(الرابطة) (المدنية) (المستقلة)؛ طبخة بحص على جرة غاز تركية
سيهانوك ديبو
ملخص تنفيذي
إذا ما أقريّنا بأن الظواهر المجتمعية الحديثة التي نشهدها ونعيشها –أياً تكن- لها من الأسباب والوقائع والأدوات التي تنتجها وتظهرها بشكل علنيٍ أمْ مغيّب. فإن ظاهرة الهزيمة التي تُحَقِق بدورها واقعة ملموسة للانكسار أو الهزيمة، قد تكون فشلاً عسكرياً متكرراً أمام عدوٍّ ثابت، وقد تكون استمراء واقعة القيد الزمكاني أمام فشل النهوض، وقد تكون هزيمة فرد أو فردية أمام فشل النجاح سواء في منحى معين من الحياة العملية أو في جميع المناحي.
قد نصدق القول ونصيب حينما نعلن هزيمة الشرق والأوسط والمتوسط منه على وجه الخصوص. ويتعدى ذلك لنصل إلى النتيجة شبه الكلية في حالة الانهزامية عن الأزمة السورية المسؤول عنها الفكر الانهزامي الذي أدى إليها بل وخلقها في النحو المنكسر الذي يبدو عليه الآن. والأوضاع المستعصية الظاهرة والتي تعلن حالة الشرق هي نتيجة هزائم متعددة مرّ بها. إنها الحقيقة التي تحاول بعض الأدوات أن تتناولها بمزيد من الاستهلال والتسويف. تركيا مثلاً خسرت كل إمبراطورتيها ولم تزل تتحدث عن معارك التحرير وعن الانتصارات التي قام بها مصطفى كمال وغيره من غير الأتراك بمحصلة تركيا الحديثة؛ فيما بعدها؛ سمّت غزوها لقبرص بالانتصار وسمّت دحلها لمدينة ديرسم وانتفاض الشيخ رضا بالانتصار وتسمي اليوم عدائها وقصفها للمدن الكردية في تركيا بالانتصار على (الإرهاب). النتائج نفسها تظهر في الوضع السوري حينما خرجت الإذاعات المتحكمة بها من قبل أنظمة الاستبداد أنْ صوّرت هزيمة 1967 بالنصر لأنه (لولا الهزيمة لما عرفنا حقيقة أنفسنا)، كما هو الحال أيضاً في حرب أكتوبر 1973 بأنه (النصر) علماً ووفق ما نعيشه ووفق من كان موجوداً حينها وفيه بأن سوريا خسرت الجولان كله وعشرات القرى؛ وخرجت الإذاعات بأننا انتصرنا لأننا (حاربنا بدل من أن لم نحارب). والأمر نفسه أيضاً كما حال الأزمة السورية التي تدخل عامها السادس ولا زالت الإذاعات (نفسها) وتخرج بقيح كريه وتعلن بأنهم؛ قسمٌ؛ انتصر على الإرهاب، وقسمٌ انتصر على النظام الاستبدادي، وكلا القسمين (المنتصرين) يتم سحبهما من ياقاتهم دائرين حول طاولة سمّت زوراً بطاولة المفاوضات، والأنسب أن تكون طاولة نعش سوريا الأخير.
الهزيمة السورية تتعدى جانبها العسكري إلى هزيمة جوانبها الثقافية والاقتصادية والتنموية؛ وعلى الرغم بأن سوريا –قبل الأزمة- من الدول النامية في أغلب مجالاتها؛ لتعلن إذاعات الأنظمة الاستبدادية السورية بأنها من حققت النصر والتقدم في هذه المجالات.
حين الحديث عن أسباب الهزيمة؛ نجدها؛ متزاحمة وكثيرة لكن أبرزها: المتعلقة بحالة الفردية وبمسألة الشخصية وبالوضع الثقافي والمعرفي والاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي الداخلي؛ كحالات ومسائل وأوضاع مسؤولاً عنها طبيعة النظام السياسي في سوريا إضافة إلى العوامل الخارجية والمتعلقة بدورها بالصراعات الإقليمية بين أنظمة الشرق الأوسط من ناحية ومن ناحية أخرى الصراع الدولي العميق القديم والجديد واصرارهم بأنْ يكون الشرق الأوسط وأن تكون سوريا من محطات التصارع وأن تكون على الدوام مهزومة.
