عامٌ على فجرِ الغدْر في اليوم الأسود
الانتحار العثمانيّ بين أعزاز وجرابلس
كان الليل هادئاً عندما نام الكوبانيّون منتصرين فرحين باتّصال الكرد بعضهم ببعض، عبر طرد الدواعش من كرى سبي، يحلمون بغدٍ أجمل، نابذين أيّام البعد عن الوطن في بلاد الغربة اليباب في شمال النفي، حيث كان سلطان البوم ينعب قائلاً: لقد سقطت كوباني، وهم في أحلامهم يطردون البوم والكوابيس المختلطة بأصوات الرصاص في ساعات الفجر في #25-06-2016# ، فهناك من يقول قائلاً: إنّ هناك أنباءَ عن تحرير صرّين، لكن هناك صمت يتقطّعه صوت الرصاص، لا أحد يُعلِم الآخر ما الذي يحصل؟ ولا أحد يستطيع أن يفسّر ما يجري، فالهواتف التركيّة لا تعمل، ولا هواتف سوريّة ولا خطوط أرضيّة بعد كلّ هذا الدمار الداعشيّ، ليدرك من حالفَه الحظّ من الكوبانيّين الذين لم يدفعهم الفضول للخروج من البيت ليتلقّى أحدهم رصاصة غادرة من منهج الغدر، في فجر الغدر، أو ليكون الكسل من الخروج من البيت، أو الحذر، أو الصدفة.
هناك من صعد السطح ليفهم معنى هذا الرصاص المتقطّع، ليرى سيارات هوجاء يتصاعد منها لهيب النيران العشوائيّ، ليسمع بعضاً منهم تكبيرات الله أكبر التي تخرج من أولئك المتشبّهين بوحدات حماية الشعب، ليرى بعضهم الشعر الطويل واللغة العربيّة الفصيحة التي لم يسمعها إلّا من المسلسلات التي كانت تجسّد أيّام أبي جهل والحجّاج وابن أبيه والسفّاح والمنصور…
لتكتمل فصول المجزرة بعد أيّام من يوم الخميس الدامي، ليجدوا امرأة بلون الحجر الممشوق زبداً من طهر العودة، وطفلةً تقتات على الرصاص المنفلت من عقال الذئب، ورضيعاً يرضع من علقم الوحشية، ورجلاً في السبعين من عمره أدرك أنّ الجوع لم يستطع قطّ أن يغتاله أمام طوابير الإغاثة في سروج، لكن ما قتلَه ضعفُ حيلتِه وهو يطارد الوهن بعد أن نفدَتِ البراعم من اللون الأسود الداعشيّ التركيّ الحاقد على الإنسانيّة.
إنّه لونٌ أسودُ اكتسى ربيع كوباني الذي لم يشابهه ربيعٌ بعد أن عادت البسمة إلى شفاه الناس، بعد أن عادوا إلى موطنهم، ليدّعي ذاك اللون الأسود الأحمر القاتم زوراً وبهتاناً أنّه الوطن، أنّه الجبروت، أنّه يفكر عنك بحرّية اللحى والتابوت؛ بحرّيّة القرآن الذي أوّله السلطان القميء بلونه القميء، ليجترّ ذئبية القرون الوسطى المطعّمة بغيلان الرأس والمال.
لم تعِ العروس التي زُفّت قبل أيّامٍ أنّ حلبجة بانتظارها، أنّ الرصاص سيلغي تاريخ تأملها إلى سماء الرعونة والسلطة والجسد، لم تدرك تلك الطالبة التي تحمّلت أزيز الرصاص في حلَب، وهي تقدّم امتحاناتها أنّ الرصاصة الطائشة قدرُ الكردي أينما حَلّ، أنّ مهاباد تحضّر مأدبتها وطيش مواعيدها دون أيّ موعد كان، لتسردَ لها حكاية الأنفال من جديد، ولم تعِ تلك الممرّضة وأختَ الشهيد أنّ الرصاصة الغادرة ستكون جزاءَ صنيعها في مداواة الذئب، حيث كان الكلّ متطلّعاً نحو السماء إلّا ذاك القابع في فندق الجحيم؛ يخطّط للذئب متى تحين ساعة الندم؟ ليصولوا في كوباني كما الجرَاد الذي ينتظر الخضرة ليتسلّقوا القيعان.
تلك المرأة السبعينيّة التي لم يقتلها بحْثُ الزوج عن لقمة وطنٍ، بل اغتالتها يدُ السوَاد المطليّ بالقار، وذاك الهارب من بطش الثعالب في الرقة ليلتقي به وهو يحتسي الموت بشراهة الباحث عن الحياة، وتلك العجوز التي تجاوز عمرها المئة وقد كانت شاهدة على اغتيال أسرة وذرّيّة بأكملها، وتصبح من عمرها في العاشرة أمّاً، ومن في الحادية عشرة أباً، ليصبح ذاك المنزل الذي كان يضجّ بالأقارب إلى بوارٍ قفْرٍ، إلى أرض جرداء لا حياة فيها.
تلك بعض فصول المأساة، فأكثر من مئتين وسبعين قصّة تستطيع أن تلخّص تاريخ المجازر التي انهالت على الكرد، ليستطيع كلّ واحد أن يسرد تاريخ القدر الكرديّ بين فكّي الإبادة أو الصهر في دول ليست له وليس لها، ليبكي ذاك المقاتل ولأوّل مرّة بعد أن خاض كلّ المعارك في كوباني ضدّ داعش ويقول: إنّ هذا أسوأ مشهد رأيته في حياتي. فهذا جزءٌ من فصول الملحمة التي تقول: سنظلّ نناضل ونناضل، سنظلّ كرداً، إنسانيّين، سنظلّ نثبت للعالم أنّنا موجودون، ولسنا شيئاً كما تريدون أن نكون.
ما لم تستطع أن تفهمه تلك القوى المعادية للوجود الكرديّ أنّ الكرد قد استطاعوا أن يمأسسوا وجودهم، وعلى الرغم أنّ بعضاً ممّن أراد العودة إلى كوباني لكنّه لم يعد من هول هذا الرعب، وعلى الرغم أنّ بعض العائلات قد هاجرت، وتجدّدت نذور الغربة، لكن عاد الكثيرون بعد المجزرة، وصار استذكار أرواح شهداء كوباني في هذا اليوم الأسود، يذكّرنا بشنكال، وحلبجة، وديرسم… وقائمة المجازر التي تطول وتطول.
إنّ الرماد أينعَ وخرجت من تحته موارد تزأر، لتقول للذي ترك أرض الميعاد وابتعد عن الهوية، لتقول للسلطان الذي مازال يبني عرشه بالدماء، لتقول لجمهور المصفّقين من المجرمين الذين يشربون الدم بالمال: لن تفلحوا أيّها المجرمون، يا شاربي الدماء، وستسقطون كثيراً، وكوباني ستظلّ صامدة، وستظلّ شعلة روج آفا، لم تسقط كوباني ولمّا تسقط ولن تسقط أبداً.[1]