة. كما أن معرفة البرلمان في الشكل الحالي المعهود كان أول مرة في إسبانيا –مقاطعة ليون- في العام 1188، في حين تم اعتماد مصطلح البرلمان في بريطانيا عام 1236. بينما يرجح الكثير بأن أصل الكلمة في الفرنسي يعني النقاش والحوار parler. لكن؛ أعتقد بأن أصلها من اللغة الآرية- الكردية المستخدمة حتى اللحظة Parl أي القراءة، وparler الإخبار والنقاش والحوار؛ أي اللفظ نفسه وبنفسِ المعنى.
وما حدث في الفترة الأخيرة بنتيجة الأمس في البرلمان التركي من رفع الصفة البرلمانية عن نوابه من حزب الشعوب الديمقراطية؛ علاوة أنها سابقة أولى في تاريخ البرلمانات الحديثة والقديمة، وأنها أيضاً تفي إلى الاستنتاج الواضح الذي لا لبس فيه وكشف المستور عن السياسوية التركية وبشكل (قانوني) في عدم قدرة الدولة القوموية التركية بقبول مختلف آخر كما حال الكرد غير المنصهر، ولا يهم هنا مهما بلغت عراقته التاريخية ومهما كان دوره في المراحل التي سبقت نشوء الدولة التركية والدور المباشر للكرد في نشوئه. أي التوجه العلني الحرفي نحو المضي في الإبادة للشعب الكردي والمكاشفة بالحرب بتغطية (البرلمان) الذي يبدو هذه اللحظات غرفة لإعداد الحرب وشرعنها. وهذا بدوره يحيلنا إلى أكبر الاشكاليات في التاريخ المعاصر والحديث للشرق الأوسط المتمثلة بإشكالية الدول المؤطرة التي وجدت نفسها في جغرافيات مستحدثة بشكل عام وبشكل خاص الدول التي وجدت في أُطرِها نماذج مبعثرة للحقيقة التاريخية والجغرافية والسياسية المتمثلة بكردستان. ونلاحظ اليوم بأن هذه الدول من أشد المدافعين عن هذه الخرائط أو الترِكات المعهودة لهم بجبرية من خلال سايكس بيكو 1916 وسان ريمون 1920 ولوزان 1923، ونلاحظ أيضاً بأن حديث التفتيت بعد التقسيم في مقدمة ما يبتدؤون بهم حين الكلام عن الحق الكردي وحقوق الجماعات والأفراد. وقد ظهر في الآونة الأخيرة تشبيك هذا الحديث بملف الإرهاب والتطويع البراغماتي لصالح أجندة الإبادة. مثال سلطة العدالة والتنمية على ذلك في تحويل قبة البرلمان إلى غرفة تشريع الاستبداد والبدء في حملة الإبادة الثالثة؛ الأولى المتمثلة بما قام به مصطفى كمال، والثانية التي انقلبت عليه وإظهار القوموي حتى مجيء التركياتية الخضراء، والثالثة المبتدئة على يد الخليط الممزوج بالقوموي والطائفي المتمثل ب(السلطان الجديد). تؤكد المصادر التاريخية بأن هتلر أكثر ممن استفاد متمثل في تجربة مصطفى كمال، وتؤكد الوقائع الحالية بأن أردوغان يكاد يُطبِّق تجربة هتلر بحرفية مع إضفاء الخصوصية المقتصرة به، وهذا يعني بأنه ظهور أو احياء أو اعلان للفاشية التي أجبرت على الاختباء لسنوات وظهرت إلى العلن على يد الفاشية التركية وحربها ضد الشعب الكردي والمدن الكردية وحركة الحرية الكردستانية وضد القوى العلمانية في تركيا الحديثة والتي تشكل اليوم وبالرغم من ظروف الإبادة والحرب في تركيا نسبة 33% بشكل معلن وبحسب نتيجة البرلمان/ غرفة الحرب التركية والرفض لخطوة رفع الصفة البرلمانية لأعضاء حزب الشعوب.