فلسفة الهزيمة السورية وأسبابها
من (ابداعات) الأنظمة الاستبدادية التي استبدت بالشعب السوري منذ تأسيس سوريا الحديثة وصولاً إلى أزمتها الحالية، كما أنه من ابداعات المعارضة الاستبدادية التي ظهرت بشكل واضح في الأزمة الحالية، بأنهم (جميعاً) يصورون عكس الحقيقة، وفي الحقيقة منهزمون أمام من هو خارج سوريا ويهزمون في الوقت نفسه الشعوب السورية. ويصوران هذه الهزائم بأنها انتصارات. وهذا حتى يتم لا بد من فلسفة خاصة لها وأسباب تصنعها وتؤدي إليها في جميع اللحظات:
– الحجز المجتمعي: المجتمع السوري أريدت له الأنظمة الاستبدادية أن يكون مجتمعاً محجوزاً، وحالات الحجز تنقسم إلى شبكة معقدة عامودية وأفقية. سوريا اليوم تتألف من مجموعة من الشعوب والأقليات العربية والكردية ومنها السريانية والآشورية والتركمانية والأرمنية والشركسية والأرمنية؛ هذه الشعوب والأقليات تجعل من اللوحة الحضارية السورية بشكل عمودي إلى حالة حجز مرضية على يد طبائع الأنظمة الاستبدادية المركزية وجعلت كل واحدة محجوزة على نفسها وفي حالة عدم ثقة كبيرة بالآخر. كما أن سوريا وبحكم تنوعها الديني (مسلمين ومسيحيين وإيزيديين) وتنوعها الطائفي أكثر من عشرة طائفة؛ جعلت من سوريا منقسمة هذه المرة بشكل أفقي بفعل –مرة أخرى- طبائع الأنظمة الاستبدادية علاوة على ممارسات المعارضة الاستبدادية التي دأبت ولا تزال وبدعم إقليمي ودولي بأن يبدو الحراك الثوري السوري والانتفاض الشعبي ومطالب التغيير بأنها حرب طائفية وحرب مذهبية. وهذا ما كرس مرة أخرى الحجز المجتمعي في سوريا. وهذا ما تتعكز عليه طبائع الاستبداد وبمختلف مصادرها بأن وجودها حماية للاعتداء الكبير الذي يمارسه المختلف، وفي الحقيقة الكلية لم تسأل هذه الأطراف ولم تكلف نفسها عناء ذلك: لماذا هي مختلفة بالأساس ولماذا كل هذا الحجز؟
– الشخصية التكرارية: من أجل صون الحالة النمطية يلزم رؤى ونظريات وحتى فلسفات التنميط، والحالات النمطية في سوريا الفسيفساء يتم تكريسها عبر فلسفة الهزيمة، والذي يستلزم بحالة قصوى إيجاد أو وجود الشخصية التكرارية أو الشخصية التي تكرر نفسها، وحين ترى مخارج الحل تصورّه -أو يتم تصوير ذلك- بأنه العداء الكامل والتهديد الكامل لوجوده، مثال ذلك الحالة الرفضية المتوقعة للكم الكبير الذي يمانع لحل و خطوة الفيدرالية الديمقراطية لروج آفا- شمال سوريا والنعت الفوري له بأنه التقسيم. الشخصية التكرارية في طبائع فلسفة الهزيمة التي مارستها الأنظمة الاستبدادية في حالة إظهار الرفض لخرائط سايكس بيكو التي (قسمّت) الوطن العربي نراهم اليوم أشد المدافعين عنها. ولأن الوعي الخلّاق أشد ما يتم الحرب عليه من قبل هذه الأنظمة وتسييج وعي كاذب مهلهل تصنعه الميكيافيللية والتضييق على الأخلاق والسياسة الأخلاقية؛ فإن الشخصية التكرارية تتحرك وفق دائرة لا يمكن الخروج منها. كما أن الأزمة السورية أظهرت من خلال أزمتها مدى ثأرية المعارضة وانتقاماتها والحماقات التي ترتكبها بشقيها الشعبوي والنخبوي التي فاقت في الكثير من الآحايين النظام الاستبدادي نفسه. وكلاهما في الوقت نفسه مجبولين بفلسفة الهزيمة المترددة بشخصياتها التكرارية.
– السياسوية العلموية الريعية: صناع فلسفة الهزيمة أي الأنظمة الاستبدادية والمريدين؛ علاوة أنهم كواظمَ ونويّات متحجرة ضد أية عملية استنبات سياسي في سوريا، وأنهم غدو بمثابة حفر مُعِّدة لأي مشروع نهضة علمي من خلال تحويلهم المجتمع إلى حالة مقعرة، وأنهم نواقل الاقتصاد الريعي والثقافة الريعية وتحويل المجتمع السوري إلى مجتمع اجترار استهلاكي، فقد حولت فلسفة الهزيمة ولعشرات السنين وجعلت المجتمع السوري على استعصاء في تقبل السياسة الأخلاقية والعلمية النهضوية والتنمية المجتمعية. الحراك الثوري السوري بمطلب التغيير كان يسأل ذلك؛ إحساس كبير بما يحتاجه؛ مسؤولية تاريخية فيما يريده: ديمقراطية القبول من خلال النظام اللامركزي في صيغة الاتحادية التي تضمن عدم أي رجوع لأي نظام مركزي مهيمن، المجتمع السوري الواحد ذو الثقافات المتعددة، الاستقرار والأمن والتنمية. وهذه بالمجمل عناصر الحرية ومرتكزاتها، والشعب السوري حينما خرج من أجل التغيير يعني من المؤكد وبفطرية كاملة أنه يطلب الحرية غير الموجودة له؛ وليس التهريج الذي يجري في جنيف حتى الآن. ومن اللهو في التراجيديا السورية أن يكون الذين يقصفون الشعب السوري بالأسلحة المحظورة هم المفاوضون؛ بما فيهم كبير المفاوضين، فيما سميت بهتاناً بالمعارضة.
