الصراع بين الموت الجرابلسيّ والحياة المنبجيّة
حسين جاويش مثال المثقّف الثوريّ
عندما شاهدتُ الملف التلفزيونيّ الخاصّ عن وضع المدنيين في جرابلس واللقاءات مع الناس، وخاصّة النساء المنقّبات، في القناة التلفزيونيّة الفرنسيّة الناطقة بالعربيّة (فرانس 24) لاحظتُ كما لاحظ معظم المتابعين الفرق الواضح بين وضع المدنيين في جرابلس وبين وضعهم في منبج، فهوَ الفارق الشاسع والكبير بين الفكرَين؛ فكرِ الديمقراطيّة وفكرِ السلطة والدولة القوميّة، فكر الشوفينيّة وفكر التعايش المشترك، فكر اللون الواحد وفكر التعدّديّة الفكريّة.
هيهاتَ المقارنةُ بين اللون الأسود الذي بقي على حاله في جرابلس، وألوان الحياة في منبج، إنّه صراع بين الموت الجرابلسيّ والحياة المنبجيّة، فمازالت النساء الجرابلسيات المنقّبات يرتدين النقاب خوفاً من عودة داعش الذي يعرفْنه أكثر من غيرهنّ، فلم يخلعنَ نقابهنّ في جرابلس كما فعلت قريناتُهنّ في منبج، لأنّهنّ يدركنَ السوَادَ أكثر من غيرهنّ، فلم تطغَ حيلُ الإعلام المزيّف عليهنّ، ولم تستطعْ أن تطمئنهنّ أنّ هذا الاحتلالَ المزيفَ تحريرٌ.
لم يستطع الإعلام أن يصوّر امرأةً تخلع عباءتها في جرابلس كما فعلت النساء المنبجيّات، ولم تنضم امرأة واحدة إلى العساكر الذكور الذين يحرسون الحاجز بين الذكر والأنثى، لم يستطع أن يسرد حقيقةً واحدةً عمّا كان يجري، فلأنّ الحاضر والماضي واحدٌ لا فرق، وبما أنّ الجرابلسيّون والمنبجّون يمتلكون نفس الإرث الثقافيّ والجغرافيّ والعشائريّ، بل إنّ جرابلس امتداد لمنبج وتابعةٌ لها، فهل من المعقول ألا نرى جرابلسيّاً يخرج ويندّد بممارسات #داعش# ويسرد لنا قصة حدثت معه؟ كما حصل ذلك في منبج، ذلك لأنّه يدرك تمام الإدراك أنّ داعش لم يخرج، وأنّ ما يجري مسرحيةٌ هزليّةٌ.
إنّ الفرق شاسعٌ جدّاً بين المجلس المدنيّ في منبج والمجلس الذي صنعه العثمانيّ الجديد بهيمنة عملائه، لذلك حصلت الخلافات بعد أيّام معدودات بين المكوّنات في جرابلس، لكنّ الأفواه قد كُمّتْ بفضل خبرات الدكتاتوريّة العثمانيّة، وأهالي جرابلس يسمعون من أقاربهم بطريقة أو أخرى كيف يعيش المنبجيّون حياتهم الحرّة؟ فخطّ الساجور لم يمنع من طيران الأفكار والحقيقة عبره.
لن أسرد قصّة العلم التركيّ وشعارات الذئاب الرماديّة التي ملأت ساحات جرابلس السوداء، إنّما سأسرد حكاية التحرّر المنبجيّ وحكاية الاحتلال الجرابلسيّ، قصّة فكر الدولة القوميّة التي تعطي نتائجها في جرابلس، وملحمة الأمّة الديمقراطيّة في منبج، إنّ الصورة تشرح معاني القناع الأسود الداعشيّ العثمانيّ الدولتيّ، ومعاني الألوان الزاهيّة التي امتلأت الشوارع المنبجيّة بها، وأضحتْ تُعطي دروساً عن روح الأمّة الديمقراطيّة ومعنى أن يعيش المجتمع متخلّصاً من علائق الدولة القوميّة، فالصراع بين منبج وجرابلس هو صراع فكريّ، سيخسره السلطان العثمانيّ الجديد بالضرورة.
يوماً بعد يوم تضطّح ملامح الصورة، فعلى الرغم من التشويه الإعلاميّ عبر الترسانة الإعلاميّة التركيّة لما يجري على الواقع في روجآفا، وقلبِ الحقائق وتزيفها وطمسها، لكنّها تخسر في نهاية المطاف، فلقد كان المستبدون يربحون معركة طمس الحقيقة عبر الإبادة والصهر، لكن روجآفا تنتصرُ عسكريّاً وفكريّاً وتاريخيّاً، وعندما نقول: (روجآفا) لا نقصد الجغرافية فحسب، فروجآفا تخطّت حدود الجغرافيا، وصارت الفكرَ؛ فكرَ التعايش المشترك وكشف الحقيقة.[1]