انهيار الدولة المؤطرة/ المؤجرة
شهد التاريخ البشري ميلاد ومن ثم حتف مئات الحضارات؛ نصيبها الأعظم في بلاد الميزوبوتاميا، والقوة التي امتازت بها أشبه بقوة الديناصورات وظهورها واختفائها بالرغم من تلك القوة. شيء أشبه بالاصطفاف والاصطفاء الطبيعيين؛ لكن؛ البقاء للأفضل وليس للأقوى. ومثل هذه المقاربة يمكن بها التعميم على نماذج المجتمعية كالحضارات المختفية الزائلة، كما يمكن التعميم على ما يجسد ذلك في العصر الحديث والمعاصر الحالي والمتمثل بالدولة المؤطرة في الشرق الأوسط بشكل كبير. إنها أشبه أن تكون بالدولة المؤجرة من قبل أجندة الغير. وهذه الدول محكومة بالانهيار حال زوال الأسباب التي أدت إلى إنتاجها. وإذا كانت الامبراطوريات القوية شهدت حتفها لأنها تصل إلى مواقع لا تستطيع معالجة التناقض الذي يعتريها ويظهر بشكل جليّ ويمكن تسميتها ب(المعضلة التاريخية) التي لا يمكن علاجها؛ أو علاجها في موتها فقط. والمعضلة التاريخية تجعلها تنكمش على نفسها وتتوقف في مكان ما وكل آليات الدفع تصبح أضغاث أحلام ومجرد رغبات وأماني يحس بها صاحبها؛ مجرد تلقي الصدمة أو الكدمات الأولية التي تظهر على الأرض التي يقف عليها وتتشقق وأخيراً تبتلعها بشكل كامل. وهذه المعضلة التاريخية تتعلق بالأسباب التي أحدثتها أساساً والتي تتحول إلى كوابح فيما بعد، وتتعلق أيضاً بالنتائج أو الاستنتاجات التي تشكل حقيقة نشوء تلك الامبراطورية/ الدولة. أمّا المعضلة التاريخية التي ستسبب في إفناء أو انهيار أو ربما اختفاء كليّ لبعض من هذه النماذج المؤطرة فتكمن في أنموذج الدولة النمطية نفسها التي تظهر في لحظة معينة وبرهة خاصة جداً بأنه الحل بعد سيلان الدماء ومشاهد التدمير؛ وبمجرد استعادة العافية ينكشف الأمر ويبدو في أحسن أحواله نصف الحل الظاهر على حساب نصف الحل المُغَيِّب. ونصف الحل المغيب هو الأساس الذي تم تغييبه وإنشاء الامبراطورية/ الدولة بنصف أساس. وأيضاً كما في حالة الأزمة السورية؛ يتم عرض ربع الحلول وليس حتى نصفها من خلال التغطية المستمرة على تفاصيل المشكلة السورية والمتعلقة بالاستبداد وطبائعه، والمتعلقة أيضاً بعدم اعلان أسباب ظهور الإرهاب والاكتفاء بمحاربة وجوده الميداني (نصف الحل) دون الحرب على وجوده الفكري (نصف الحل المغيّب) إلى حين آخر؛ يَلزم.
ما فعلته الغرفة التركية/ البرلمان ضد الوجود الكردي ستعتبر لاحقاً بأنها أولى علامات الانهيار، ومثل ما حدث قبل مئة عام: أولى الأبواب المخلوعة كان الباب العالي وصولاً إلى جميع الأبواب والنوافذ الأخرى التي تطل منها الأنظمة المتكسرة في الشرق الأوسط. وإنها التمهيد لعصر الأمم الديمقراطية وأفول ديناصورات الأمم النمطية والدول القوموية المؤطرة والمؤجرة.
ألم يحن وقت العيش المشترك؟ جوابهُ له أثمانه وله ناسه وله نظرية تُعْرف اليوم بالأمة الديمقراطية.
نقلا عن الحوار المتمدن[1]