مخرج- حل- نتيجة
في مجلده الثالث يقول الفيلسوف أوجلان: (… يمكن تعريف العسكرتارية بالنزعة الاحتكارية المُطَوَّرةِ بالنحو الأكثر عداءً للمجتمع. وبالمقدور الافتراض أنها تطورت حصيلة ميول “الرجل القوي الماكر” وعقله التحليلي المتأتي من تقاليد الصيد، ومساعيه لتأسيس أولِ سلطةٍ بهدف بسطِ القمع والاستغلال على الطبيعة الاجتماعية. وأكثر مَن تكفيه قدرتُه على ذلك، يَعمَلُ على بسطِ نفوذه أساساً على المجموعتَين الأساسيتَين: على مجموعةِ الصيد التي بجانبه، وعلى المرأة التي يَجهَد لِحَبسِها في المنزل. وبالمستطاع الملاحَظة أن العناصر الشامانية (الراهب المُصَغَّر) والجيرونتوقراطية (مجموعة الشيوخ) تُشارِك في المرحلة، كي تؤسِّسَ على الفور أول سلطةٍ هرميةٍ في العديد من المجتمعات وبشتى الأشكال). بمعنى أن السلطة الاستبدادية الذكورية النمطية؛ تتحول ونتيجة البحث عن مستلزمات السلطة إلى أرض خصبة لظهور فلسفة الهزيمة في الشرق الأوسط، والتي تنميها وتحرص على أن تكون على الدوام نازع الحاجتين؛ الخارجية المتمثلة بالحداثة الرأسمالية والداخلية المتمثلة بنواقلها ومجسمات الأنظمة في نُسَخ الاستبداد. وإذا كنّا ندرك حاجة الخارجية لمثل هذه الفلسفة؛ فإنه من المؤكد أن نعلم بأن حاجة مستعمليها الداخليين عبر العسكرتارية (الأنظمة لاستبدادية) ورهبانها الصغار (الشامانيين) ومجموعة شيوخ شق هذه الطرق، تشكل بمجملها زمرة الاستبداد، وهذه الزمرة تستخدم مطولاً ومعمقاً أدوات الهزيمة والتصوير بأنها الانتصار.
الهزيمة السورية هي أن تعيش سوريا في دائرة نمطية ونسخة نظام مكررة من الأخطاء المتكررة التي شاهدتها ومرت بها سوريا عبر سنوات تشكلها وتشكل أزماتها والأخيرة واحدة منها، وبالتالي إعادة تدوير نظام مركزيٍّ آخر. الهزيمة السورية لا تكمن في أزمتها الحالية ولا السابقات بل عدم المعرفة الدؤوبة والتعرف المسؤول على الأسباب التي خلقت الأزمة، وليست الوقعة أو السقطة السورية أو التعثر السوري الحالي هي الهزيمة؛ إنما هي مجرد القبول بمساهمة أو تخيّل أو تهيء يفضي إلى حالة استدامة الوقوع المستمر وتكرار التعثر. كما أن الهزيمة السورية لا يمكن ربطها بالتدمير والقتل والتهجير الذي حصل، الذاكرة التاريخية حبلى بالخسران وبأثمانه الباهظة لاستنشاق نسائم الحرية؛ بل؛ التقصد أن نجعلها تخسر مثنى وثلاث ورباع وما شاء المستبدين وصناع الهزيمة وبالطريقة نفسها ولنفس الخطايا التي تحاول الشخصيات التكرارية السورية- وما أكثرهم- أن تلوكها حينما يكون التسويف ديدنها، وحينما تغدو مسألة الانتقال الحقيقي بما هو نافع للجميع في حكم الغياب والزوال. كما أن الهزيمة وفلسفتها على المنحى الشخصي وهي أكبر الهزائم أن ينقضّ التردد والتأتأة والشك على الإيمان بالحرية وبالنصر التي يؤمن بها فرسان التغيير الأخيرة رغم القوة الهائلة للزنزانة وللجلاد، والهزيمة أن نفكر لحظة بأن أفكارنا يم[1]